في مختلف دول العالم، اعتمدت أنظمة الحكم الذاتي كخيار سياسي وقانوني لتدبير شؤون مناطق تحت سيادتها، بهدف حماية التنوع الثقافي والخصوصية المجالية دون المسّ بالوحدة الداخلية للدولة. وغالباً ما يُنظر إليه كحل لمشاكل ثقافية ولغوية وحتى ديمقراطية، ويُعتبر من أكثر الصيغ السياسية مرونة لإدارة التنوّع داخل الدول. لكن في المغرب، تختلف المعادلة، حيث قدمت المملكة مقترح الحكم الذاتي كجواب على نزاع استمر أكثر من خمسة عقود حول ملف الصحراء، مما يجعله موجهًا إلى الخارج كما الداخل، رغم تأثيره المباشر المتوقع على الحياة السياسية الداخلية. ومن هنا، لا يمكن التعامل مع المقترح المغربي دون الرجوع إلى أبرز التجارب الدولية التي جمعت بين حماية الحقوق الثقافية والسياسية للمجموعات والأقاليم مع الحفاظ على وحدة الدول. ففي إسبانيا، شكل دستور 1978 لحظة تأسيس نموذج متقدم للحكم الذاتي، منح الأقاليم كتالونيا والباسك صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة وأقرّ هوية لغوية وثقافية متميزة، إلا أن بعض الحركات الجهوية تحولت إلى مطالب انفصالية، ما كشف حدود التوازن بين الاستقلال المحلي والانتماء الوطني. وفي إيطاليا، أقر الدستور خمس مناطق بحكم ذاتي لأسباب لغوية أو جغرافية، مثل صقلية وسردينيا وترينتو، حيث يمارس السكان سلطات واسعة في الاقتصاد والثقافة والضرائب، مع استمرار السيادة الموحدة للدولة، ما ساعد على امتصاص النزعات الانفصالية عبر الاعتراف القانوني بالخصوصيات المحلية وتوزيع الثروة بشكل متوازن. في كندا، برز نموذج الحكم الذاتي في الكيبيك والأقاليم الشمالية، خصوصاً إقليم نونافوت ذي الأغلبية من السكان الأصليين، عبر تفاوض بين الحكومة الفدرالية والمجتمعات المحلية، مانحاً الأخيرة سلطات تشريعية وإدارية معتبرة ضمن الدولة الكندية، ما جعله من أكثر النماذج تطوراً في التوفيق بين التعدد الثقافي ووحدة الدولة. أما النموذج البريطاني في اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، فقد اعتمد نظاماً متدرجاً من الحكم الذاتي التشريعي مع استمرار سيطرة البرلمان البريطاني على القضايا السيادية، ما يخلق توتراً أحياناً مع صعود النزعات القومية. وفي آسيا، طبّقت الصين صيغة "المنطقة الإدارية الخاصة" في هونغ كونغ وماكاو، مانحة استقلالاً اقتصادياً وتشريعياً واسعاً ضمن مبدأ "دولة واحدة ونظامان"، إلا أن التدخلات المركزية قلصت هذا الهامش، لتصبح التجربة مثالاً على حكم ذاتي محدود أكثر من كونه فعلاً سياسياً متكافئاً. على ضوء هذه التجارب، يظهر مقترح الحكم الذاتي المغربي للأقاليم الجنوبية، المقدم إلى الأممالمتحدة سنة 2007، كصيغة متوازنة تجمع بين احترام السيادة الوطنية وتمكين التدبير المحلي الواسع. فهو لا يقتصر على إصلاح ترابي داخلي، بل يمثل مبادرة سيادية لتسوية نزاع سياسي طويل الأمد، عبر تمكين سكان الصحراء من إدارة شؤونهم المحلية ضمن مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية، مع احتفاظ الدولة بالاختصاصات السيادية في الدفاع والسياسة الخارجية والعملة. ويعتمد المقترح نظام تمويل ذاتي من الجبايات المحلية والمساهمات الوطنية، إلى جانب صندوق تضامن لضمان العدالة الترابية، ما يجعله قريباً من النماذج الإيطالية والإسبانية المتقدمة في اللامركزية المالية. في هذا السياق، يرى عبد العالي بنلياس، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن المغرب حقق مكسباً دبلوماسياً حاسماً في معركة تثبيت سيادته على أقاليمه الجنوبية من خلال قرار مجلس الأمن الأخير، الذي اعتبر أن مبادرة الحكم الذاتي هي الإطار الرسمي للمفاوضات بين المغرب والدول الأطراف في هذا النزاع، من أجل وضع حد له والطي النهائي لهذا الملف الذي عمر خمسين سنة. وأضاف بنلياس أن المبادرة التي حددها مجلس الأمن تعتبر الإطار المرجعي الذي تبدأ منه وتنتهي إليه المفاوضات، وأن المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة ينتظر أن يقدم المغرب ورقة تفصيلية لمبادرة الحكم الذاتي التي قدمها سنة 2007. ويشير إلى أن الحكم الذاتي هو شكل من أشكال تقرير المصير وإدارة إقليم جغرافي ذاتياً من طرف سكانه، بما يشمل منح سلطات واسعة ذات طبيعة تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة عن السلطات الثلاث الوطنية، لكن دائماً في ظل السيادة المغربية، مع وجود مستويين للسلطة: السلطة المركزية التي تمارس سيادتها على كافة أقاليم الدولة، ومستوى سلطات الحكم الذاتي التي تدير الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الأقاليم الجنوبية، في إطار الدولة الموحدة وليس الفيدرالية. وأكد بنلياس أن حرص الملك على التشاور مع الأحزاب السياسية حول المبادرة يعكس أهمية القضايا المصيرية الكبرى المرتبطة بالوحدة الترابية واتخاذ قرارات تهم المغرب في حاضره ومستقبله وأجياله المتعاقبة، مع تحمل المسؤولية المشتركة بين قائد الأمة ومختلف مكونات الشعب المغربي. في 31 أكتوبر 2025، صوّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح قرار يدعم رسمياً مقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء باعتباره "الحلّ الأكثر مصداقية" للنزاع، مع تجديد مهمة "المينورسو" لسنة إضافية. مباشرة بعد هذا القرار، ترأس مستشارو جلالة الملك اجتماعاً يوم 10 نوفمبر 2025 حضره رؤساء الأحزاب الممثّلة في البرلمان، لإطلاق مشاورات وطنية حول تحديث وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، هذه الخطوة تعبّر عن انفتاح نظام الحكم في المغرب على نخبه السياسية – من أحزاب ومؤسسات – في سبيل بلورة تصور شامل للحكم الذاتي، لا يقتصر على الجانب الخارجي أو الدبلوماسي بل يمسّ الحياة السياسية الداخلية. ومن المتوقع أن يسهم تنزيل هذا التصور في إعادة تشكيل التوازنات الحزبية ويمنح الأحزاب دوراً مباشراً في صياغة الإصلاح، ما يعزز شرعية الدولة في الأقاليم المعنيّة ويقوي الفعل السياسي الجهوي والوطني معاً. لقد أصبح المغرب تحت مجهر العالم، والجميع ينتظر تفاصيل مقترح الحكم الذاتي، ومن جهة أخرى المستجدات السياسية الداخلية، والتحديات المرتبطة بالانتخابات ونزاهتها، وكذلك الوضع الحقوقي وحلّ الملفات العالقة المرتبطة بحرية التعبير ونشطاء الحركات الاجتماعية المعتقلين. وسط هذه المعطيات، تبرز مطالب بانفراج يسمح بإعطاء زخم للمقترح، مما يظهر جدية وإرادة السلطة المغربية في الاتجاه نحو دولة متعددة جهوياً ومجالياً وثقافياً. ومن الناحية السياسية، يعكس المقترح المغربي وعياً بتعقيد معادلة الحكم الذاتي دولياً، إذ يهدف إلى بناء نموذج تنموي ديمقراطي في الصحراء بدل مجرد تسوية مؤقتة للنزاع. ويختلف عن التجارب الأوروبية بكونه مبادرة وطنية استباقية، وليس نتيجة ضغط انفصالي داخلي. لذلك، اعتبرته الأممالمتحدة وعدد من القوى الدولية مقترحاً "جدياً وذا مصداقية"، يوازن بين الواقعية السياسية ومتطلبات الشرعية الدولية، بما يحترم وحدة الدولة ويعترف بحقوق السكان في تدبير شؤونهم المحلية.