ما من شك أن موضوع جمع القرآن، ضمانا لحمايته كنص مقدس، عمل «ابتكره» الخليفة عثمان بن عفان. غير أن هذا العمل أثيرت حوله الشبهات وطرح إشكالات كبرى لم يقع تجاوزها تماما، إلا عبر اختيارات إيديولوجية مملاة،. ذلك أن مجموعة من الروايات تذهب إلى أن «المشروع العثماني» قام على مصادرة سلطة القراء (الحفاظ) كمؤتمنين على الذاكرة الشفوية، ومنهم أزواج الرسول، ومجموعة من الصحابة. ولعل هذا ما فتح الباب أمام القائلين بأن عثمان- الذي أمر بحرق المصاحف-كان وراء انفساخ العلاقة بين تلقي الحدث القرآني وبين الأثر المكتوب والمرتب في «المصحف». بل سمح لمجموعة من الباحثين «القرآنيين»- القدامى والمعاصرين- بتقديم بيانات حول وقوع التحريف في القرآن والتغيير في آياته وترتيبه وسقوط أشياء منه».. والواقع أن هذه الآية الأخيرة تلخص جوهر الخلاف بين الرسول ومنكري رسالته. فبشريّته العارية من دليل النبوة هي بالضبط ما كان موضع استغراب وإنكار منهم، بالنظر إلى تعارضها مع تصوراتهم الموروثة خلفاً عن سلف عن الأنبياء بصفتهم كائنات عليا شبه إلهية أوتيت القدرة على اجتراح معجزات خارقة ما أوتي مثلها الرسول «الأمّيّ» الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (الفتح.29) كأي بشر عاديّ. ولا جدال أصلاً في أن الفضاء العقلي والديني الذي ينتمون إليه كان فضاء مفتوحاً على احتمال مجيء رسول جديد، حامل لرسالة جديدة أو منذر بنهاية العالم على نحو ما هو متوقع في كتب الكتابيين أو في «أساطير الأولين» التي كانت تجد لها مرتعاً خصباً في شبه الجزيرة العربية. ولكن ذلك الفضاء العقلي والديني عينه هو ما كان يملي عليهم أن يجعلوا شرطاً مسبقاً لتصديق أي رسول جديد أن يكون حاملاً معه للبرهان الذي لا برهان غيره في النبوة: المعجزة . هكذا كان الملأ من قوم نوح أي رؤساؤهم قد قالوا لهم: ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم (المؤمنون.24). كما كان الملأ من القوم الذين تلوهم قد قالوا عن الرسول الذي أتى من بعده: ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون (المؤمنون.23-24). وكذلك قال قوم ثمود لنبيهم المرسل إليهم صالح: ما أنت إلا بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصادقين (الشعراء.154). وكذلك كذّب أصحاب الأيكة رسولهم شعيباً قائلين له: وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كِسفاً من السماء إن كنت من الصادقين (الشعراء.187). ووفق هذا النمط الذهني عينه استغرب قوم محمد مبعثه وقالوا: أَبَعث اللّه بشراً رسولاً؟ (الإسراء.94)، وتساءلوا باستغراب أكبر: ما لِهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (الفرقان.7). ثم راحوا يطالبونه، على مدار الحقبة التبشيرية من دعوته، ببرهان دامغ على نبوته من استنزال كنز أو تفجير نبع أو استدرار نهر أو استحداث جنة من عنب ونخيل، هذا إن لم يطالبوه بتسيير الجبال أو إسقاط السماء. وعلاوة على طلب معجزة إثباتية لنبوته كان اللامصدقون، ولا سيما الكتابيين منهم، يطرحون عليه أسئلة إعجازية وتعجيزية معاً من طبيعة لاهوتية أو غيبية أو ما ورائية كسؤاله عن ماهية الروح، أو التكهن بالغيب، أو متى تقوم الساعة، أو بكل بساطة، ما جنس الجنين الذي في الرحم؟ وتماماً كما في إجابته عن طلب المعجزات، كان يجيب عن هذه الأسئلة والإشكالات بالإحالة إلى اللّه: - ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي (الإسراء.85). - اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد (الرعد.8). - إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام (لقمان.34). - يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي (الأعراف.187). - قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب (الأنعام. 50). - وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو (الأنعام.59). - فقل إنما الغيب للّه فانتظروا إني معكم من المنتظرين (يونس.20). - قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه (النمل.65). ومن منظور الاحتكار الإلهي لعلم الغيب لم يكن الرسول مأموراً بإرجاع الأمر كله إلى اللّه فحسب: وللّه غيب السماوات والأرض وإليه يُرجع الأمر كلّه (يوسف.123)، ولا مأموراً بالإعلان عن أنه مكفوف اليد كفاً تاماً فحسب: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء اللّه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء (الأعراف.188)، بل كان مأموراً أيضاً بألا يستعجل عِلْمَ ما قد يُعْلِمه اللّه أو ما يطالب اللامصدقون بأن يعلمه إياه: قل... ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا للّه، يقص الحق وهو خير الفاصلين، قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، واللّه أعلم بالظالمين، وعنده مفاتيح الغيب ولا يعلمها إلا هو (الأنعام.57-58). هنا ينهض سؤال: إذا كانت المعجزة رفيقة درب كل نبي، فلماذا قضت المشيئة الإلهية أن ينفرد الرسول دون سائر الرسل والأنبياء بأن يكون نبياً بلا معجزة؟ ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن غياب المعجزة قد ترجم عن نفسه ليس فقط في تشكيك المشككين في بعثة الرسول، بل أيضاً وربما كان هذا أخطر في الشك الذي كان ينتاب الرسول نفسه أحياناً. أفما وجدنا الآية الرابعة والتسعين من سورة يونس تحذر الرسول من هذا الشك وتتوعده، في حال انضمامه إلى الممترين والمكذبين بآيات اللّه، بأن يكون من الخاسرين؟ كذلك أما وجدنا الآية الثانية عشرة من سورة هود تحذّر الرسول من أن يضيق صدره ويترك تبليغ بعض ما أوحي إليه مخافة أن يقول قائلهم المشككين : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه مَلَك؟ ولنا على كل حال أن نفهم »ضيق صدر« الرسول إذ شاء له «حكم اللّه» أن يتبلغ الوحي وأن يبلّغه بدون سند من معجزة مادية على منوال معجزات سائر الرسل والأنبياء: إذ لم يكن اللامؤمنون هم وحدهم الذين يطالبونه بمعجزة، بل كذلك المؤمنون أنفسهم، وهو ما يمكن استنتاجه من السياق الذي نزلت فيه الآية 109 من سورة الأنعام: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، قل إنما الآيات عند اللّه، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. فقد ذهب جماعة من أهل التأويل، على ما يروي الطبري، إلى أن كاف الخطاب في «يشعركم» إنما هي موجهة إلى أصحاب الرسول، ومستندهم في ذلك أن «الذين سألوا رسول اللّه (ص) أن يأتي بآية، [هم] المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول اللّه (ص)، فقال أصحاب رسول اللّه (ص): سل يا رسول اللّه ربك ذلك، فسأل، فأنزل اللّه فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: «قلّ للمؤمنين بك يا محمد إنما الآيات عند اللّه، وما يشعركم أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لا يؤمنون به». وباستقراء النص القرآني نحصي عشرات من الآيات التي تعلّل، على لسان اللّه نفسه، امتناعه عن إتيان المعجزات التي يطالبه بها رسوله أو المؤمنون به، وعلى الأخص اللامؤمنون، سواء أكان هؤلاء الأخيرون صادقين في ما يطالبون به من برهان المعجزة التي هي معبرهم إلى الإيمان، أم كاذبين مناورين لا غاية لهم سوى إحراج الرسول وحشره في الزاوية الضيقة. ومن هذا المنطلق الاستقرائي إياه نستطيع أن نحدد خمسة مستويات للتعليل: 1 التعليل بالتكذيب: فما أكثر من سبقوا الرسول من الأنبياء ممن كذّبهم قومهم رغم ما أتوه من معجزات، وفي مقدمتهم قوم موسى مع أنه كان من أكثر الأنبياء معجزة: - ولقد جاءكم موسى بالبيِّنات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (البقرة.19). - وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (الأعراف.131). - ولقد جاءهم موسى بالبيِّنات فاستكبروا في الأرض (العنكبوت.39). وقائمة الأنبياء والمرسلين الذين كذبهم قومهم، سواء أتوهم بالآيات والنذر أم لم يأتوهم، طويلة لا تنتهي، وقد أحصت سورة الشعراء وحدها خمسة منهم: -كذَّبت قوم نوح المرسلين (105). - كذبت عاد [هود] المرسلين (123). - كذبت ثمود [صالح] المرسلين (141). - كذبت قوم لوط المرسلين (160). - كذب أصحاب الأيكة [شعيب] المرسلين (176).