لست أدري لماذا شدتني قصة "الرمل" أكثر من غيرها في "شجرة الحكاية" للقاص عبد الهادي الفحيلي. ولست أدري لماذا اعتبرتها روح ذلك الطفلالسارد "الذي يمتلك سبعة أرواح، والذي يموت كثيرا من المرات دون أن يموت فعلا". قصة "الرمل" لا تشبه قصص المجموعة التي تتبادل الأدوار داخلها موضوعات الطفولة الشطارية والأب القاسي والأم الحانية والحبيبة التي تبتسم من عينيها والنساء اللذيذات والمكتظات والسخيات والشبقات. ومع ذلك فإنها تكاد تخبرنا جميعها، على لسان السارد العليم، أن "لاشي موجود غير الرمل"، وأن شجرة الحكاية لا تستدعي شيئا سوى تلك القرية "المترملة"، وأن كل حكاية صحراء تبتسم بمكر لمن يعتقد أنها الشجرة. لنتأمل ما كتبه لويس خورخي بورخيس في نهاية قصته الشهيرة "كتاب الرمل": "وفكرت بالخلاص منه [كتاب الرمل] بالنار، إلا أنني خشيت أن يبرهن حريق كتاب لانهائي بطريقة موازية على أنه لانهائى فيخنق كوكب الأرض بالدخان، وتذكرت أنني قرأت في مكان ما أن غابة هي أفضل مكان لإخفاء ورقة شجرة." ما استرعى انتباهي هنا هو الغابة التي اعتبرها بورخيس أفضل مكان لإخفاء ورقة شجرة؛ وهذا ما حاول أن يفعله بنا عبد الهادي الفحيلي: أن يخفي "الرمل" الذي يملأ "سارده" خلف شجرة لا توجد فعلا في المجموعة. لا وجود لقصة تحمل هذا العنوان. وإذا كان بورخيس يعتبر أن "الخرافة في "حبل الرمل" ليست في مفهوم "الحبل" ولا في مفهوم "الرمل" كل على حدة، إنما الخرافة في هذا الجمع العجيب بين "الحبل" و"الرمل"؛ حبل من رمل!"، فإن الخرافة في مجموعة "شجرة الحكاية" هي في هذا التواطؤ بين "الشجرة" و"الحكاية" لإخفاء الرمل الذي لا يعرف الناس من أين أتى. كل ما يعرفونه هو أنه غمر قريتهم ويزحف نحو بيوتهم دون أن يفطن أحدهم إلى أن "السارد الهائم على وجهه" هو من يمرغ وجه القرية بمروره الرملي. الرمل نزل من السماء/ السماء لا تمطر رملا. ربما هذه رمال شاطئ ما/ القرية بعيدة جدا عن البحر. كثر المنكر في القرية/ هذا إنذار من السماء. إنه لعنةٌ (ما) هذا الرَّملُ الذي تحجبه الشجرة التي تجعلنا ننزلق، مع السارد، بين الأزمنة والفضاءات (مثل لقطة مفاجئة في فيلم) أو (مثل كتاب يطير في الهواء بينما الدنيا تنطفئ، وكل شيء يتقدم "إلى الأمام.. إلى الأمام، ولكن نحو الماضي"؛ نحو الضحك والشقاوة واللذة.. "الضَحِك المُختزَل"، الضحك اللامفسَّر، المبالغُ فيه، قليلُ الحياء، الضحك الذي يضع حداً للتفسير الفرويديّ للنفس البشرية؛ الضحك الذي يوقف التحليل النفسي عند حده". الضحك الذي تنتزعه الحكاية من البكاء: "أمي لم تكن الوحيدة التي تبكي في البيت. حتى أخي الأكبر رأيت دموعه مرات عديدة. كنت صغيرا، فأقول لنفسي: "ياه يبكي مثل امرأة". أختي الكبيرة كانت تمتلك بحرا زاخرا من الدموع. قبل أن تتزوج كانت تبكي كثيرا. لم أكن أعرف الأسباب لأني كنت صغيرا جدا ولو أني كنت أرى أبي ينهال عليها ضربا وشتما. لم تكن الوحيدة التي كان أبي يضربها. أمي كانت تأخذ حصتها وبسخاء" (الدموع. ص:21). الضحك الذي يمكر بالصلاة التي تخفي تصريحا لا يضاهي بالممتلكات "الثوب الذي يكاد ينشق بسبب وفرة الجسد وفورته" في قصص (ذكرى من لهب) و(دموع) و(ذات جنون). والضحك الذي يختفي وراء "غواية الجرح" في "ياك أجرحي" أو وراء "لقيتو شاد دري صغير ورا الحايط ديال المدرسة أو منزل ليه سروالو" في (حالة شغب). إنه الضحك المترمل الذي ينقل لنا صراع الذاكرة ضد النسيان صراع الرمال ضد الرياح. يقول ميلان كونديرا في "كتاب الضحك والنسيان": "إن لكل إنسان قصة حقيرة بتاريخه الشخصي، لهذا هو يريد أن يمحو هذه الحقارة، فيحاول القبض على التاريخ ليكتبه كما يريد هو". وبمعنى من المعاني إن التاريخ (أو السيرة الذاتية) هي حلقات مترابطة من الحقارات يحاول الكاتب حجبها خلف الشجرة أو الغابة لينسى أمر هذا الهارب الذي يترجمه الرمل. يقول بورخيس: "أنا لا أكتب من أجل نخبة قليلة لا أهتم بها ، ولا من أجل هذا الكيان الأفلاطوني المتزلِّف الذي يسمونه "السواد الأعظم". فلمن كتب عبد الهادي الفحيلي؟ ولماذا؟ وهل يمكننا أن نعتبر، بقفزة واحدة، أن "شجرة الحكاية" هي الكيان الحربي الأول ضد فعل التصحر؟