على خلفية وفاة أستاذة اللغة الفرنسية، التي كانت تدرس بأحد معاهد التكوين المهني بمدينة أرفود، متأثرة بجروح بليغة أصيبت بها إثر اعتداء جسدي خطير تعرضت له على يد أحد طلبتها، البالغ من العمر 21 سنة، في الشارع العام باستخدام أداة حادة، تصاعد الجدل بخصوص أسباب تنامي ظاهرة العنف في المؤسسات التعليمية، وسبل الحد من تزايد هذه الآفة الخطيرة التي أصبحت تقض مضجع الأسرة التربوية. في هذا الحوار، يضع عصام الرجواني أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، عضو فريق البحث حول القيم المجتمعية والتحولات السياسية بمختبر الإنسان والمجتمع والقيم، "استفحال العنف في الوسط المدرسي" تحت المشرحة، ليوضح أسباب ودلالات تنامي هذه الظاهرة وسبل الحد من نتائجها الكارثية على المنظومة التربوية. وفي ما يلي نص الحوار كاملا:
1- في رأيكم، ما أسباب تنامي ظاهرة الاعتداء على الأساتذة؟
تعتبر ظاهرة العنف بشكل عام والعنف المدرسي على وجه الخصوص من القضايا المعقدة جدا والتي لا يمكن تفسيرها أو فهمها باختزالها في بعد واحد أو بإلقاء اللوم على الأسرة أو المدرسة أو الدولة، وذلك بالنظر إلى التغيرات العميقة والجارفة التي مست القيم والبنيات والعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع من جهة، بالإضافة إلى أثر السياقات السياسية والاقتصادية والمؤسساتية في إنتاج الظاهرة من جهة ثانية.
فالتحولات السوسيولوجية الكبرى التي عرفها المجتمع المغربي وخاصة تلك التي مست مؤسسة الأسرة بشكل أساسي والتي أثرت على دورها التربوي مما أفرز لنا أجيالا من المتمردين على أي شكل من أشكال السلطة بما فيها سلطة المدرس، فتراجع الدور التنشئوي للأسرة صار يطرح اليوم وبإلحاح مشكلة البديل القيمي خاصة في سياق عولمة العنف وثقافة العنف التي تروج لها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والتي تجد الأرضية خصبة مع الهشاشة النفسية والاجتماعية للتلاميذ سواء تعلق الأمر بتفشي البطالة أو انعدام الثقة في المستقبل أو هشاشة الأفق الاجتماعي وهو الأمر الذي يسهل شروط تحول الإحباط النفسي والاجتماعي والاقتصادي إلى ممارسة وفعل عدواني.
إلى جانب ذلك لا ننسى التراجع المخيف في الأدوار التربوية للمدرسة بوصفها من بين أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وانهيار النموذج التقليدي لهذه المؤسسة التي كانت تقوم على ثلاثة أبعاد متكاملة، الوظيفة التعليمية من خلال نقل المعارف، والوظيفة الإدماجية من خلال ترسيخ القيم وتعزيز الانتماء، ثم البعد المرتبط بالشرعية والعدالة من خلال تحقيقها لمبدأ تكافؤ الفرص، فتراجع هذا النموذج جعل من المدرسة هيكلا بلا روح وغير قادرة على أداء وظائفها الأخلاقية والاجتماعية حيث يسيطر اليوم نموذج يعزز المضمون التقني المرتبط بالمعدلات والأداء والنجاح، وهو ما أدى في المحصلة إلى تفكك وظيفة المدرسة بوصفها مؤسسة إدماجية ومن تم تآكل المعنى الرمزي للانضباط والاحترام، بمعنى أن المؤسسة التي نعول عليها لكي تقلص الفوارق صارت تعمقها وما صرنا نشهده من عنف متصاعد بشكل مخيف ضد الأستاذ هو عنف ضد المنظومة برمتها والتي فشلت في احتضان التلميذ، ويعتبر الأستاذ ممثل هذه المنظومة الأكثر قربا وتماسا مع هذه الفئة.
وهو ما يجعلنا أمام تحدي نقل الخطاب حول مدرسة الإنصاف كما جاءت به رؤية 2030 إلى مستوى إستراتيجي يستثمر في المدرسة اليوم من أجل مستقبل المغرب الذي نريد.
2- هل فقدت المدرسة هيبتها؟ وهل هناك خلل في علاقة التلميذ بالأستاذ؟ نعم صحيح، وفقدان الهيبة هنا ليس فقط إزاء المدرسة بوصفها مؤسسة، وإنما بوصفها مصدرا للشرعية الاجتماعية والارتقاء الاجتماعي، حيث نشهد اليوم تقهقرا مخيفا في المكانة الرمزية لهذه المؤسسة الحيوية، والخلل الذي يطبع علاقة التلميذ بالأستاذ هو أحد أعراض أزمة أعمق وأكبر تصل جذورها إلى علة وجود هذه المؤسسة برمتها، وبشكل عام يمكن تفكيك هذا الخلل من خلال استحضار مستويين اثنين، المستوى الأول مرتبط بالبعد الرمزي، حيث نشهد اليوم تراجع التقدير المجتمعي لمكانة الأستاذ، ثم المستوى الوظيفي حيث تحول التعليم من رسالة إلى محض وظيفة تقنية نزع عن علاقة الأستاذ والتلميذ كل مضمون تربوي وقيمي.
3- في نظركم، ما هي الحلول المطلوبة للحد من ظاهرة العنف بالفضاء المدرسي؟
الحلول في تقديري رهينة بالتشخيص الجيد والصائب لجذور الظاهرة، وهنا أستحضر المستوى السياسي من خلال الإشارة إلى مسؤولية الدولة بهذا الخصوص ومساءلة السياسات العمومية في هذا المجال، ففشل الإصلاحات المتعاقبة في قطاع التعليم، وعجزها عن بناء رؤية شاملة ومندمجة لمدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، ساهم في إضعاف مكانة المدرسة وفقدانها شيئا فشيئا لدورها التربوي كمؤسسة منتجة للقيم.
إلى جانب سيطرة النزعة الكمية والتقنية في مقاربة أزمة التعليم في بلادنا من خلال سيادة مفاهيم من قبيل نسبة التمدرس وتعميم التعليم ونسب النجاح والذي كان على حساب الجودة والقيم وجعل من المدرسة فضاء تقنيا لنقل المعرفة وليس لبناء الإنسان والمواطن.
المستوى الثاني يرتبط بالبعد الاقتصادي حيث يمكن تفسير العنف من خلال ارتفاع نسب الفقر والهشاشة في أوساط التلاميذ، وانسداد أفق الترقي الاجتماعي بما يعنيه ذلك من فقدان دافع التعلم، بالإضافة إلى هيمنة اقتصاد الريع والفساد، وهو الأمر الذي يجعل من قيم النظام المدرسي في مهب الريح ما دام النجاح الاجتماعي لم يعد يتطلب الاجتهاد والكفاءة والاستحقاق.
المستوى الثالث مرتبط بالبعد المؤسساتي حيث صارت المدرسة نفسها منتجة للأزمة، وهنا نستحضر مؤشرات من قبيل الاكتظاظ وضعف البنية التحتية مما جعل من المدرسة فضاء غير آمن وغير محفز وعاجز عن إدارة الازمات التربوية المعقدة التي يعرفها التلاميذ خاصة المراهقين منهم.