يرسم الخطاب الملكي (10 أكتوبر 2025) معادلةً دقيقة تُزاوج بين قربٍ وجدانيٍّ نابض من انتظارات المواطن ورصانةٍ مؤسّساتية تُحوِّل الدفء إلى جِدّيةٍ في الإنجاز وزمنٍ سياسيٍّ مُلزِم؛ إنّه خطاب يقتربُ ثم يلتزم: يقترب من وجدان الناس حتى يكاد يسمع أنفاسهم، ثم يلتزم بمنطق المؤسّسات كي لا تضيع المشاعر في الهواء. هكذا تترجم حرارةُ الإنصات إلى صرامة أداء، وتتحوّل العاطفة إلى قوّة دفعٍ سياسية، ويصير الزمن معيارًا للمساءلة، ويغدو الأثر الاجتماعي محكًّا للشرعية: التزامٌ مُقاسٌ يرفع قيمة ما يتحقّق في التعليم والصحة والشغل وتقليص الفوارق-مدرسةٌ أعدل، وصحّةٌ أيسر، وفرصُ شغلٍ أقرب، وفوارقُ أقلّ.
لا تناقض ولا تنافُس بين "الاستراتيجي" و"الاجتماعي"
حسم الخطاب الملكي، بوضوحٍ منهجي، ثنائيةً مُضلِّلة طالما هيمنت على النقاش العمومي: لا تناقض ولا تنافُس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية؛ فالأولى لا تُبرَّر بذاتها، بل بقدرتها على تغذية الثانية وتعظيم أثرها في حياة الناس. بهذا التحويل من منطق المفاضلة إلى منطق التكامل المُلزِم بالأثر، ينتقل المغرب من بلاغة الأوراش إلى سياسة الأثر: معيار النجاح ليس حجم الشريط المقطوع، بل الزمن الذي يقصر لموعدٍ طبي، والفرص التي تتّسع لتشغيل الشباب، والفجوات المجالية التي تضيق. هكذا تُقاس شرعية الاختيارات الاستراتيجية بما تُنتجه اجتماعيًا، لا بما تُعلنه رمزيًا.
"جيل جديد من برامج التنمية الترابية": استشرافٌ يضبط الإيقاع
لم يكتفِ الخطاب الملكي بتصحيح المعادلة النظرية، بل حدّد أداة التفعيل: "لقد دعونا في خطاب العرش الأخير إلى تسريع مسيرة المغرب الصاعد، وإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية".
هذه الصياغة تُعلن نهاية دورة برامجية وبدء أخرى أكثر سرعة ووقعًا، تُدار بالمعطيات وتُقاس بالمؤشرات وتُصمَّم وفق خصوصيات المكان. "الجيل الجديد" هنا ليس تسمية علاقات عامة؛ إنّه تحوّل في نمط العمل: من إنفاقٍ متشظٍّ إلى عقود أداء ترابية ولوحات قيادة تُظهر تقدّم الخدمات حيث يعيش الناس فعلًا.
أولوية ترابية مُعلنة... "في إطار علاقة رابح-رابح"
حين يوجّه الخطاب الملكي البوصلة نحو القُرى والجبال والواحات، فهو لا يُنتِج مركزًا جديدًا وهامشًا آخر؛ بل يُعيد تنظيم العلاقة في إطار علاقة رابح–رابح بين المجالات الحضرية والقروية.
المعنى السياسي لهذه المعادلة واضح: تكافلٌ تنمويٌ ثنائي الاتجاه. الحواضر تربح حين يتراجع ضغط الهجرة غير المتوازنة وتتحسن الخدمات في محيطها، والقرى تربح حين يصل الاستثمار والخدمة والفرصة إلى مداها المحلي. بذلك تتأسس تنمية لا تُزاحِم فيها المشاريعُ الحضريةُ نصيبَ الريف، ولا تُختزل الريادةُ القرويةُ في ملحقٍ اجتماعي؛ بل يتبادل الطرفان المنفعة ضمن تصميمٍ ترابي واحد.
انتصارٌ للعمل المؤسّساتي... الشرعية تُدار بالمؤسّسات
شرعيةٌ تُدار بالزمن السياسي وتُثبِتها النتائج. يرسّخ الخطاب الملكي أولويةَ المنهج المؤسّسي بوصفه إطارًا ضابطًا للأدوار والمسؤوليات: المؤسّسة التشريعية للتشريع والرقابة وتقييم السياسات، الحكومة للتنفيذ وتحويل التوجّهات إلى برامج قابلة للقياس، والجماعات الترابية والأحزاب والإعلام والمجتمع المدني لوساطةٍ وتأطيرٍ يقرّبان السياسات من المواطن. وفي السنة التشريعية الأخيرة يتحوّل الزمن إلى آلةٍ معيارية تربط القول بالفعل: ما يُنجَز يُعلَن ويُقاس، وما يتعثّر يُراجع ويُصحّح. هكذا تُؤسِّس مأسسةُ الوساطة لعقدِ خدمةٍ عموميةٍ واضح المعايير، ينقل القرب من مجرّد شعور إلى التزامٍ مُلزمٍ ومسائل تُثبته المؤشرات والنتائج.
الجِدية كأخلاق حكم... والزمن كأداة مساءلة
الجِدية ليست نبرةً بل قواعد تشغيل: أولوياتٌ معلنة، آجالٌ مضبوطة، تتبّع رقمي، وتقارير أثر دورية. وصف الدورة بأنّها الأخيرة من الولاية يجعل الزمن آلة معيارية تربط الخطاب بالتنفيذ: ما لا يُنجَز يُراجَع ويُصحَّح، وما يُنجَز يُعلن ويُقاس. هكذا تُترجم ثقافة النتائج إلى حجّة عمومية، فتتحوّل المؤشرات إلى شواهد كرامة يومية لا أرقامٍ مجردة.
"أنسنة الأوراش": الإنسان معيار السياسة
القيمة الفارقة في الخطاب الملكي ل 10 أكتوبر أنّه أنسنَ الأوراش: الأثر يُقاس بما يلمسه المواطن- قسمٌ أقل اكتظاظًا، موعدٌ طبي أقرب، نافذةُ إدماجٍ اقتصادي للشباب في مجالهم المحلي، إدارةٌ تحترم الوقت والكرامة. لذلك يُصبح "الجيل الجديد" من البرامج الترابية جسرًا بين الاستراتيجي والاجتماعي: مشروعٌ كبير يُحسِّن الحياة الصغيرة حيث يعيش الناس.
خاتمة: تكاملٌ مُلزِم بالأثر... ووطنٌ يربح كلّه
يقدّم الخطاب الملكي لافتتاح الدورة التشريعية 2025 رؤية ملكية شمولية للإنسان تضع العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية في قلب المعادلة، وتحوّل العلاقة بين المشاريع الاستراتيجية والبرامج الاجتماعية إلى تكاملٍ مُلزِم بالأثر. بإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية، وبتثبيت منطق "رابح – رابح" بين الحضر والقرى، وبمأسسة الوساطة والجدّية الزمنية، تُصبح شرعية الأداء واقعًا معاشًا: تعليمٌ أعدل، صحةٌ أيسر، فرصٌ أقرب، وفوارقُ أقل- ذلك هو الربح الوطني المشترك الذي يليق بالمغرب الصاعد.