يشيخ اللسان كما يشيخ الإنسان. لكن شيخوخة اللسان لا تتعلق فقط بخلاياه وأنسجته الحيوية بل بما ينطق به من ألفاظ ومعان طاعنة في السن أكل عليها الدهر وشرب. يقول إمرسون إن الذين يتحدثون لا أسرار لهم. ونزيد في القول لنقول أن الذين يتحدثون لا ينتبهون لما يحدثه الزمن من أحداث وحوادث في أحاديثهم. كلما تقدم بك العمر واقتربت من النهاية، كلما تأخر لسانك عنك وابتعدت كلماته – أو كلماتك – عن البداية. لكنك غالبا ما لا تعير انتباها لذلك لسبب بسيط وهو أنه وبعد سنوات عديدة وأعوام مديدة من تمارين الكلام وتداريب عضلة اللسان، صار بمقدورك الدخول في الكلام والخروج منه بلا مشاكل في الواقع سالما غانما بما أن مرتفعات كلامك ومنخفضاته صارت هي أيضا جزءا من تضاريس هذا الواقع. أي أنه لا شيء أصلا تغير في هذا الواقع الذي أمضيت زمنا طويلا وأنت تحوم حوله كفراش تائه. – ما لم يقو عليه البنان لا يغيره اللسان. الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو ما يمور بداخل الإنسان من عواصف الأهواء والأفكار. قد توقف الكلمة الطيبة سيل العواطف الهائجة وقد تغير من مجرى المعتقدات التائهة، وقد تجعل من صاحبها حكيما في نظر الآخرين..الباحثين عن الحكمة من أفواه الحكماء…إلخ أكيد أنها تزيل شيئا من ظلمات العالم الداخلي للإنسان، وهذا شيء جميل جدا. لكن، ماذا عن ظلمات العالم الخارجي؟ ماذا عن صروح الظلم المظلمة التي شيدتها الأيادي الغادرة؟ ماذا عن سراديب العبودية التي حفرتها معاول الجبابرة؟ ماذا عن المتربعين الخالدين على العروش من الفراعنة؟ ماذا عن الجاثمين على صدور الفقراء والمحرومين؟ ماذا عن مصاصي الدماء وقراصنة الأحلام وآكلي لحوم البشر؟ هل يستطيع صدى الكلمات أن يزعزع أعمدة الظلمات؟ هل بإمكان ذبذبات اللسان أن تكسر القيود والأغلال؟ هل ينسج الكلام المباح خيوط الصباح؟ والأيام الملاح؟ يشيخ اللسان عندما يردد كالببغاوات الأفكار الأساسية والجمل الإنشائية والتعابير اللغوية البليدة وباقي الأسطوانات المشروخة التي يحفظها العقل عن ظهر قلب. يشيخ اللسان عندما تنزلق من على عضلته المباني والمعاني الخفيفة اللطيفة وتندلق على شكل شخير مزعج أو صفير حاد. يشيخ اللسان عندما تتبخر حروفه في الهواء كسحابة صيف عابرة. وبشكل أوضح، وفي جملة واحدة : – قوة اللسان في قوة الإنسان! والإنسان المنهار كالأطلال القديمة لن تقيمه ألسنة الناس أجمعين من الشرق أو من الغرب. بقيت ملاحظة أخيرة نصيغها في السؤال التالي : – كيف لصاحب اللسان أن يدرك أن لسانه قد دخل فعلا في مرحلة الشيخوخة؟ والجواب هو في انتهاء مدة صلاحية الكلمات!