من الواضح أن الإسبان أضحوا يعتبرون المغرب قوة صاعدة ومؤثرة في المنطقة، بل وبعض متطرفيهم من المؤسسة العسكرية أو من الحزب الشعبي يعتبرونه بلدا منافسا ويخفي وراءه تهديدا استراتيجيا لمصالح إسبانيا في المستقبل. ما هو هذا التهديد الذي يراه هؤلاء المتطرفون؟ هل يقصدون به سيادة المغرب على ثرواته السمكية واستمراره في تعزيز منظومته الإنتاجية والتصديرية في قطاع الفلاحة أم تعزيزه لبنياته التحتية بموانئ جديدة على غرار ميناء طنجة المتوسط؟ من الضروري أن نستوضح فعلا ما الذي تريده إسبانيا من المغرب، وما مدى استعدادها لتقبل شريك قوي اقتصاديا وسياسيا وعسكريا على حدودها الجنوبية. ونقصد هنا حدودها البحرية طبعا لأن الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلية لن يصبح أمرا واقعا ولن يقبله المغاربة إلى الأبد. المغرب لديه اليوم ما يكفي من المقومات بعد أن أعاد بناء شبكة تحالفاته الدبلوماسية على أسس جديدة قوامها الانفتاح على الفاعل الأمريكي والمكون العبري المغربي والشريك الصيني الصاعد، إضافة إلى الأشقاء العرب من دول الخليج. هذه الشبكة من العلاقات الممتدة جغرافيا وثقافيا واستراتيجيا لا شك أنها ستفزع الجيران الإسبان، وهذا ما يفسر التصريحات المتزايدة التي يقدمها مسؤولون إسبان سابقون وحاليون عن قوة المغرب وتطوره السريع ويحذرون سلطات مدريد من الانقلاب السريع الذي قد يعتري موازين القوى بين البلدين. ولكن هل العداء بين المغرب وإسبانيا حتمية تاريخية؟ صحيح أن الماضي كان معركة مفتوحة بين الطرفين عندما كان المغاربة يقودون التواجد الإسلامي والعربي والأمازيغي في الأندلس، وعندما قررت إسبانيا في القرن العشرين أن تعزز حضورها الاستعماري في شمال المغرب، لكن هذا الصراع ليس بالضرورة قدرا لا مفر منه. لذلك هناك إمكانات هائلة اليوم في سياق الأزمة الحالية التي تجري على هامشها مفاوضات لإعادة رسم العلاقات بين البلدين، ومن أجل استعادة نوع من التوازن والندية بين البلدين. نعم المرحلة القادمة من العلاقات بين البلدين يجب أن تنبني بالأساس على الندية والاحترام المتبادل. وللمغرب ما يكفي من أوراق الضغط وعناصر التأثير حتى في الداخل الإسباني من أجل تثبيت هذه المرحلة الجديدة من العلاقات بين البلدين وتحويلها إلى أمر واقع لا يناقش. وعلى إسبانيا أن تدرك بعد أن أضحى للمغرب علاقات قوية مع بريطانيا التي تحتفظ بجبل طارق في جنوب إسبانيا أن الالتفاف ليس عليها وإنما لها، بمعنى آخر، إن المشروع الطاقي الهائل الذي سيدشنه المغرب بشراكة مع بريطانيا لنقل الطاقة الكهربائية يمكن لإسبانيا بحكم موقعها الجغرافي أن تكون شريكة ومستفيدة منه. وفي ظل التداعي الذي يعيشه كيان الاتحاد الأوربي، على إسبانيا أن تعي أيضا أن جيرانها في الشمال لن يمثلوا في المستقبل شركاء مضمونين قادرين باستمرار على حمايتها ودعمها، خصوصا أن القارة الإفريقية التي تمثل منجم العالم الاقتصادي في المستقبل القريب لا يمكن ولوجها بغير شراكة مع المغرب باعتباره المعبر الطبيعي والأقرب لإسبانيا. التفاوض مع إسبانيا من أجل بناء علاقات جديدة يجب أن يكون إذن من موقع قوة، وقصة الابتزاز القضائي بإلغاء اتفاقية الصيد البحري، أضحت قصة مفضوحة ومكشوفة ومملة. ولا شك أن للسلطات الدبلوماسية في المغرب علم أكيد بما يدبر من ورائها من محاولات للحصول على مكاسب جديدة للوبيات الإسبانية. ومن الضروري أن تكون المكاشفة بين الطرفين أساسا لتحقيق مكتسبات عملية للمغرب في علاقاته مع الجارة الإيبيرية. على إسبانيا أن تنهي تماما تذكيتها الخفية للنزاع المفتعل في الصحراء المغربية، وتدعم صراحة مقترح الحكم الذاتي، وتحضر نفسها أيضا للدخول في مسلسل تصفية الاستعمار في سبتة ومليلية والجزر المجاورة، ثم تقبل بشكل نهائي وجود جار عربي أمازيغي مسلم في جنوبها له ثقافته الخاصة ومصالحه الذاتية التي يجب أن يدافع عنها.