يبدو أن أية شريحة اجتماعية لن تنجو من بطش الحكومة الحالية بالقدرة الشرائية لعموم المواطنين. فمن بين الاجتهادات الجديدة للحكومة في مشروع آخر ميزانية لها قبل أن تودع رفع أسعار الدرة والشعير الموجهة للاستهلاك البشري، أي لاستهلاك فقراء العالم القروي، عبر إخضاع واردات هذه الحبوب للضريبة على القيمة المضافة بنسبة 10 في المائة بعد أن كانت معفية منها. ويترقب من خلال هذا الإجراء أن تنتزع الحكومة نحو 74 مليار سنتيم من جيوب فقراء العالم القروي الذين يشكل الشعير غذائهم الأساسي، لتساهم بهذا المبلغ في ردم عجز ميزانيتها المتفاقم بسبب سياساتها المناهضة للنمو الاقتصادي. ويكشف هذا الإجراء عن شرود الحكومة وعدم انسجام سياستها، إذ يتزامن مع خطاب الحكومة حول مكافحة الفقر والتهميش في العالم القروي، والمنافسة في تنازع الصلاحيات بين رئيس الحكومة ووزيره في الفلاحة حول الإشراف على صندوق التنمية القروية وقيادة مخطط النهوض بالعالم القروي، الهادفان إلى معالجة العجز الكبير الذي يعاني منه العالم القروي على جميع المستويات، ورأب الواقع المأساوي لسكانه الذي كشفته بالأرقام دراسة أنجزتها وزارة الداخلية. المبرر الوحيد الذي أوردته الحكومة لتمرير هذا الإجراء هو عجزها عن مراقبة المستفيد الحقيقي من هذا الإعفاء، ومعرفة إن كان القمح سيوجه للاستهلاك المباشر من طرف البشر أو أن المغاربة سيستهلكونه بشكل غير مباشر عند استعماله كعلف للبهائم!. وما دامت الحكومة عاجزة فلا بأس أن يؤدي السكان الفقراء في العالم القروي الثمن، ولا بأس أن يضيع تراث ثقافي إنساني يزخر به المطبخ القروي المغربي مند آلاف السنين، والذي يدور حول ثقافة استهلاك الشعير والدرة باعتبارها من الحبوب الأساسية ذات القيمة الغذائية المتميزة. فالشعير والدرة يعتبران من المكونات الغذائية الأساسية في العديد من المناطق الجبلية النائية، التي لا يمر فيها يوم من دون وجبة شهية يشكل الشعير أو الدرة مكونها الرئيسي إما في شكل حساء ساخن أوكسكس أوخبز، ثلاثة أشكال تتناوب خلال اليوم لتكسر ملل التكرار وتغطي عن شظف العيش في مناطق كثيرا ما طالها النسيان والإهمال، والتي تتفنن النساء القرويات في تنويع أطباقها عبر خلط أنواع الدقيق والحبوب، واستعمال درجات مختلفة من السحق. فبالنسبة للشعير تحضر منه نساء الأطلس أشكالا متعددة من الخبز، تتنوع حسب طريقة العجين وسمك الخبز والأدوات المستخدمة في طهيه وطريقة تعريضه للنار. نفس الشي بالنسبة لكسكس الشعير، الذي يتخذ عدة أشكال تتراوح بين كسكس البلبولة، وبركوكش، وكسكس «أخدام» الذي يتطلب إعداده مهارات خاصة وعملا دؤوبا يستمر ساعات كما يعبر عن ذلك اسمه. وتؤكل مختلف أنواع كسكس الشعير إما بالخضار الطازجة عندما تتوفر، أو بالقطاني والخضار الجافة في أغلب الأحيان، أم باللبن والزبدة، أو مسقيا بزيت الأركان وأملو في السفوح الجنوبية الغربية للأطلس الكبير حيث منطقة أركان. هناك أيضا أكلة الزميطة والتي تصنع من دقيق حبوب القمح المحمص المخلوط بالأعشاب البرية خاصة الزعتر. وتستعمل حبوب الدرة أيضا في تحضير أطباق شهية مثل الكسكس الخاص الذي يطلق عليه إسم «بَدَّاز»، والذي انقرض من تقاليد المطبخ العصري في مدننا. كما تستعمل الدرة في إعداد أنواع مختلفة من العصيدة، حسب درجة سحق الحبوب، والتي تستهلك بشكل خاص خلال فصلي الربيع والصيف مع وفرة الألبان والزبدة. ويستعمل دقيق الدرة أيضا في إعداء الحساء الساخن، خصوصا في الصباحات الباردة لفصل الشتاء حيث يشكل وجبة الإفطار الرئيسية للفلاحين والعمال الزراعيين قبل التوجه إلى الحقول، ويقدم حساء الدرة والشعير كذلك للنساء الحديثات الولادة كغذاء ساخن لدر الحليب. كل هذا الثرات الثقافي والإنساني أصبح مهددا اليوم بسبب الغلاء، وتوجيه السكان إلى استبدال القمح والدرة بأنواع أرخص من الدقيق، أقل منها جودة وقيمة غذائية.