وقالوا له إنك ستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان!.. لماذا ضياع الوقت في هذه النوعية من الأغاني؟ لماذا لا تقتحم بصوتك الجميل أغاني الشعبي وتكونن حينئذ من ضيوف الشطيح والرديح بسهرات تلفزيون عين السبع و دار لبريهي؟ لماذا تخسر أموالا أنت في حاجة ماسة إليها لتصدر أعمالا لا ينتبه إليها أحد؟ لماذا لا تتهافت على المهرجانات والأنشطة الموازية في الكباريات وأنت من القادرين على تنويع أنغامك وحلاوة حنجرتك؟ لماذا لا تبيع نفسك رخيصا يا رجل؟.. لا ياناس.. الفن نبل وفضيلة.. الفن ضمير.. الفن فلسفة الحياة... الفن مجابهة ومواجهة.. الفن تضحية ونكران ذات.. هكذا نتصوره يجيب.. وهكذا نتخيله يعلن أمام الجميع أن لاشيء إلا الفن الملتزم النبيل يرضي طموحاته.. السمو! قالوا: «مجنون»، وأجاب: ربي الجنون أحب إليّ من أخرج عن طريق الفن السوي.. وأبدا لن أنساق مع تيار زيد دردك، عاود دردك؟! عاش ويعيش في الحي المحمدي، و من هذا الحي انفجرت طاقاته.. يحبه أولاد الحي ويبادلهم نفس الحب.. خجولا متواضعا كان ولايزال... كلمات أغانيه تتغلغل ببرودة في الأعماق، وصوته الهادىء الرزين يغرق داخل الوجدان، وإيقاعات الموسيقى أخاذة بمسامع... طل علينا عبد الرحيم عسكوري ذات سهرة «مراكش إكسبريس»، رحمها الله، ولم تكن الشكاية، ولم يكن الاحتجاج، بل كان الحديث عن الفن وما أدراك ما الفن! إنه لا يتقن أسلوب البكاء على الحال، بل يتقن العزف على الآلة الصديقة.. وهاهو اليوم يطل علينا بأغنية جديدة، ويرد على تساؤلاتنا تحت عنوان: «ما مْوَلَفْ سْعَايَا» يقول فيها: مغربي أصيل وما مولف سعايا... على الكرامة والأمان يبحث الانسان... جيني للخير، نخلي ليك عشايا لا تجيني شيطان، راه شَرَّكْ يْبَانْ... غير دير الخير فيما لقيتي.. وغير سير ونساه.. والقلب الكبير ديما نَيْتُو سابقاه وايْلي حِيَّاني الطمع يتلف...» هذا مقطع من الأغنية الجميلة بإيقاع موسيقي رنان، موسيقى هادئة هدوء الفنان، وآلة تفوح بالنطق والألحان.. هكذا جاءت العملية الإبداعية الأخيرة بكلمات تستحق الوقفة والتأمل: «الأصالة..»، «الكرامة»، «الأمان»، «الخير»،«القلب الكبير..». وفي المقابل نصادف كلمات أخرى من قبيل «السعاية».. «شيطان».. «الشر»، «الطمع».. ولا داعي للقول إن الفنان اختار موضعه ضمن اللائحة الأولى في مواجهة اللائحة الثانية. وهاهنا نضيف كلمة الثرثرة في مواجهة الصمت الجميل، فالفنان ابن الحي، يشتغل في صمت وهدوء ويمنح لنا بين الفينة والأخرى.. كلما استطاع لذلك سبيلا، عملا فنيا راقيا نقيا ملتزما بالدفاع عن أدنى الشروط الموضوعية للحياة الإنسانية الكريمة.. شكرا أيها الفنان، شكرا عبد الرحيم!