في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة التي شهدها ملف الصحراء المغربية خلال العقود الأخيرة، أبى جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، إلا أن يعيد العزف على وتر مهترئ، من خلال مقال نشر في صحيفة واشنطن تايمز، دعا فيه إدارة ترامب المحتملة إلى التراجع عن قرار الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، متهما الرباط بعرقلة جهود الأممالمتحدة، وملوحا بخطر تمدد النفوذ الروسي والصيني في إفريقيا إذا استمر ما سماه "تجاهل النزاع". موقف بولتن لا يخرج عن نسق أيديولوجي معروف لصاحبه، الذي ظل حبيس تصور متجاوز لحل النزاعات الدولية ،و المبني على أوهام "تقرير المصير" بصيغته الجامدة، ورفض مطلق لأي مخرج سياسي واقعي لا يترجم بمنطق الإستفتاء. لقد إعتاد بولتون و منذ عقود على الاصطفاف إلى جانب أطروحة الانفصال، في قطيعة تامة مع موازين الواقع، ومع الدينامية المتقدمة التي أطلقها المغرب من خلال مبادرة الحكم الذاتي، والتي باتت تحظى بدعم دولي وازن، باعتبارها حلا سياسيا جادا وذا مصداقية، يراعي تعقيدات النزاع ويجسد منطق التوافق الممكن. من المثير لكل نقاش موضوعي ، أن ما تقدم به جون بولتن في مقال، لم يخرج فقط من رحم نزعة عدوانية متجذرة، بل جاء أيضا في سياق أمريكي داخلي يتميز بسباق إنتخابي محتدم، تسعى فيه بعض الأجنحة إلى إحياء الملفات الهامشية لإثارة الجدل وتحقيق مكاسب ظرفية. ورغم أن هذه الخرجة تحمل في طياتها دعوة صريحة لإدارة جمهورية مستقبلية، فإنها تتقاطع مع تيارات داخل الحزب الديمقراطي نفسه ، والذي لازال بعض أعضائه يتبنون خطابات رومانسية حول "التحرر الوطني"، ولو على حساب الاستقرار الإقليمي ووحدة الدول. غير أن هذه الدعوات المتقادمة تصطدم اليوم بواقع دولي جديد، حيث غدت أطروحة الإنفصال في الصحراء المغربية هامشية وعقيمة غير منتجة . لقد تخلت الأممالمتحدة، عن خيار الاستفتاء، في ظل استحالة تطبيقه ميدانيا، وانعدام آلياته القانونية والإحصائية، مقابل الترويج لحل سياسي توافقي الذي يحمله مقترح الحكم الذاتي، الذي تقدم به المغرب مند سنة 2007. كما أن القرارات الأممية الأخيرة، ومن بينها قرار مجلس الأمن المرتقب في أكتوبر المقبل، تسير في إتجاه ترسيخ هذه الدينامية الواقعية، بعيدا عن الطروحات الانفعالية واللامسؤولة. وإذا كان بولتون يلوح بتراجع أمريكي، فإن الواقع الدبلوماسي يفند ذلك ، فإدارة بايدن لم تتراجع عن الاعتراف بسيادة المغرب، ولم تصدر أي موقف ينقض قرار ترامب التاريخي، كما أن الدعم الأمريكي لمبادرة الحكم الذاتي لم يتغير في جوهره. وعلى خلاف ما يحاول بولتون الإيهام به وترويجه ، يشهد العالم اليوم موجة متزايدة من الاعترافات بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، كان آخرها الموقف الصريح والقوي للمملكة المتحدة، والذي يعد تطورا مفصليا بالنظر إلى ثقل بريطانيا داخل مجلس الأمن، وتحالفها العريق مع واشنطن. هذا التوجه يندرج ضمن تبلور "كتلة حرجة" من الدول الكبرى التي باتت تعتبر مقترح الحكم الذاتي أرضية جدية للتسوية، لا سيما في ظل التحديات الأمنية الخطيرة التي تعرفها منطقة الساحل، والتي تجعل من إستمرار النزاع ورقة مهددة للإستقرار الدولي برمته. إن ما جاء به بولتون لا يعدو أن يكون صرخة في فراغ، ومحاولة يائسة لإحياء تصور عقيم لفظه التاريخ، وتجاوزته الشرعية الدولية. وإذا كان بعض خصوم المغرب سيجدون فيه ذريعة للتشويش الإعلامي، فإن الواقع الثابت أن المملكة المغربية أضحت رقما صعبا في معادلة الأمن الإقليمي والدولي، وأن مقترح المملكة التوافقي الحافظ للسيادة على كامل التراب الوطني، يلقى يوما بعد يوم ، صدى واسعا لدى القوى الكبرى مقترح مدعوم بشرعية تاريخية وقانونية وشعبية راسخة. ختاما ، يتأكد للعالم يوما بعد يوم أن المستقبل لا يصنع بمقالات الحنين إلى الماضي والاي لا تصلح سوى للترويج الاعلامي ، بل بإرادة الشعوب وواقعية المبادرات وتماسك المواقف السيادية ، فالصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه ولا عزاء للحاقدين والخونة . ذ/الحسين بكار السباعي محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان. خبير في نزاع الصحراء المغربية.