كان أجدر أن يكون لكتاب الطاهر بنجلون « اللحمة الأخوية» عنوانا آخر هو «كتاب الصداقة». لأن الكتاب فعلا يتناول فكرة الصداقة استنادا إلى تجربة الكاتب من الطفولة حتى بلوغه سنا متقدما مكنه من تحديد الصداقة والنزول إلى عمقها الإنساني والفلسفي. ولا يخفى أن أمر «الصداقة» أخذ حيزا مهما من كبار الفلاسفة والمفكرين والادباء. وقد تفرق هذا الحيز بين ناف لوجود صديق وبين مثبت. وهنا نسوق مثلا قولة منسوبة إلى سقراط: « إن ظن أحد أن أمر الصداقة صغير، فالصغير من ظن ذلك». إذن، فتتبع القارئ لكتاب الطاهر بنجلون، الذي نقدمه اليوم، هو رحلة في كتاب مع واحدة من أكبر الإشكالات التي يفكر فيها الإنسان يوميا: الصديق الذي يطلق عليه المسلمون «الأخ في الله» كما في قول عبد الله بن المبارك: «وما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخا في الله». لقد وجد الطاهر بنجلون، هؤلاء الإخوان في الله، لكن أحوالهم عديدة، ووجوههم مختلفة. لكن العبء ، الذي وجده بنجلون طيلة حياته مع الأصدقاء، هو إيجاد القدرة على القيام بهم، ومراعاة مسألة قلة وجودهم، وكأن بنجلون رجع بعيد لذلك الذي أجاب قديما جدا عن سؤال: «كم لك من صديق؟» قائلا: « لا أدري، لأن الدنيا علي مقبلة، فكل من يلقاني يظهر الصداقة، وإنما أحصيهم إذا ولت». «دائما حاضرة، دون أن تكون ثقيلة». يجب أن تكون هذه هي عملة كل صداقة. و أنا أعيد النظر في صداقاتي منذ الكتاب القرآني حتى هذا الربيع من سنة 1993، انتابني شعور بأنني قفزت على عدة مراحل، وأنني نسيت أشخاصا كانوا، في لحظة من اللحظات، حاضرين ثم اختفوا، بفعل صدف الحياة أكثر من قرار الاختفاء. البعض يستعمل استعارة الدوائر لتصنيف أصدقائه. في الدائرة الأولى، يكون العديد صغيرا. وفي الثانية، نضع أصدقاء القرب الزائل. المشكل هو أن الذين يعتقدون أنهم ينتمون إلى الدائرة الأولى يغتاظون عندما يعلمون أنهم أبعدوا شيئا ما. هناك أيضا من نستطيع أن نبوح لهم بسر ما. أفضل أن أجتنب أي تصنيف. يمكن ذلك أن يكون مغيظا، أو بكل بساطة غير عادل. أتخيل سلسلة من العناوين أطلقها على أصدقاء مهمين، دون انتماء إلى النواة الصلبة: الصديق المفكك: إنه الصديق المتقطع.ذاك الذي يظهر بين فينة و أخرى، ولا يمكن أن تعول عليه كثيرا. الحدس يتطلب معه الحذر، الذي لا يلغي لا الحرارة، ولا المتعة. «روني.ب» هو طيلة الوقت مشغول بعمله. مهتم بالكتب، موجود طوال الوقت في المستودعات، والمعارض، أو داخل المحلات حيث يبيع الكتب المستعملة. من الصعب اللقاء به، من الأفضل انتظار ه حتى يظهر. لا يأتي أبدا بيدين فارغتين، كما لو أنه يبحث عن عذر لغيابه الطويل. إنه رجل رائع يوازن دائما بين الطابع المفكك بميزة حضوره النادر. الصديق العابر: معه نسلي الوقت بلقاء- ندوة، مثلا-، أو زمنا تستغرقه رحلة. نعرف أن حظ اللقاء به مرة أخرى قليل، لكننا نعمل على أن يمر زمن اكتشافه في أحسن الأحوال. وعموما، نسجل غيابه، ثم ننساه؛ أو نفكر فيه دون الإحساس بالرغبة في رؤيته مجددا. ستكون لائحة هؤلاء الأصدقاء طويلة حتى نذكرها كاملة. البعض منهم يتعارف. صديق الأحزان: ذاك الذي يرتبط اسمه بحدث مؤلم. نتبادل معه أحيانا نفس الحداد بدرجات مختلفة. أفكر في «كلود.س» الصديق المقرب من عثمان، والذي رافق مرضه إلى آخر المطاف. التقيته عن طريق هذا الحدث وأحببته. ربما سنلتقي مرة أخرى بفضل من ربط بيننا؟ «أثناء موت أحد الأصدقاء (...) إذا كان هناك ألم ما، فأنا من سيتلقاه، والحزن على شدته الخاصة ليس بحب أصدقائه، بل بحب ذواتنا». ( سيسرون). الصديق المختفي: اختفى فوزي ستة أشهر، سنة، أو ربما سنتين، وسواء عبر الهاتف أو الرسائل، له دائما نفس التوقد.كنا في البداية مضطربين شيئا ما. لم أعرف كيف أتعامل معه. وما أن اختفى حتى قطع اتصالاته. فتركناه إذن يعبر صحراءه: نعرف أننا سنلقاه ذات يوم، منسجما مع نفسه، حيوي و أخوي. تعلمت أنه لا ينبغي إزعاج هذه الأصناف من الأصدقاء، ولا الإلحاح عليهم أو انتقادهم. عندما تكون الصداقة مبنية على أسس صلبة تستطيع أن تقبل هذه الأقواس التي لا تعني النسيان أو الإهمال؛ فهي لا تهم إلا الشخص الذي يشعر بأنه في حاجة إليها. «ج.-ب.ب.-ه» ينتمي إلى أولئك الذين يختفون ثم يظهرون حسب الظروف. هو شخصية صعبة ، معقدة ومحيرة. حدث عدة مرات أن اكتشفنا خلافاتنا، خصوصا في السياسة. تعلمت كيف لا أعطي أهمية كبيرة لتلك الخلافات. من الأفضل اجتناب الحديث عنها. لان جان-بيار هو ، خارج ذلك، شخص ممتاز، خدوم، صادق وله صراحة مباغتة. أدين له بلقائي الأول مع هيئة تحرير جريدة «لوموند». يستطيع هذا الرجل الصادق الوعد يمكن أن يمارس سلطة قاسية على أصدقائه. يحدث أن يخطئ. يعرف ذلك من تلقاء نفسه. الصديق المعثور عليه: القدر أكثر قوة من الذاكرة. إنه هو من يقود نحو الماضي لإضاءة لحظة مظلمة في الحاضر. القدر هو ما يأتينا في لحظة لم نكن ننتظره. نسميه القدر لأننا لا نعرف كيف نسمي هذه الغرابة التي تضربنا في القلب والروح. فنتذكر إذن صديقا بعيدا، أو أحدا لم ننسه بالضرورة لكننا تعودنا على اللقاء به. نتردد. ننزعج، ثم نتذكر مزايا الصديق المعني، كالكرم والصبر.