تنظم " جمعية بابل للثقافة و الفن (إبداع بلا حدود) مهرجان فاس الدولي للرقص التعبيري الذي يشهد هذه السنة دورته التاسعة ، تحت شعار " رقصات التسامح"، وذلك في الفترة الممتدة من 27 أكتوبر إلى غاية 31 منه. في هذا السياق " أجرت " الاتحاد الاتحاد الاشتراكي " حوارا مع عزيز الحاكم مدير مهرجان فاس الدولي للرقص التعبيري حول سياقات تنظيم هذا المهرجانان وأهدافه ومستجدات الدورة الجديدة .. تقرؤون تفاصيلها كالتالي: من المعروف أن تنظيم مهرجان دولي في ظل الشروط الثقافية الحالية أمر غير سهل، ومع ذلك استطعتم الوصول إلى الدورة التاسعة، كيف تحقق لكم هذا ؟ الأمر في غاية البساطة، هناك اختيارات لا تراجع فيها، وحين يقترن صواب الاختيار بقوة الإرادة تغدو الأمور أبسط، صحيح أن الظروف الثقافية الحالية لا تشجع على العمل الثقافي الحر، لأسباب كثيرة منها انعدام تخطيط ثقافي عقلاني ومجدول على المدى البعيد، وتواضع الإمكانيات المادية المرصودة للدعم، وتعقد المساطر الإدارية المقننة لهذا الدعم، بالإضافة إلى عدم وجود فضاءات ثقافية حقيقية مجهزة بما يكفي لاستيعاب التظاهرات الثقافية الحديث ، مما يحد من طموحات الفاعلين الثقافيين أو يجبرهم على القبول بما هو موجود ، في ظل هذه الشروط ، ومع تنامي ظاهرة اليأس الثقافي لدى الكثيرين، يصبح العمل الثقافي ضربا من المغامرة أو شغل من لا شغل له، وما عدا ذلك وهم في وهم . أما نحن في جمعية بابل للثقافة والفن، فإننا نواصل تنظيم مهرجان فاس الدولي للرقص التعبيري بنفس الهمة التي كنا ننظم فيها خلال السبعينيات ملتقيات كبرى بصفر درهم ، مع أن اللحظة التاريخية الراهنة تختلف جذريا عن تلك المرحلة، وآليات الاشتغال الثقافي تطورت بشكل لم يعد فيه لروح التطوع والنضالية أي معنى ،، في غياب دعم معقول واحتضان دائم ، كيف تدبرون أموركم ؟ هذه معضلة ثقافية عظمى لا تجلب إلا الألم والغضب. فنحن نعمل بالحد الأدنى (منح شبيهة بالتسطريبة ديال الصنايعية ) ولذلك نكتفي باستدعاء الفرق التي تتنازل عن بعض الحقوق وتشارك من باب التضامن وتعتبر مجيئها إلى فاس سياحة ثقافية تمكنها من اكتشاف مدينة ذات إشعاع حضاري قوي، غير أننا في جميع الأحوال نظل مكبلين بهذا الخصاص وتبقى طموحاتنا في توسيع دائرة المشاركة محدودة جدا، سأقدم لك مثالا عشناه في هذه السنة، أنت تعرف أننا نبدأ في الإعداد الأولي للمهرجان خلال شهر فبراير، حيث نبدأ في إجراء الاتصالات عبر الإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي أو من خلال الاتصالات التي يجريها بعض المتعاونين معنا في عين المكان بالخارج، وقد كان من المفروض في البرمجة الأولية أن تشارك فرقة رقص من فلسطين، وفرقة من تركيا، وفرقة فلامنكو من إسبانيا، وفرقة من بوركينا فاصو، وفرقة من إيطاليا، وفرقة من هنغاريا، غير أننا اضطررنا في نهاية الأمر أن نعتذر لهذه الفرق التي كان حضورها سيضفي هالة إضافية على المهرجان، وأن نكيف البرمجة قسرا مع إمكانياتنا المادية الهزيلة حفاظا على المهرجان وعلى التزاماتنا الأخلاقية تجاه جمهور عودناه على هذه المتعة السنوية. لكننا لسنا نادمين على شيء، لأن كرامتنا لا تسمح لنا بالاستجداء وطرق الأبواب أكثر من مرة . أنتم تنظمون مهرجانا سنويا في فن حديث العهد بالنسبة للمغاربة وغير معروف لدى عامة الناس، كيف تعالجون هذه الثغرة ؟ من المفارقات العجيبة أن المغرب بلد يزخر بالمئات من الرقصات الشعبية والتقليدية والتراثية والفولكلورية والصوفية وغيرها من الرقصات النادرة المهددة بالانقراض، ومع ذلك ليس هناك أي تفكير جدي في تأطير هذه الرقصات " الفطرية " وتطويرها على نحو مدروس وعملي وفق تصور أكاديمي وفي إطار معهد وطني عال، بمرافق احترافية وقاعة للعروض، يعمل على تكوين الراغبين في احتراف الرقص والعمل في مجال الكوريغرافيا بكل الاختصاصات المرتبطة بها، مما سيساعد على خلق حركية دائمة ويقرب الذوق العام من هذا الفن الراقي ،، على أن يواكب ذلك اهتمام إعلامي وتسويق للمنتجات الكوريغرافية، وبذلك سنحمي رصيدنا " الكوريغرافي " التاريخي من الاندثار ونضمن له التطور والاستمرارية، عوض أن نبقى نتحسر على الوضع ونتلهى بتنظيم ملتقيات ومهرجانات موسمية ينتهي مفعولها باختتام أشغالها ،، لكن ماذا عن الجمهور ؟ هل يتجاوب مع هذا الفن المعقد ؟ الجمهور أنواع وأذواق ومعارف، البعض منه على اطلاع وإلمام بهذا الفن الحديث والبعض لا يميز بين الكوريغرافيا والكاليغرافيا ،، وجمهور مهرجان فاس الدولي للرقص التعبيري لا يجيء بالصدفة، خصوصا بعد أن أضحى المهرجان ينظم في موعد سنوي ثابت ( شهر أكتوبر) كما أننا نحرص على برمجة عروض كوريغرافية تتحقق فيها نسبة التواصل بشكل كبير ونتلافى ما أمكن اختيار العروض المغرقة في التجريد والتجريب، محاولين ما أمكن تنويع الأشكال والمدارس والتجارب، مع إيلاء أهمية خاصة للعروض المغربية، لأن الهدف الأساسي من تنظيم المهرجان هو تطوير الممارسة الكوريغرافية المغربية من خلال الاحتكاك بالتجارب العالمية الرائدة في هذا المجال، من دون أن نقفل باب الاجتهاد والتعاون الإبداعي،، ونظرا لطبيعة المهرجان الثقافية فإننا نختار لكل دورة شعارا معينا يلخص مقاصد الدورة وتوجهات عروضها وننوع البرمجة بين العروض الكوريغرافية والمشهدية والأفلام الكوريغرافية والمعارض التشكيلية والفوتوغرافية ذات الصلة بالرقص، ونعقد مائدة فكرية مستديرة تجمع بين المشاركين في المهرجان من جنسيات مختلفة للتعريف بتجاربهم المحلية وتبادل وجهات النظر حول واقع وآفاق الممارسة الكوريغرافية في العالم وفي كل بلد على حدة، وهذا ما يغني اللقاء والحوار ويضفي الطابع المعرفي على المهرجان، إلى جانب المحترفات التي يشرف عليها مصممو الرقصات الحاضرون ويستفيد منها الشباب بوجه خاص .وهناك جيل جديد من الراقصين والكوريغرافيين المغاربة الشباب يعمل بإمكانياته الذاتية على ترسيخ قدميه في المشهد الكوريغرافي الحالي. ونحن من جانبا نحاول التعريف بهذه التجارب من خلال البرمجة والتوثيق . ألا يؤثر غياب التكوين وانعدام معاهد رقص على حركية الإنتاج والإبداع الكوريغرافي في المغرب ؟ الفن المغربي هو فن عصامي بوجه عام، ومعظم الفنانين المغاربة لم يتلقوا تكوينا أكاديميا، هذا واقع قائم، لكن العصامية محدودة الأجل والآفاق، والتكوين المستمر هو الذي يسمح بالحفاظ على الموهبة وتطويرها، ويوفر للمخيلة مناعة قوية ضد التحجر والتكلس. والأمر في مجال الرقص أشد تعقد، لأن الرقص يعتمد على الجسد، والجسد في حاجة دائمة للترويض والتطويع وإلا شل وترهل، والتكوين الكوريغرافي المستمر (ليست نهاك سن محددة للرقص) يضمن للجسد رشاقته ويغني لغته الحركية ويساعده على مواكبة أحدث تقنيات التعبير الجسدي، خصوصا في عصرنا هذا حيث صارت الكوريغرافيا تشهد تطورات سريعة بفعل العولمة وانفتاح الثقافات بعضها على بعض، إضافة إلى مساهمة التكنولوجيا في إمداد مصممي الرقص بالعديد من البيانات الافتراضية التي تضبط علاقتهم بالفضاء السينوغرافي وعلاقة الأجساد بعضها ببعض في هذا الفضاء. إذن لابد من الجمع بين الموهبة والرغبة والتكوين عبر معاهد متخصصة ودورات تكوينية ومشاهدات متواصلة. ثمة بناية مقابلة للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي في الرباط يقال إنها معهد للرقص، لكن بناءها متوقف بسب التسربات المائية. وهناك تقرير نظري وميداني هام من حوالي 500 صفحة أعده قبل سنوات باحث فرنسي في أفق إنشاء معهد عال للرقص والفنون الحركية في المغرب ( وشاركنا في ملء استمارته) لكنه ظل فيما يبدو حبرا على ورق ، ولربما كان سجين رف من رفوف إحدى الوزرات الوصية. ومع ذلك فلسنا ملزمين بانتظار ما قد يأتي وقد لا يأتي ، وعلينا أن نواصل نشاطنا الكوريغرافي عبر قنوات التواصل والتكوين المتوفرة . تنعقد هذه الدورة تحت شعار لافت للنظر " رقصات التسامح "، فما جديد هذه الدورة وما مدى مساهمة الرقص في ترسيخ ثقافة التعايش والتسامح ؟ يتمثل جديد الدورة التاسعة في أكثر من جانب: هناك في المقام الأول تشبيب البرمجة من خلال طبيعة المشاركين وأسلوب الرقص لديهم، إذ يبرمج المهرجان لأول مرة منذ تأسيه عرضين من الهيب الهوب الحديث، من باب المساهمة في تطوير هذا الرقص الذي بدأ احتجاجيا واندفاعيا وهو الآن في طور التحول إلى تعبير كوريغرافي قائم على مواضيع محددة وأساليب سينوغرافية وأدائية جذابة توفق بين ما هو مألوف وما هو مستحدث، بعيدا عن نزعة الاستفزاز التي اقترنت بظهوره، وهذا مكسب هام للكوريغرافيا المغربية، وستشهد الدورة أيضا عودة الرقص الهندي إلى المهرجان بعد غياب طويل، وثمة أيضا في هذه الدورة انفتاح العروض الكوريغرافية على الحقول الفنية المجاورة للرقص كالتشكيل وفن الفيديو، ولنفس الغاية تم استحداث ركن خاص ب " سينما الجسد" لعرض الأفلام السينمائية التي تعتمد لغة الجسد سنعرض في إطاره فيلمين متميزين " ميمو" للفرنسي جيروم مورا، و " الشبح " للمخرج المغربي المقيم في فرنسا محمد عهد بنسودة، وفي إطار التعاون القائم بين المهرجان ومدرسة الفنون كلاسيكا الروسية المغربية برمجنا منتخبات من الفقرات الكوريغرافية الأكاديمية المعدة عن الربرتوار العالمي الكلاسيكي / الباليه والحديث تؤديها 17 فتاة من هذه المدرسة تحت إشراف الأستاذة الكوريغراف الروسية إيكاروفا عبدوكاريموفا، أما عن الشعار فهو مجرد ترجمة للنوايا النبيلة التي ينطلق منها كل رقص رفيع . هل أنتم مرتاحون للمستوى الذي بلغه الرقص التعبيري في المغرب ؟ من خلال تتبعي لما يقدمه المغاربة من عروض كوريغرافية هنا أو في الخارج، ولما برمجناه على امتداد السنوات الثمانية المنصرمة، يمكنني القول وبدون أي تردد إن الكوريغرافيا المغربية على مستوى العطاء والأداء تمضي بخطى حثيثة على طريق التطور والتأل، شريطة أن تتاح لها فرص الظهور والتكوين والعيش المضمون، إذ لا أحد في المغرب، وفي حدود علمي يعيش من فن الرقص ( أنا هنا لا أتحدث عن راقصات علب الليل) ،، حتى الفرق الفلكلورية المتخصصة تعيش وضعا هشا لا يبعث على الارتياح، خلافا لما هو عليه الأمر في أوروبا وفي بعض الدول الإفريقية مثلا حيث تحظى هذه الفرق ( التي تعكس روح الشعب ) بالرعاية والاحتضان وتمثل بلدانها في كل التظاهرات الفنية الكبرى، وترصد لها ميزانية كافية للتطوير والتحديث،، أمام وضع كهذا يجد المتعاطون للرقص في المغرب أنفسهم عرضة للإهمال أو العمل المناسباتي أو الفندقي الرخيص، فيما يواصل الراقصون الحداثيون تجاربهم واجتهاداتهم في انتظار هيكلة القطاع وتوفير البنى التحتية اللازمة وتقنين المهنة وما جاور ذلك من متطلبات أساسية لتبويء هذا الفن الراقي المكانة اللائقة به وبممارسيه .