بوركينافاسو تشيد بالمبادرة الملكية الأطلسية لفائدة دول الساحل    قلعة مكونة تحتضن الدورة 59 للمعرض الدولي للورد العطري    زلزال يضرب دولة عربية    تفتيش شابة بمحطة قطار أصيلة يسفر عن مفاجأة مثيرة    البطولة الإفريقية ال18 للجمباز الفني بمراكش: المغرب يحتل المرتبة الثانية في ترتيب الفرق في فئة الذكور    بطولة السعودية.. ثلاثية ال "دون" تخرق بريق الصدارة الهلالية    "أسود القاعة" يتعرفون على منافسيهم في مونديال "أوزبكستان 2024" نهاية ماي    استئناف مرتقب لجولة المحادثات بالقاهرة حول الهدنة في غز    أكثر من 70 ألف شخص غادروا منازلهم بسبب الفيضانات في البرازيل وأكثر من مليون مسكن بات بلا مياه    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    طنجة.. مهرجان "هاوس أوف بيوتيفول بيزنيس" يرفع شعار الإبداع والتلاقح الفني        مالك الصفريوي صهر أخنوش الجديد يشتري منزلا فخما بمساحة شاسعة بمنتجع ميامي بيتش بأزيد من 15 مليون دولار (صور)    قيادي بحماس: ما نقبلو حتى هدنة بلا وقف دائم للحرب فغزة    فيتنام تسجل درجات حرارة قياسية فأبريل    رئيس أساقفة القدس المطران عطا الله حنا يوجه رسالة إلى مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي الدكالي    قاتل والده بدوار الغضبان يحاول الانتحار بسجن سيدي موسى بالجديدة    جائزة ميامي للفورمولا واحد : فيرستابن يفوز بسباق السرعة    السعودية حكمات بالحبس 11 العام على مناهل العتيبي غير حيت دعمات حقوق المرا.. و"امنيستي" كتطالب بإطلاق سراحها    لشكر ينتقد "عقلية العنف" لنظام الجزائر ويطالب الحكومة بالعناية بجهة درعة    بطولة انجلترا: إيبسويتش تاون يعود للدوري الممتاز بعد 22 عاما    اللعابا د فريق هولندي تبرعو بصاليراتهم لإنقاذ الفرقة ديالهم    أخبار سارة لنهضة بركان قبل مواجهة الزمالك المصري    طنجة .. لقاء يبرز أهمية المنظومة القانونية للصحافة في تحصين المهنة والمهنيين    توقعات أحوال الطقس ليوم الأحد    من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟    رئيس بلدية لندن العمّالي صادق خان ربح ولاية ثالثة تاريخية    إدارة المغرب التطواني تناشد الجمهور بالعودة للمدرجات    قمة منظمة التعاون الإسلامي.. الملك يدعو إلى دعم الدول الإفريقية الأقل نموا    موريتانيا حذرات مالي بعدما تعاودات الإعتداءات على مواطنيها.. ودارت مناورات عسكرية على الحدود    أسواق أضاحي العيد ملتهبة والمغاربة أمام تغول "الشناقة"    لمجرد يقطع صمته الطويل..قائلا "أريد العودة إلى المغرب"    طنجة.. محاميون وخبراء يناقشون رهانات وتحديات مكافحة جرائم غسل الأموال    التوقيع على ثلاث اتفاقيات للتنمية المجالية لإقليمي تنغير وورزازات    القضاء يدين سائحا خليجيا بالحبس النافذ    دراسة.. نمط الحياة الصحي يمكن أن يضيف 5 سنوات إلى العمر    افتتاح معرض يوسف سعدون "موج أزرق" بمدينة طنجة    ارتفاع حركة النقل الجوي بمطار الداخلة    تعيينات جديدة فال"هاكا".. وعسلون بقى فمنصب المدير العام للاتصال    "دعم السكن" ومشاريع 2030 تفتح صنابير التمويل البنكي للمنعشين العقاريين    هل تبخر وعد الحكومة بإحداث مليون منصب شغل؟    صناديق الإيداع والتدبير بالمغرب وفرنسا وإيطاليا وتونس تعزز تعاونها لمواجهة تحديات "المتوسط"    بطل "سامحيني" يتجول في أزقة شفشاون    مهرجان الدراما التلفزية يفتتح فعاليات دورته ال13 بتكريم خويي والناجي (فيديو)    صندوق الإيداع يشارك في اجتماع بإيطاليا    انتهى الموضوع.. طبيب التجميل التازي يغادر سجن عكاشة    بمشاركة مجموعة من الفنانين.. انطلاق الدورة الأولى لمهرجان البهجة للموسيقى    كيف تساعد الصين إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية؟    أزيلال.. افتتاح المهرجان الوطني الثالث للمسرح وفنون الشارع لإثران آيت عتاب    خبير تغذية يوصي بتناول هذا الخضار قبل النوم: فوائده مذهلة    الأمثال العامية بتطوان... (589)    دراسة… الأطفال المولودون بعد حمل بمساعدة طبية لا يواجهون خطر الإصابة بالسرطان    المغرب يسجل 13 إصابة جديدة بكورونا    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الشيلي خورخي إدواردزْ : لأنّ الأدب يأتي من الذاكرة، فأنا أذهبُ إلى أقصى الحدود

في الصالون الواسع الذي كان ملتقى للنخبة المثقفة الباريزية، وكتاب أمريكا اللاتينية. صالون سفارة الشيلي بباريس، كان إزابيل ألندي قد عيّن فيه الشاعر بابلو نيرُودا سفيرا للشيلي في فرنسا، قبل أن يخلفه الكاتب والرّوائي خورْخي إدوارْدز، الذي كان مستشارا له. فيما يلي بعض الذكريات التي يستحْضرها الكاتب- السفير عن حياته وكتبه وصداقاته وعداواته.
ننهي حياتنا داخل الغلاف البريدي الذي تنكتب فيه ذكرياتنا.أحيانا، يتم إرسالها من باريس. هناك روائيّ يبلغ من العمر 81 سنة أنهى قبل سنتيْن حياته الدبلوماسية، حياة الكاتب-الدبلوماسي، في المدينة التي بدأ فيها مشواره قبل خمسين سنة. هو سفير الشيلي بفرنسا، حائز على جائزة سرفانطيس للأدب، محبّ للخمرة الجيّدة والرقص والنساء الجميلات، ويُسمى خورخي إدواردز.
على جدران قاعة الاستقبال، وبالقرب من السجادات الفرنسية العتيقة التي تمثّل مشاهد لعمليات القنص، علّق لوحة لماطا، ولوحة مدادية لفنان شيلي من جيله، هو كارلوس فازْ، الذي رمى نفسه، في سن الثالثة والعشرين من باخرة سابحا في اتجاه أورليون الجديدة، غير أنه مات غرقا قبل أن يصل إليها. وهي السنّ التي كان يبلغها إدواردز حين كتب رسالة للمرة الأولى إلى الشاعر بابلو نيرودا. ولا يمكن للمرء أن يتخيّل اليوم تلك الشهرة التي كان يتمتع بها نيرودا وقتها، حين كان الكتّاب بمثابة نجوم. فيما بعد سيصبح إدواردز كاتبا بسفارة الشيلي خلال الفترة ما بين 1963 و1967، ثمّ مساعدا لنيرودا من سنة 1971 إلى 1972، حين كان سفيرا للشيلي بفرنسا ممثلا لسالفادور ألندي قبل وفاته بثلاث سنوات. أما خورخي إدواردز، فقد عيّنه سفيرا رئيس اليمين، الذي دعّمه، سيبستيان بينييرا، الأمر الذي دفع الشيليين إلى اتهامه بالخيانة.
كان إدواردز قد أعرب يوما لنيرودا عن رغبته في أن يصبح كاتباً. وقيل له إن اسم عائلته يرمز للثراء والنفوذ في الشيلي، وأنه إذا كرّس نفسه للأدب، فإنه سيتعرض للمضايقة باستمرار. وهذا ما حصل فعلا.
اختير خورخي إدواردز للفوز بالجائزة الدولية للآداب لعام 2009 والتي تمنحها مؤسسة (كريستوبال جابارون) الإسباني، بفضل واقعيته التاريخية وقدرته على الالتقاط الدقيق، والخوْض في التفاصيل.
وكانَ إدواردزْ قد قال، في الحفل الذي أقيم في مدينة بلد الوليد الإسبانية لتسليمه الجائزة، إنه مدين لكبار الكتاب الكلاسيكيين الإسبان من القرنين الخامس عشر والسادس عشر وبينهم خوان دي لا كروث، وجونجورا، وكيبيدو. وأضاف أنه أصبح كاتبا بفضل «تلك القراءات التي اطلع عليها في مراهقته بمدرسة لوس خيسويتاس» بالعاصمة التشيلية سانتياجو دي تشيلي وذكر منها أيضا جيل 1898. وتابع قائلا: «لقد فعلت أشياء كثيرة في حياتي. فقد كنت بوهيميا بعض الشئ، لكني حافظت دائما على وفائي للقراءة والكتابة اللتين سمحتا لي بالاحتفاظ بحسي الأخلاقي، والنفسي، والروحاني».
موهبة خفيّة
ينحدر خورخي إدواردز من واحدة من العائلات الكبرى المحافظة بالشيلي. وهو شخص محبّ للحياة مقبل عليها. غير أن حياته، بتحوّلاتها وتناقضاتها، ارتبطت بتحوّلات اليسار الأمريكي اللاتيني. لذلك لمْ يكن من قبيل الصدفة أنْ يستلهم في واحدة من أهمّ رواياته، وهي «متشرّد العائلة»، عالمه التخييلي من حياة جواكيمْ إدواردز بولو، أحد أعمامه، وكان كاتبا «تحدّى عائلة إدواردز، من جهته هو ومن جهتي، في وقت لم تكن هذه المسألة سهلة». هذا في الوقت الذي بقي فيه ابن أخيه على حافة-هامش التحديات التي أطلقها هو نفسه بشجاعة في وجه العائلة وكوبا واليمين واليسار، وفي وجه الكتّاب الذين أحبّهم. ومع ذلك فإن انتسابه العائلي دفع عالم اجتماع مثل ألانْ تورينْ، الذي كانت زوجته شيلية، وكان يعرفه كثيرا، إلى أنْ يقول عنه:»إنه أرستوقراطي رغم كل شيء».
كان الشاعر الشيلي السوريالي، بروليو أريناسْ، هو عمّ زوجة ألان تورين، وهو بدوره كان يعرف إدواردز حقّ المعرفة يقول عنه: «لقد كان يعرف كلّ شيء، وقرأ كل شيء، كانت له مراسلات مع أندري بروتون وسُوبّو وبنيامين بيري. وانتهى به المطاف إلى دعْم بينوشي».
ولد خورخي إدواردز في سانتياغو بالشيلي. ومنذ طفولته، كان له ميل كبير إلى القراءة، لكن لم يفكر أبدا في إمكانية أن يصبح يوما كاتبا محترفا. طالباً في مدرسة سان اغناتسيو دو لويولا، تم تأهيله من قبل الأب البيرتو هورتادو (مار شربل الشيلي). وتعمق اهتمامه الأدبي وكتب بالتالي أوّل نصوصه حول البحر. بعد إنهاء دراسته، تابع خورخي إدواردز دراساته في الحقوق في جامعة الشيلي.. عام 1952، نشر أول جزء له من القصص «لو باسيو» الذي حقق نجاحا كبيرا. عام 1957، بدأ عمله كديبلوماسي، معتقدا انه يمكنه أن يستجيب لتوقعات عائلته، من دون أن يوقف الكتابة. عام 1962، حرّر جزءا آخر من القصص بعنوان «أهل المدينة».
كانت للكاتب-السفير نظرة ضاحكة، وغالبا ما تقترن بابتسامة طفيفة. كان إدواردز مثل بودلير، إذْ له من الذكريات كما لو كان قد عاش ألف سنة. لكنه لمْ يكن يبدي أيّ امتعاض أو حزن عليها. يعترف فقط بأنّ منصبه يتعبه، وأنه يفضّل أنْ يفرد سنواته المتبقية للكتابة، أنْ ينهي حياته كاتبا. حول مكتبه تتراكم عدة كتب فرنسية، وبخاصة كتب من منشورات «لابْلياد»، من بينها كتاب مونْتينْ. كتابه الأخيربعنوان «موتُ مونتينْ»، صدر سنة 2011، وهو كتاب لمْ يُترْجمْ إلى اليوم. وهو عبارة عن صورة ذاتية في مرآة مؤلّف «المقالات». لذلك يكتب إدواردز عن نفسه، مشبّها إيّاها بمونتين: «أخرج من البيت دائما غيْر مُستعدّ بما يكفي. ذلك أنّ ما هو شخصيّ وحميميّ، أيْ الخاصّ بعبارة أخرى هو أنا. وسوف تستنتجون بأنّ مونتين، هو أنا؟ أنا آسف لكوني خيّبتُ أملكمْ. ولستُ مجنونا قادما من الشيلي الرهيبة والبعيدة، لكي يدّعي بأنه مونتين ».
يعرّف خورخي إدواردزْ نفسه بأنه روائيّ الذاكرة. بالنسبة له، أنْ يكون المرء كاتبا ليس فقط مهنة، بقدر ما هي دعوة. وبما أنّ الكاتب وجدان يجب أن يكون مستنفرا على الدوام، ويأسف لكون قلة يقومون بذلك، كما يعترفُ بأنهم كثر أولئك الذين يولون أهمية للجوائز ولبيع كتبهم أكثر من اهتمامهم بالكتابة. «فكرت مرّات عديدة بالتخلي عن الأدب، لكن أعرف أنني لنْ أقوم بذلك أبدا، أحبّ الكتابة، وقرّرتُ أن أكون كاتبا. وأعرف جيدا أن هناك لذة تفوق كل شيء: تلك الخاصة بالقراءة، تلك هي اللذة اللامتناهية».
كنا نحب بارت وباطاي... وسارتر
فوق الجميع
كان الأزمنة الباريسية التي عرفت «انفجارا» كبيرا للرواية الأمريكية اللاتينية:»كنا نلتقي كثيرا فيما بيننا: في «أولد نافي» وشارع سان جيرمان على سبيل المثال. كنا ننظر إلى الرواية الجديدة في فرنسا بنوع من المسافة. وعلى أمواج الإذاعة، كنا ننخرط في مناقشات وجدالات دفعا للسأم والملل. كنا نحب رولان بارت وليفي ستروس وجورج باطاي ومارغريت يورسينار، وفوق الجميع، بطبيعة الحال، جان بول سارتر. كنا مع اليسار أكثر، ولذلك كنا مناهضين ومعارضين لدوغول، غير أنني كنت أجد شخصية دوغول جدّ هامة. كنت أحضر ندواته الصحافية، وكان يعجبني فيه معرفته الكبيرة بفرنسا، والسرعة التي يرسم بها الأوضاع». ثمّ يتابع بنبرة لاهية وساخرة، كما لو أنّ تيّارا هوائيا دغدغ وجهه:» لكن بعد هذا وذاك، فحتى ريجيس دوبري أصبح منتسبا إلى شارل دوغول، أليْس كذلك؟».
خلال سبعينيات القرن الماضي، كان ريجيسْ دوبري قد ساهم في أنْ تُكتبَ على ظهر الطبعة الفرنسية، عن شخص إدواردزْ عبارة «شخص غير مرغوب فيه»، لموقف هذا الأخير من فيديلْ كاسترو. يومها كان دوبريه غارقا في ولائه لكاسترو ومستعدا لكل شيء.
في سنة 1970، كانت الحكومة الشيلية قد أرسلت إدواردزْ في مهمة خاصة إلى هافانا من أجل إعادة العلاقات الديبلوماسية الثنائية المقطوعة. وخلال ثلاثة أشهر ونصف صنفه فيديل كاسترو على أنه «شخص غير مرغوب فيه» لدعمه المثقفين الثائرين على النظام. ودفعته هذه التجربة إلى كتابة «برسونا نونْ نغراتا» (شخص غير مرغوب فيه) الذي نشره عام 1976 . كان الكتاب قد أثار جدلا كبيرا لانتقاده المباشر للسياسة الكوبية. في ذلك الوقت، اعتبر خورخي إدواردزْ كاتبا بالنسبة للنقاد في محيطه، ولقي منذ ذلك الحين رفضا من قبل القطاعات السياسية المختلفة والطبقات الاجتماعية. على الرغم من ذلك، تم الاعتراف به ككاتب كبير، وحتى أن نقادا لمْ يقتصروا على مدح انتقاده المباشر لنظام كاسترو الدكتاتوري، بل اعتبروه كاتبا حقيقيا بفضْل مواضيعه المتمحورة حول القلق من الوقت والواقع التاريخي في أمريكا اللاتينية.
كان إدواردز يعرف هافانا جيّدا، مثلما يعرف كتّابها الذين اندمج معهم وبات كثير الالتقاء بهم. غير أن الأمور تغيرت: ذلك أن معظم أصدقائه تعرضوا للاعتداء أو أُبعدوا من طرف النظام. ومع ذلك، فقد ظلّ إدواردز يبحث عن أصدقائه كما لو أنّ شيئا لم يحصلْ، وكما لو أنه لم يكنْ في مهمة دبلوماسية. لذلك أخذوه ووضعوه تحت المراقبة بفندق ريفييرا. وكان فيديل كاسترو قد رآه مرّتين فقط، مرة أولى حين استقبله، ومرة ثانية لكيْ يطرده بعد ثلاثة أشهر ونصف. وخلال هذا اللقاء ألقى كاسترو كلمة بلاغية طويلة أمام إدواردز أنهاها بالقول:» لمْ تتجنّب أيّة دولة اشتراكية ما قمنا به نحن هنا، وهو استبدال الثقافة البورجوازية العتيقة، التي استطاعتْ البقاء على قيد الحياة، بثقافة اشتراكية. إن الخطوة صعبة، غيْر أنّ المثقفين البورجوازيين، كما قلتُ سابقا، لا يهمّوننا، على الإطلاق، لذلك كنتُ أفضّل ألف مرّة أنْ يبعثَ إلينا ألندي عاملا في منْجم عوض كاتب». لكن كاسترو لم يكتف بهذا، بلْ إنه بعث برسالة إلى الرئيس الشيلي يستنكر فيها مبعوثه المعادي للثورة، الأمر الذي أغضب ألندي، وكاد ينهي المسار الدبلوماسي لإدواردزْ.
غير أنّ هذا المسار أنقذه رجلان اثنان، الأوّل هو وزير الشؤون الخارجية الشيلي، الذي كان له موقف حذر من الكوبيين، والذي يقول عنه:» لخّصتُ له كتابي القادم في عشرين دقيقة. أَنصتَ إليّ، وأخبرني بأنّ الخصام الكبير الذي كان له مع ألندي، كان بسببي».
أما الرجل الثاني فهو الشاعر بابلو نيرودا، الذي كان مريضا ومع ذلك فقد قبل منصب سفير دولة الشيلي بفرنسا. وبادر إلى تعيين إدولردزْ مستشارا خاصا له، أيْ أنه بات هو الرجل الثاني بعد نيرودا. اتصل به على الساعة السابعة لكي يخبره باختياره له. وفي السفارة، كان يستقبله كل يوم في الساعة نفسها من أجل ترتيب اللقاءات والمواعيد اليومية. كان نيرود يكره نظام فيديل كاسترو، بعد أن شكّك هذا النظام، في رسالة مفتوحة، في صدق التزام نيرودا الشيوعي، إثر الزيارة التي قام بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لمْ ينْس الشاعر الكهل والمحنّك لا المواجهات ولا التسويات ولا مآزق الإيديولوجيا. وقد نصح إدواردزْ بتحرير كتابه لكنْ دون أن ينشره. غير أنّ إدواردزْ سيكتبه وينشره، بلْ لقد كتبه بباريس، كان يستيقظ كل صباح عند الفجر، ويحرّر صفحات منه قبل بداية يومه الدبلوماسي. أنهى كتابه في اللحظة نفسها التي توفّي فيها، بعد العملية الانقلابية لبينوشي، ناصحه ورئيسه نيرودا بأحد مستشفيات الشيلي بعد فترة معاناة مع مرض السرطان والحزْن.
وهكذا سينشر كتابه «شخص غير مرغوب فيه» بعد مرور شهر على دفن جثمان نيرودا، الذي لم يتمكّن إدواردز من حضور مراسيمه. وخلال هذه الفترة تعرّض بيت نيرودا للسرقة من طرف الفاشيين. وفي سنّ 43 من عمره، أصبح إدواردز واحدا من الأشخاص القلائل غير المرغوب فيهم لا في الشيلي ولا في كوبا. ومن ثمّ أصبح من كبار المعارضين لنظام بينوشي، وكان عليه أنْ يغادر مساره الدبلوماسي ويعيش في المنفى مثل آخرين. بعد ذلك، عمل صحافيا بإسبانيا، ولمْ يتمكّن من العودة إلى الشيلي قبْل سنة 1978. غير أنه بنشره هذا الكتاب الذي يروي تفاصيل الرعب في الرسائل الكوبية، سوف يثير غضب جزء من النخبة المثقفة بكل من فرنسا وأمريكا اللاتينية.
مرّت أربعون سنة، وما فتئ خورخي إدواردزْ، الكاتب العفيف والشريف، غير منشور بما فيه الكفاية بفرنسا، كما لوْ كان رجل الكتاب الواحد والوحيد. كتاب ممتاز، صحيح، لكن الجميع يفضّلون نسيانه. هناك نجاحات تعزلنا وتجعلنا محدودين.
«ستاندال في هافانا»
ومع ذلك فإن الكتاب يذكّر الناس بأسلوب الروائي الفرنسي ستاندال. أسلوب الوصف الدقيق والتفصيلي للشخوص وملامحه وطرق حديثها وكيفية أكلها وشربها الخ. وبالفعل، فإنه عبارة عن رواق من البورتريهات في بلاد وفي زمن بدت فيها الظروف أبدية، أو كأنها أبدية، رغم الفقر وغرابة النظام السياسي. يقول إدواردز عن كتابه:»لقد حقق رقم مبيعات مرتفع، في كل من الشيلي وكوبا، رغم أنه كان ممنوعا من البيع. وبقدر ما حقّق لي صداقات جيدة من كتّاب من طينة أوكتافيو بازْ، فقد جلب عليّ عداء كتّاب من فرنسا وأمريكا اللاتينية، أما في المانيا فقد أقيم عليّ الفيتو، بينما ساندني في أنجلترا غراهام غرينْ».
مرّت أربعون سنة، ولا يبدو أنّ إدواردز نسي شيئا من الماضي في أدق تفاصيله. ربما لهذا السبب كتب عنه ماكْسْ غالو، في أسبوعية «الإكسبريس» مقالا بعنوان «ستاندال في هافانا». من بين تلك الذكريات التفصيلية، استحضاره لخصومته مع الكاتب الأرجنتيني خوليو كولتزارْ، الذي كان مواليا لفيديل كاسترو. كان قد تعرّف عليه خلال زيارته الأولى للعاصمة الفرنسية باريس في الخمسينيات من القرن الماضي، عن طريق كاتب البيرو المعروف ماريو فارغاس يوسا، والذي لم يكن وقتها قد نشر أيّ نصّ له. يكتب عنه قائلا: «لقد كان يساريا أكثر من اللازم، ومعجبا بالروائي الفرنسي فلوبير. ذات يوم، دعاني لتناول العشاء معه، حين وصلت دخلت إلى قاعة قليلة الإنارة تحتوي على ثلاثة كراس. في الوسط، جلس البدين كولتزارْ بعيْنيه المبرقتيْن، وعلى اليمين جلست والدته، في حين اقتعدتْ زوجته الكرسي الموجود في اليسار. انتابني إحساس بأنني أوجد أمام مشهد ساذج. انتبهتُ إلى اللوحات الفنية المعلّقة على الجدران، كانت كلها لوحات تجريدية. وكان كولتزارْ يقرأ الأدب الذي يُسمى «أدبا هامشيا»: أرطو، باطاي، شووبْ. تغيّر كثيرا بعد سفره إلى كوبا. من قبل، كنتُ أعتبره فرنسيا بكل معاني الكلمة. وفي سنة 1958، حين انتابنا الخوف من حدوث انقلاب عسكري، خاف كولتزار من أنْ تهدّم الدّبابات «باريسه». اكتشف أمريكا اللاتينية في كوبا». وبعد صدور «شخص غير مرغوب فيه، لم يكلّما بعضهما البعض بعد ذلك.
كما يستعيد سياق حصول الشاعر بابلو نيرودا على جائزة نوبل للأدب. ففي باريس علم هذا الأخير فوزه بالجائزة سنة 1971: «التحق به لوي أراغون الذي بدا أكثر سعادة من الفائز». أما نيرودا فإنه يكتب في «أشهد أنني عشتُ»:» ذات مساء من شهر أكتوبر، دخل الكاتب ومستشار السفارة خورخي إدواردز إلى قاعة الأكل واقترح عليّ بأسلوبه الطريف رهانا بسيطا: في حالة فوزي بالجائزة، أدعوه هو وزوجته لتناول العشاء في أفخم مطعم بباريس. أما إذا لم أحصل عليها، فهو الذي سيتولى دعوتي أنا وزوجتي ماتيلدا. جزء من سرّ إدواردز تبيّن في اليوم الموالي. ذلك أنّ صحافية كانتْ صديقة له اتصلتْ به هاتفيا من استوكهولم لكيْ تخبره بأن الحظوظ كلها كانت إلى جانب نيرودا للحصول على نوبل».
عن يومية «ليبيراسون» الفرنسية، 14
أكتوبر 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.