يوم بيوم على ضفاف ضمير حيّ نور الدين مفتاح نشر في 2 يونيو 2023 الساعة 13 و 14 دقيقة في ذلك اليوم الذي فتح فيه هاتفه، وقرأ في دراسة مغربية أن أغلب المغاربة لا يثقون في بعضهم البعض، ولا يثقون ربما حتى في أفراد عائلاتهم، انتابه إحساس متناقض يجمع بين الارتياح المفجع والحزن الثقيل، ارتياح من يطلق زفرة أنها إذا عمت هانت، وحزن الفرد الاجتماعي بطبعه الذي سيفرض عليه واقع عدم الثقة أن يصبح منعزلا. صحيح، للعزلة محاسن وإشراقات لمن اختارها ليأنس بنفسه ويجلس إلى فناجين التأمل وحديث الروح، ولكن أن تصبح العزلة قدرا، وأن تجد الواحد وسط الجماهير وهو وحيد، وأن تتجاذب مع الناس أطراف الحديث وهذه الأطراف ملطخة بالشك، فهذا هو العذاب. هذا مجتمع برّاق صنع مصيدة خرافية، الغالبية داخلها معذبون، الكل مدان إلى أن تتم براءته، الكل مستباح، تستطيع في هنيهة، أن تجد نفسك مجرما أو نصابا أو مختلسا وأنت لا تدري، وعندما تتابع ما يدور في هذا الفضاء المشترك الذي يجمع الناس تحت راية واحدة، تكاد تجن، معارك طاحنة بعشرات الآلاف من الألسنة التي أصبحت تأخذ شكل سيوف من القرون الماضية، والنزيف كبير يملأ ساحة التواصل الاجتماعي بالدماء. نور الدين مفتاح [email protected]
كانت تلك واحدة من عشرات زياراته للعيادة، لقد غير الأطباء والتخصصات، وحاول أن ينصت بإمعان إلى جسده حتى يستطيع أن يصف للطبيب ما يحس به، ولكنه في كل مرة يفشل في إيجاد الكلمات المتطابقة مع هذا التعقيد الذي يغمره ويؤلمه ويؤرقه ويخرجه من دورة الحياة العادية. يعود من المختبر بعلامة كل شيء على ما يرام صحيا، وواقعيا يرمي جسده على أريكة أن لا شيء على ما يرام. كان مريضا بلا مرض، ومعافى بلا صحة. حيّر واحتار، وصارت الأيام هكذا عذابا يكبح توهج الروح، ويفرمل تذوق الحياة.
أصبح في يومه جامعا للتفاصيل الصغيرة، وفي ليله محللا تجنح به الأفكار حتى يصل إلى حدود الجنون. ظل منطويا كحامل لمسدس سر كاتم للصوت، كان لابد أن يجد قناة «ليترك ممرا للماء» كما يقول المغاربة، وكان لابد أن يشقها في صدره. نعم، هذا الصدر الذي ضاق بما لا يقال، فبدأ المحاولة عندما أمسك تلك الليلة برأس هذا الخيط الثمين.
لقد اشتعلت عيناه كطفل سعيد لفكرة التنفيس على ما في الصدر، وكأنه وضع اليد على خلاصه، وأظن أنه قرر أن يستحم في هذا الوقت المتأخر، ويتعطر، ويدخل إلى فراش أفكاره، لأن فراسته التي تضلله غالبا، ربما آن لها أن تسعفه اليوم، وعليه أن يستقبل نفسه بما يليق بها. إنها محاولة أخرى للإجهاز على هذا السخط المشروع والمدمر في آن الذي يركبه. لقد أصبح كتلة من التساؤلات، والاستفهامات، والتجاذبات. فهل تطاوعه يده الآن لينتزع كل هذا الكم الرهيب من المرارة التي أنتجتها وضاعة المحيط والخيانات. بؤس الواقع والتواطؤات، حتى أن جثث ضحايا الغدر واللؤم التي تحللت لا يمكن كتم رائحتها القاتلة ببضع رشات من هذا العطر الرشيق المسكين.
كانت، كما فهمتم، محاولة فاشلة أخرى هذه الليلة ليخرج صاحبنا من هذا الحجر الصحي الاختياري في زمن الجائحة القيمية الرهيبة التي تضرب في كل مكان. اكتشف المسكين أنه حتى عندما يذهب بحثا عن الدواء، فإنه يكون في بيت الداء. الناس تغيروا، أغلبيتهم تعاني، وكمشة لا تنام لأن الوقت غير كاف لها لنسج كل المؤامرات، وجمع كل الغنائم. هذا زمن غير الزمن، هذا استثناء غريب، فالأصل أن الاستثناء يؤكد القاعدة، ولكننا الآن أمام استثناء لا يؤكد إلا الاستثناء الذي يبدو أنه يبنى ليدوم.
في ذلك اليوم الذي فتح فيه هاتفه، وقرأ في دراسة مغربية أن أغلب المغاربة لا يثقون في بعضهم البعض، ولا يثقون ربما حتى في أفراد عائلاتهم، انتابه إحساس متناقض يجمع بين الارتياح المفجع والحزن الثقيل، ارتياح من يطلق زفرة أنها إذا عمت هانت، وحزن الفرد الاجتماعي بطبعه الذي سيفرض عليه واقع عدم الثقة أن يصبح منعزلا. صحيح، للعزلة محاسن وإشراقات لمن اختارها ليأنس بنفسه ويجلس إلى فناجين التأمل وحديث الروح، ولكن أن تصبح العزلة قدرا، وأن تجد الواحد وسط الجماهير وهو وحيد، وأن تتجاذب مع الناس أطراف الحديث وهذه الأطراف ملطخة بالشك، فهذا هو العذاب. هذا مجتمع برّاق صنع مصيدة خرافية، الغالبية داخلها معذبون، الكل مدان إلى أن تتم براءته، الكل مستباح، تستطيع في هنيهة، أن تجد نفسك مجرما أو نصابا أو مختلسا وأنت لا تدري، وعندما تتابع ما يدور في هذا الفضاء المشترك الذي يجمع الناس تحت راية واحدة، تكاد تجن، معارك طاحنة بعشرات الآلاف من الألسنة التي أصبحت تأخذ شكل سيوف من القرون الماضية، والنزيف كبير يملأ ساحة التواصل الاجتماعي بالدماء.
بعد يومين أو ثلاثة، وبعد أن وضع كامل ثقته في نفسه بجهد جهيد، قرر أن يطرق باب عيادة أخرى. جلس إلى رجل يكبره قليلا ولكن سحنته كانت نضرة، فبادره بسؤال لم يعرف كيف سبقه: هل يمكن أن أثق فيك دكتور؟! ابتسم الرجل حتى لانت وجنتاه، وقال: الثقة في الله! لقد أقسمنا قسم أبوقراط، ولكن، كم من طبيب يمكن أن تثق فيه؟ وكم من محام؟ وكم من صحافي؟ وكم من موظف؟ وكم من صاحب؟ وكم من صديق؟ وكم من زميل؟ وكم من رفيق؟… ومرت ساعة دون أن يشعرا وهما يشخصان هذا الجحيم الذي يعيشه مجتمع تتطور فيه الصناعات والمخططات والبنيات وتتساقط فيه القيم صرعى في معركة غير مسبوقة.
هذان نموذجان، رجلان يحاولان بكل ما أوتيا أن يكونا مستقيمين، يبحثان عن أيادٍ للتشبيك، ويبدآن بالاعتراف بأن الكمال لله والعمل من أجل الكمال للبشر، ولكن، مع من يمكن أن تبني الثقة إذا كان النفاق قد أصبح عملة رائجة، وكانت الوصولية قد أصبحت نظاما قائما، وكان الخداع قد أصبح فنّا له نجومه ومريدوه، وأصبحت الوضاعة وجاهة، وأصبح الدنيء مكرما، والكريم مهانا، وأصبح الكفء فقيرا إلى الله والأمي منعما، وأصبح الطيب مغفلا، والخبيث مطلوبا، وأصبح المؤدب ضعيفا والوقح مهابا، وأصبح الناجح لصا واللص ناجحا، وأصبحت الكلاب تسير والقافلة لا تبرح، وأصبح المثل المغربي العميق منحوتا على جبهة هذا الواقع المرير حيث تأخذ الأرجل مكان الرأس.
لاحظ صاحبنا في الطريق كم هي جميلة هذه اللغة العربية عندما فكر في أنه عاد يجر أذيال الخيبة! فمثل المصائب التي لا تأتي إلا مجتمعة، هذه الخيبة ليس لها ذيل واحد، بل أذيال. فيا ربّ كيف سيجرها حتى محجره الذي يبدو الآن بعيدا بعيدا؟ هذه الأذيال بالضبط هي التي تطوق الأعناق، وترمي زمرة ممن ما تزال ضمائرهم صاحية في مثل هذه المتاهة الوجدانية الرهيبة. الناس بطباعهم طيبون، ولكن، ما الذي يحدث حتى تحول ماض عهدناه ناقصا إلى مجال للحنين! هل هي هلوسات فرد منعزل أم هو واقع تكاد تصبح فيه حتى المنجزات بلا طعم وربما بلا أفق.
وصل مع أذياله إلى أريكته، وفتح النافذة والحسرة تأكله، فحتى عندما وجد العيادة المناسبة، والرجل البشوش، لم يجد الجواب. ثم لماذا كل هذا العناء في البحث عن البديهيات؟ فجأة وفي لحظة حسم مع الذات، قال إنه لابد أن يقبل الواقع وما يولده هذا الواقع في رجل مثله قد يغير المواقف ولكنه لن يغير المبادئ أبدا. ثم، ما الذي أدراه بأنه الوحيد وسط هذه الملايين من أخواته وإخوانه من يحمل هذا الجرح النازف؟ ألا يعرف هو نفسه أن عشرات المئات من اللامعين انزووا وابتعدوا وتركوا الجمل بما حمل؟! هل عرف حالهم وزوالهم وعشيهم وليلهم؟ فهو على الأقل وجد الطبيب البشوش مثله يغلي في داخله، ولكن كانت سحنته نضرة، أليس الألم صنوا للأمل؟ إذ يستحيل أن يكون هذا البلد العريق والمجيد بلا أفق، هناك فقط مرحلة تضمحل فيها سمعة الجامعة، وتتردى فيها السياسة، وتنهار أسهم الثقافة والإعلام، وتسطو فيها التفاهة، ويفتي فيها الجاهل، وتكبر الفوارق، وتصبح القدوة عملة نادرة، ويتحالف رموز الفساد ويندسون في بعض المؤسسات، ويؤدي فيها المجتمع الثمن الباهظ!؟
نام، وفي الصباح أحس أن أفكار ليلة البارحة قد هزمت أرقه المقيم، بل أحس أنه تحرر من سجن ثقيل كان قد صنع قضبانه بأفكاره. نعم، إن كل شيء في هذا الواقع مرّ، ولكن فاكهة الأمل أقوى من مرارة اليأس، لذلك، عندما خرج اليوم لم يجد أي ذيل ليجره، ولكن إرادة ليدفعها، وذاب وسط الناس، فالجميع يبحثون عن الدواء ولابد للجميع من المساهمة في قتل الداء بدحر تجار المآسي ونصابي الأخلاق والعابثين بالأمن القيمي للمغاربة.