في رواية ناجحة، كما نعرف، يوجد ما هو ميكانيكي و توجد الروح، الصور البلاغية و خفايا اللاشعور.. وليس أقلّ ما يميز كتاب « اعترافات روائيّ شاب « كونُه يتناول بالوصف والبرهنة و لتنقيب مُحرِّكي الخيال هذين مع الحرص على التوازي بينهما.. وكمْ هو صحيح أن روايةً تعتمد فقط على المهارة بدون روح، لا يمكن أن تمنح القارئ ما يُمَكِّنُ متخيَّله من السفر وإطلاق العنان للاّشعور لديه.. نشر أمبرطو إيكو، أستاذ السيميوطيقا ذو الفضول اللامحدود، أول رواية له وعمره لا يتجاوز 48 عاما.. ويحكي، في هذا الكتاب، كيف أنه استند، من أجل شقّ طريقه، إلى معارفه التاريخية لكيْ يبدع شخوصا وحالات وأماكن جعلها تتمتع بالحياة.. إنها قضية هذا الكتاب الكبرى، بحيث يضم هذا الأخير عدة نصوص ومحاضرات ألقيتْ في الولاياتالمتحدة حول ماهية «الشخصية الخيالية» وما يجعلها أكثر واقعية من شخصيات وُجدتْ وعاشت في الواقع ( ما يسميه إيكو ب « الكائنات الموجودة فيزيقيًا «) وحول ماهية المكان الخيالي، وكيف نبحث عنه في خريطة.. (...) و يحكي إيكو، أيضا، كيْف أن قرّاءه الذين أعادوا قراءة رواية « اسم الوردة « مرات عديدة كاتبوه ليخبروه بعنوان «صاحب المكتبة» ب «بوينوس أيريس» والموقع الجغرافي للدّير،الخ.. بأيّة معجزة يتخذ المكان الموصوف داخل روايةٍ كُل أبعاده ؟ كيف لمتخيّلنا أن يبلغ به الأمر ? بتوجيه من المؤلف طبعا ? حَدَّ التحرك في ممرات وفناءات وخنادق ديْرٍ مُحصّن لا وجود له ؟ أمبرطو إيكو أستاذ مقتدر ويتمتع بموهبة بيداغوجية بحيث يعرف كيف يتخذ وجهات النظر، إن من منظور سيميوطيقي أو أنطولوجي وكيف يدلّل الصعاب لتصبح المقولات الأشد عسرًا ممتعة ويسيرة المنال.. إنه يستخدم كل خيوط البيداغوجيا ليستدرجنا نحو التفكير في موضوعات غير متوقَّعَة ومَعينه لا ينضب حين يتعلق الأمر بسبْر أغوار تقنيات وبلاغيات الكتابة الروائية... فموهبته كبيداغوجي تُزهر و تتفتح في هذا المجال الصعب.. فهو ينجح في شد انتباهنا حينما يعقد مقارنات بين جميع أنواع مصنفات الألفاظ و الأفكار.. وعلى غرار ما سبق ذكره، استطاع إيكو، بإدخاله مفهومي «القارئ النموذجي» و»القارئ الفعلي أن يضع أيدينا على سحر الكتابة الروائية وهي في خضم فعل إجرائها.. من يكتب و لأي قارئ و كيف؟ .. للإجابة على هذه الأسئلة الأخّاذة، يستخدم أمبرطو إيكو، وبمهارة، أكثر الأبحاث دقة مُدلٍيًا، بلا رصانة كاذبة، ولا تحذلق، بشهادته كَ «فاعل للكتابة».. يضم العمل بين دفتيه ما ينٍمُّ عن معرفة واسعة، لكنها محببة إلى النفوس، سهلة الاستيعاب.. و يضع أيكو بين أيدينا عناصر تُمكِّننا من أن نفهم كيف استلهم بعضًا من أفكاره بخصوص حبكات وأماكن وبنيات قصصه مُعتمِدًا على ما علق في ذهنه من أضغاث ذكريات و على ما قرأه من مؤلفات أيام الشباب و ما بَرَقَ من داخل لاشعوره من اشراقات.. فمنْ خلال امتحان الصدق المطلق هذا، ينكشف الأستاذ إيكو روائيًا شابًّا لتكون نضارته المرٍحة َ، أحيانًا، واحدة من أجمل مفاجئات هذا الكتاب الصادر عن دار «?راسي» مُترجمًا عن اللغة الإنجليزية بقلم «فرانسوا روصو».. (عن جريدة لوموند بتصرف 05 أبريل 2013 )