يودع العالم بأحراره وشرفائه ومناضليه أحد رموز الثورة العالمية، المناضل خوصي موخيكا، الذي عاش حياة بسيطة كمناضل حالم بغدٍ أفضل، قبل أن يصبح وزيرًا ثم رئيسًا لدولة الأوروغواي. أودع اليوم صديقًا، معذرة، ليس صديقًا بالمعنى التقليدي، فأنا لا أرتقي إلى مكانته أو شهامته أو شموخه. تعرفت على الراحل خوصي موخيكا، أو بيب موخيكا كما يناديه الكثيرون، في بداية القرن الحادي والعشرين، تحديدًا عام 2006، عندما كان وزيرًا للفلاحة. استقبلني آنذاك في مكتبه المتواضع، وجالسته لساعات. حدّثني عن تجربته وتجربة حركته الثورية "توباماروس Tupamaros"، وحكى لي عن المناضلين التسعة المعروفين بالرهائن التسعة، وهو أحدهم، الذين خلدهم الكاتب ألان لابروس في كتابه "توباماروس". رافقني في سيارته المعروفة إلى منزله الذي تملكه زوجته في ريف نواحي العاصمة مونتيفيديو، وخلال هذه الزيارة تعرفت على جانب آخر من شخصيته. ومنذ تلك اللحظة، ترددت على الأوروغواي سبع أو ثماني مرات، زرته فيها كوزير ورئيس. من خلاله، تعرفت على شخصيات كثيرة في أمريكا الجنوبية، مثل فرناندو لوغو، رئيسً الباراغواي، والراحل هوغو تشافيز، وغيرهم من السياسيين والمواطنين البسطاء. ذات مرة، أثناء حديثنا عن تاريخ الأوروغواي، سألته لماذا تم هدم السجن الذي كان مركزًا للاعتقال في مرحلة الاضطرابات، وبُني فندق خمس نجوم مكانه. سألته: "ألا تريدون حفظ الذاكرة؟" فأجابني بحكمة: "أريد لذاكرة شعب الأوروغواي أن تكون مليئة بالأشياء الجميلة، لا أن تذكر السجون"، وأخبرني أنه أمر بترك جزء من جدار السجن كذكرى. عرفت من خلال حديثه أن الأوروغواي كانت أول ديمقراطية في أمريكا الجنوبية، وأنه بعد الحرب العالمية الثانية، كان متوسط دخل الفرد فيها يفوق متوسط دخل الفرد في العديد من الدول الصناعية الكبرى بفضل الزراعة. رحل عنا موخيكا قبل أن يُكمل قرنًا من الزمن، وقبل أن يشهد أول كأس عالم بعد قرن من النسخة الأولى التي نظمتها بلاده في يوليو 1930. رغم المناصب والمسؤوليات التي شغلها، ظل موخيكا وفياً لأسلوب حياته البسيط. عاش في نفس المنزل، استخدم نفس السيارة، وفتح القصر الرئاسي أمام المشردين. كما كان يتبرع براتبه كرئيس لصالح الفقراء، وزوجته التي كانت عضو في مجلس الشيوخ كانت تتبرع هي الأخرى براتبها لدعم مشاريع الشباب. حينما حدثته عن مشروع ميناء طنجة المتوسط، الذي كان قيد الإنشاء آنذاك، بادر بالاتصال بمدير الموانئ في بلاده، ودعاه للعمل على فتح خط تجاري يربط بين طنجةوأمريكا اللاتينية، وهو ما تحقق لاحقًا. أتذكر أنه خلال ذالك اللقاء مع مدير الموانئ بالاوروغواي سألني هذا الاخير عن صديقه القديم مزيان بلفقيه، فقلت له انه اصباح مستشارجلالة الملك ا وانه هو المكلف من طرف الملك بتتبع اشغال ميناء طنجة المتوسط ، وحكى لي كيف كانا يعيشان معًا في باريس في نهاية ستينيات القرن الماضي، ويساعدان المهاجرين في محو الأمية والتأقلم. في ذلك اللقاء، سلمني مدير الموانئ رسالة خاصة لزميله في الدراسة مزيان بلفقيه، إلى جانب تصاميم ميناء مونتيفيديو، رغم حساسية الأمر، طالبًا مني إيصالها. أعتذر لأنني لا أستطيع الآن مشاركة كل ما دار بيني وبين الراحل موخيكا من أحاديث وأقوال، لكنني أعد بأن أفعل ذلك يومًا ما. أعتذر منك ومن عائلتك الصغيرة ، عن عدم تمكني من حضور جنازتك، لأسباب خارجة عن إرادتي، لكنني أعدك بزيارة ضريحك في أول فرصة تتاح لي. أعدك أيضًا أن أزور منزلك مرة أخرى، وأن أمارس هناك تلك الطقوس التي اعتدنا ممارستها معًا. وسأسعى مع أصدقائنا في طلب حكومة بلدك لتحويل منزلك إلى متحف أو مزار يخلد ذكراك وذكرى نضال شعبك. وداعًا، فخامة الرئيس.