مغامرةٌ جميلةٌ هذه التي نركبها بترجمة هذا الكتاب. ومن جوانب الصعوبة في هذه المغامرة ما يواجه هذا النوع من الكتابات المترجمَ به من صنوف الصعاب والمعيقات، بحكم كثرة ما يثير من مشكلات، بله إشكاليات، لاتصاله بالحفر والمساءلة بقضايا لا تزال من صميم راهننا المغربي. إن من الصعب دائماً، أن نترجم كتاباً وضعه أجنبي في تاريخنا القريب، ولاسيما ما كان منه داخلاً في فترة ما قبل الاستقلال بقليل؛ تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب، التي لا نزال لا نعرف فيها، إلى اليوم، كتاباً جامعاً نسلم معه بشيء من اليقين. وأما الكتاب الذي آثرناه بالترجمة في هذا المضمار فهو كتاب «?الفرنسيون الأحرار في المغرب المأزوم»، الذي يُطلِعنا على صفحةٍ من العلاقات الفرنسية المغْربية، ظلتْ غير معروفة جيداً، مع ما هي عليه من أهمية وبروز في تاريخ القضاء على الاحتلال. صفحات سوَّدتْها حفنةٌ من فرنسيِّي المغرب، ساندوا، في الأزمة التي عاشَها المغرب في السنوات الأخيرة من عهد الحماية، مطلبَ المغاربة في الاستقلال، الذي اعتبروه مطلباً عادلاً ومحتَّماً ليس منه مفر. وقد انخرط هؤلاء الأحرار الطوباويُّون، المخالِفون للاتجاه الذي كان يسير فيه الرأي السائد عند مواطنيهم، انخراطاً لم يعْبأوا بما كان يحفل به من مخاطر؛ بما فيها المخاطرة بحياتهم، في معركة ?سلمية ساعدتْ على إحقاق الحق، كما كانتْ منشأَ صداقات ثابتة ودائمة بين هؤلاء الفرنسيين وبين الوطنيين المغاربة. دوامة العنف : تعبئة مشؤومة من الحكومة إن الاستنفار الذي صارت إليه الإقامة وغياب الإصلاحات الموعودة بما هي نتيجة لنفي السلطان، والقمع، والعمى الذي أصاب حكومة باريس كانت كلها عوامل تزيد كل يوم في حدة الأزمة؛ وأدت إلى تزايد وتيرة العمليات الفدائية. وبعد قرابة العام على خلع السلطان، نشرت صحيفة «لافيجي» ملخصاً مقلقاً بأرقام مؤقتة : 372 اعتداء بالسلاح، و139 اعتداء بالمتفجرات و129 عملاً تخريبياً - وقع فيها 153 قتيلاً (32 من الأوروبيين و121 من المغاربة) - و523 جريحاً (134 من الأوروبيين و389 من المغاربة). وفي 30 يونيو 1954 وقع اغتيال الدكتور إيرو، مدير صحيفة «لافيجي»، فقوبل باستياء قوي في الأوساط الفرنسية. وفي الدارالبيضاء صارت الاعتداءات تكاد تكون يومية؛ فهي تقع في مختلف أنحاء البلاد، وتحمل بصمات المجموعات المنظمة، من قبيل «اليد السوداء». وبلغ التوتر مداه لدى اقتراب ذكرى خلع محمد بن يوسف؛ وهي في الروزنامة الإدارية (20 غشت)، وقد صادفت يومها عيد الأضحى - وهو عيد متحرك - الذي كان مبتدؤه تحديداً في 20 غشت 1953 . فاندلعت المظهرات في وجدة (18 غشت 1954)، وفي بور ليوطي «القنيطرة» (في 28 غشت). ووقعت مأساة وادي زم في 20 غشت 1955 . وقد كانت كلها من فعل تنظيم مقاوم مسلح. المقاومة المسلحة من المغاربة لمناهضي «الإرهاب» المتطرفين تم تقديم مدبري العمليات الفدائية إلى المحاكم العسكرية الاستثنائية، التي أحدثت لتحل محل القضاء الشريف المعهود، فأعلنوا جهاراً، لكن من غير ضغينة، عن الأسباب التي دفعتهم إلى القيام بتلك الأعمال. الراشيدي، أحد المتهمين في محاكمة «اليد السوداء» (في 2 و5/6 يوليوز 1954) : «إن العنف سببه الوضعية الحالية. فقد طرِد سلطاننا : فيكون ما قمت به يدخل في الجريمة السياسية». العرايشي : «لسنا إرهابيين، بل نحن مقامون. فبعد أن تم خلع السلطان أصبحنا في وضع من الخواء : فلا حزب، ولا جرائد، ولاإمكانية للاحتجاج. فلم يكن لنا بد من اللجوء إلى الأسلحة». منصور، المدبر لعملية مارشي سانطرال : «كان سلطاننا يسعي إلى التقدم بالشعب المغربي، وكان يمثل الأمل في الاستقلال. ولذلك كنا نحبه. ولو أعادت إلينا الإدارة سلطاننا لتوقف الإرهاب» («ماروك-بريس»، 9 دجنبر 1954). الشفشاوني : «لست مجرماً، بل أنا إنسان حر يدافع عن دينه وعن سلطانه. ومنذ اليوم الذي اعتدي فيه على السلطان أصبحت مستعداً للموت» («ماروك بريس» ، تقرير الجلسات 2 يونيو/ 5 يوليوز 1954). ولزم المحامين في ذلك الجو من الخوف والكراهية الذي أشاعه انعدام الأمن، أن يتحلوا بالكثير من الشجاعة ليقوموا بالدفاع على المتهمين. غير ذلك لم يكن ليفت في عضد المحاميين جون-شارل لوغران ولويغي في محاكمات وجدة وفاس ومراكش. على الرغم من الشتائم والمهانات والتهديدات بالموت التي كانوا تنهال عليهم. وكان المحاميان هدفاً لتعبيرات عدوانية حتى وهما داخل المحكمة؛ حيث كانت قراءة بعض المناشير سبباً في هياج الجمهور والتعرض لهما بالسخرية والتسفيه. وحتى لقد تعرض جون - شارل لوميغر، ذات يوم، للمحاصرة في بيته من بضع مئات من الممسوسين الأراعن. ولزم الأحرار كذلك أن يتحلوا بالشجاعة، بعد أن صُعقوا بمقتل الضحايا، والمتعاطفين مع الأسر في مصابها، ليستطيعوا مقاومة الضغط الذي كانوا يلقونه من الاستعماريين ومواصلة مطالبهم بعدالة هادئة ومحاكم نزيهة. لكن الأحرار كانت لهم معاييرهم الخاصة بهم؛ فالاحتلال الألماني والمقاومة في الأدغال والمعارك في سبيل التحرر التي شارك فيها بعضهم، كانت ذكراها لا تزال قريبة إليهم. وكانوا يعلمون جيداً أن محاكم فيشي ومحاكم التفتيش والمواطنين الفرنسيين كانوا يدخلون هم أيضاً في جملة «الإرهاب». كتب غي ديلانوا : «ما أكثر المغاربة الذي أعدموا رمياً بالرصاص، وما أكثر الأحكام بالإعدام الصادرة عن المحكمة الدائمة للقوات المسلحة، «باسم الشعب الفرنسي»! فمن بين القضاة خطر بباله أن هؤلاء «الإرهابيين» إنما كانوا في واقع الأمر «مقاومين»؟ ومن ذا الذي سولت له نفسه أن يرمي بالرصاص «مؤمنين»؟ - كان الإسلام في أرض إفريقيا شيئاً مجهولاً من القضاة ومن وزاراتنا. فغاب عنهم الطابع الديني للقرار الذي اتخذوه بخلع الملك» (م. ذ.، ج. 2، ص. 35). وأكد جاك رايتزر كذلك قائلاً : «وحدها بعض الإجراءات الاستعجالية : الإفراج عن المعتقلين السياسيين والمفاوضات مع محمد بن يوسف كانت كفيلة بإعادة الهدوء إلى البلاد قبل أن يحدث ما هو أسوأ». بيد أن الأسوأ كان على الأبواب؛ كما يظهر في اشتداد وتيرة العمليات الفدائية من طرف المغاربة، والعمليات التي كان يقوم بها الفرنسيون ممن يزعمون أنهم «مناهضون للإرهاب». كتب غي ديلانوا في سنة 1989 : «إن من الصعب أن أسترجع ذكرى أعمال العنف، أو أسترجع الفظاعات التي بلوناها، بعد أن مرت عليها خمس وثلاثون سنة». وقد كان ديلانوا كتب برسالة إلى رئيس الحكومة، بيير منديس فرانس، يثير انتباهه إلى هذه الظاهرة الجديدة التي تبعث على الكثير من المخاوف : «إن في ظهور (تيار) «مناهض للإرهاب» يزعم لنفسه أنه فرنسي وقد ظل إلى اليوم يحاط بحِلم غريب، قد بلغ بالغضب كل مداه. وقد أصبح بعض العناصر من الجالية الفرنسية وبعض المراقبين المدنيين والضباط في شؤون الأهالي يشكلون أخطر حاجز يحول دون قيام السياسة الإصلاحية والبانية التي نروم (أن تكون سياستنا في هذا البلد). فما حدث هو بالفعل «سيبة» من نوع جديد» («لوموند» ، 6 نونبر 1954). فقد أصبح البارزون من الأحرار والمغاربة الذين يشتبه في كونهم أصدقاء لهم، وأصبح المارة أنفسهم هدفاً لرماة من النخبة مسلحين بأسلحة متطورة تدعو إلى الاستغراب، ثم إن هؤلاء ما عادوا فرادى، بل منظمين، من قبيل المجموعة التي كان يحركها صاحب المقهى فيفال، الذي كان يدير عملياته المشؤومة. وقد كان بالإمكان التعرف على الأماكن حيث يوجد أمثاله من المنفذين، لكن لم تكن سبيل إلى القبض عليهم، أو يفرج عنهم ما أن يتعرضوا للاعتقال. وبدت الشرطة على سلبية مثيرة للعجب، إلى أن جاءت الدعوة الاستعجالية، بعد لأي، من البلد الأصلي لإجراء تحقيق؛ فكشف عن أن بعض رجال الشرطة كانوا جزءاً من شبكات لمناهضة «الإرهاب»...