لأول مرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية يتم انتخاب رئيس لها من خارج العنصر الأوربي. ففي يوم الأربعاء 13 مارس تصاعد الدخان الأبيض من مدخنة غرفة الكرادلة ،معلنا عن انتخاب بابا جديد هو الأرجنتيني «خورخي بيرغوليو» الذي اختار لنفسه إسما جديدا ? كما جرت الأعراف بذلك ? هو إسم «فرانسوا» الأول. و لاختيار هذا الإسم بالذات دلالته، فالقديس فرانسيس هو قديس الفقراء و بالتالي فقد أعلن البابا الجديد اختياره سبيل التقشف و هو الأمر الذي أكده بعد برهة حين رفض السكن في القصر البابوي مكتفيا بشقة متواضعة داخل الفاتيكان. و هو نفس الأمر الذي قام به في الأرجنتين حين رقي كاردينالا لكل البلاد، فاستغنى عن السيارة الوظيفية و سائقها و واصل ركوب المواصلات العمومية كما أنه دأب على طبخ طعامه بنفسه. و من المعروف عن كبير أساقفة «بوينيس أيريس» و الأرجنتين، الذي أصبح البابا السادس و الستين بعد المائتين للكنيسة الكاثوليكية، خجله الشديد و قلة الحديث و هو محبوب بشكل كبير من طرف رعاياه الذين يقدرون نمط حياته الخالي من كل مظاهر البذخ. و من المعروف عنه أيضا محافظته الشديدة في المجال الاجتماعي (رفض الزواج المثلي و رفض الإجهاض..) لكنه في نفس الوقت انتقد القساوسة الذين يرفضون تعميد الأطفال غير الشرعيين. و قد وُلد البابا الجديد ? الذي يعيش برئة واحدة منذ أن كان في العشرين من العمر- في «بوينيس أيريس» سنة 1936 داخل أسرة متواضعة، إذ كان والده المنحدر من أصول إيطالية عاملا في السكك الحديدية. و أنهى دراسته بدبلوم تقني في الكيمياء .و حين بلغ الثانية و العشرين من العمر انضم إلى جمعية اليسوعيين حيث درس العلوم الإنسانية و حصل على شهادة في الفلسفة. و أثناء ممارسته التعليم في القطاع الخاص تابع دراساته الدينية إلى أن تم تعيينه، في 13 ديسمبر 1969 ، قسيسا و بعد أقل من أربع سنوات، و عمره لا يتعدى السادسة و الثلاثين تم انتخابه مسؤولا وطنيا لليسوعيين الأرجنتينيين. توجه بعد ذلك إلى فريبورغ بألمانيا لمواصلة الدراسة حيث حصل على الدكتوراه, و لدى عودته تولى رعاية أبرشية في مدينة «كوردوبا» ثم تسلق درجات السلك الكاثوليكي تباعا إلى أن عينه البابا كاردينالا في 21 فبراير 2001. و رغم هذا المسار الصاعد إلا أن الرجل حافظ على تواضعه و تكتمه حسب معارفه و زملائه القساوسة، فهو ينهض على الرابعة و نصف فجرا و ينهي يومه على التاسعة ليلا.لا يملك سيارة و يتنقل بواسطة وسائل النقل العمومية و تنازل عن السكن في شقته الوظيفية الباذخة في بوينيس أيريس. و معروف عنه الإنصات لطلبات معاونيه، الذين يتصلون به في أي وقت من خلال خط هاتفي مباشر، و لم يسبق له أن أجرى أي حوار مع أي صحيفة أو مجلة رغم مُواظبته على قراءة الصحف. و من المعروف عنه ولعه بروايات الأديب «خوسي لويس بورخيس» و «دستوفسكي» كما هو محب للأوبرا و مشجع متحمس لفريق «بوينيس أيريس سان لورنزو» لكرة القدم. لكن ما أن عرف إسمه كبابا جديد حتى طفق الباحثون و الصحفيون في التنقيب عن ماضي و تاريخ رجل الدين الأرجنتيني هذا، و البحث في بطون الأرشيفات للاطلاع على ماضيه. و تبين أن ماضي الرجل لم يكن ناصع البياض تماما و أن تقشفه و بساطته لا يغفران له تواطؤه مع النظام الدموي الأرجنتيني خلال سنوات الرصاص و لم يكن قديسا تماما. و في هذا السياق تساءلت صحيفة «بروسيسو» المكسيكية مثلا عن علاقاته مع الدكتاتورية في الأرجنتين التي دامت سبع سنوات دموية زارعة الرعب و الإرهاب في صفوف المواطنين و أدت إلى اختفاء أكثر من ثلاثين ألف مواطن في ظروف غامضة. و رغم أنه لا توجد أي وثيقة أو دليل يثبت تورط البابا الجديد في الأعمال الدنيئة لتلك الحقبة، إلا أن بعض ضحايا الطغمة العسكرية لتلك الفترة العصيبة يؤكدون بأن الأسقف «خورخي ماريو بيرغوليو» كان مساندا للنظام. و يعود كثير من المراقبين الحاليين إلى كتاب «الصمت» (إيل سيلونسيو) للصحفي الأرجنتيني «هوراسيو فيربيتسكي» و هو كتاب توثيقي هام أصدره عام 2005 حول دور الكنيسة في «سنوات الرصاص» و خاصة حادثة اختطاف قسيسين يسوعيين يعملان تحت إمرة «خورخي بيرغوليو» و هما «أورلاندو يوريو» و «فرانسيسكو خاليكس» اللذين اختُطفا من طرف النظام و مكثا تحت التعذيب لمدة خمسة شهور بتهمة «زعزعة النظام الاجتماعي» بل إن أحدهما قال بصراحة في سنة 1985 بأن «بيرغوليو» البابا الجديد هو من وشى بهما ضمن لائحة لليسوعيين المعارضين ، لجلادي النظام، و هو الأمر الذي نفاه «خورخي ماريو بيرغوليو « باستمرار قائلا أنه على العكس ساعد كثيرا من المعارضين على الهرب و مغادرة البلاد سرا. و مع ذلك فإن هذه الفترة ستظل لطخة تطارد البابا صديق الفقراء.