أخنوش : ما تحقق خلال نصف الولاية الحكومية فاق كل التوقعات والانتظارات    خبراء مغاربة ودوليون يناقشون في الرباط إشكالية انبعاث الكربون من المركبات    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    غرفة الجنايات الاستئنافية بفاس تؤخر ملف البرلماني البوصيري ومن معه    "سيام 2024".. توقيع اتفاقية شراكة إطار بين "بيوفارما" ومعهد الحسن الثاني للزراعة    "الكاف" ينصف نهضة بركان ويوجه صفعة مدوية لاتحاد العاصمة الجزائري    المغرب سيكون ممثلا بفريقين في كأس العالم للفوتسال    عاجل.. الكاف يعتبر نهضة بركان فائزا بثلاثية على اتحاد العاصمة والإياب في موعده    توقيف شخص بطنجة بسبب استعمال معدات إلكترونية لتحويل المكالمات الهاتفية الدولية إلى محلية    إسرائيل تعلن بدء تنفيذ "عملية هجومية" في جنوب لبنان    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    الملتقى العالمي ل 70 امرأة خبيرة إفريقية مناسبة لتثمين الخبرة والكفاءة الإفريقية    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    هل سيتم تأجيل النسخة ال35 من كأس إفريقيا للأمم المقررة بالمغرب سنة 2025؟    تهديدات بالتصعيد ضد ّبنموسى في حالة إصدار عقوبات "انتقامية" في حقّ الأساتذة الموقوفين    ما قصة "نمر" طنجة؟    فساد في الموانئ: الناظور بين المدن التي شهدت إدانات بالسجن لمسؤوليها    الوالي التازي يترأس اجتماعا حول غابات جهة طنجة-تطوان-الحسيمة    مجلس النواب يفضح المتغيبين بتلاوة أسماء "السلايتية" وتفعيل الاقتطاعات    الكاتب الأول إدريس لشكر يترأس المجلس الجهوي الموسع بجهة مراكش -أسفي    مجلس الرئاسة الليبي يجهض مخطط الجزائر بإقامة تكتل مشبوه في الفضاء المغاربي    الحكم على مغني راب إيراني بالإعدام بتهمة تأييد الاحتجاجات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    المنصوري: وافقنا على 2143 طلب لتسوية بنايات مخالفة لقانون التعمير    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مقترح قانون لتقنين استخدم الذكاء الاصطناعي في المغرب    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    أفلام متوسطية جديدة تتنافس على جوائز مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    جنيف .. تحسين مناخ الأعمال وتنويع الشركاء والشفافية محاور رئيسة في السياسة التجارية للمغرب    إعلان فوز المنتخب المغربي لكرة اليد بعد انسحاب نظيره الجزائري    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        تفاقم "جحيم" المرور في شوارع طنجة يدفع السلطات للتخطيط لفتح مسالك طرقية جديدة    مبادرة مغربية تراسل سفراء دول غربية للمطالبة بوقف دعم الكيان الصهيوني وفرض وقف فوري للحرب على غزة    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    جماهري يكتب.. 7 مخاوف أمنية تقرب فرنسا من المغرب    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    إقليم فجيج/تنمية بشرية.. برمجة 49 مشروعا بأزيد من 32 مليون درهم برسم 2024    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل للمباراة النهائية على حساب لاتسيو    توفيق الجوهري يدخل عالم الأستاذية في مجال تدريب الامن الخاص    بطولة انجلترا: أرسنال ينفرد مؤقتا بالصدارة بعد فوز كبير على تشلسي 5-0    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الأمثال العامية بتطوان... (580)    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البداية والعقدة والجسد والنهاية في القصة القصيرة جدا بالمغرب
نشر في ناظور سيتي يوم 05 - 06 - 2011


(قصص جمال الدين الخضيري نموذجا)
د.جميل حمداوي
توطئة:
من المعلوم أن القصة القصيرة جدا تنبني – معماريا- على البداية والعقدة والجسد والنهاية. وتسمى النهاية أيضا بالقفلة كما عند أحمد جاسم الحسين . وإذا كان هناك من الباحثين من يرادف بين البداية والاستهلال (ياسين نصير مثلا )، فإن هناك من يميز بينهما (أحمد العدواني مثلا) . فالبداية هي الجملة الأولى من القصة، في حين أن الاستهلال هو بمثابة مطلع سردي يستهل به الكاتب قصته، وقد تستغرق هذه الفقرة الاستهلالية مساحة نصية قد تكون قصيرة أو متوسطة أو كبيرة.
ولا يمكن الحديث عن البداية بشكل جيد ودقيق في غياب العقدة والجسد السردي والنهاية. فهذه المكونات كلها هي التي تحقق للقصة القصيرة جدا اتساقها وانسجامها وترابطها وتماسكها النصي.
وما يهمنا في هذا المقام هو دراسة هذه المكونات المعمارية جميعها في القصة القصيرة جدا بالمغرب في ضوء المقاربة الميكروسردية .إذاً، ماهي مميزات القصة القصيرة جدا على مستوى البداية والعقدة والجسد والنهاية، وذلك من خلال مجموعتي:" الفقاقيع" و" وثابة كالبراغيث" للمبدع المغربي جمال الدين الخضيري؟ هذا هو الإشكال المحوري الذي سوف نرصده في ورقتنا هاته.
 دراسات حول البداية والعقدة والجسد والنهاية:
قليلة هي الدراسات النقدية التي اهتمت بالبداية أو الاستهلال أو العقدة أو الجسد السردي أو النهاية في الكتابات الإبداعية الشعرية والدرامية والسردية والفنية؛ نظرا لما تطرحه هذه العناصر المعمارية من مشاكل عويصة نظريا وتطبيقيا. ولقد همشت هذه العناصر البنائية في الدرس الأدبي والنقدي والبلاغي منذ اليونان إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من هذا الإهمال الطويل، فثمة استثناءات كما هو الحال في كتاب " الخطابة" لأرسطو الذي خصص فصلا للبداية والاستهلال ، وما قام به كتاب الثقافة العربية القديمة الذين اهتموا بالخطابة وصناعة الكتابة، فقد أوردوا فصولا في هذا المجال بنوع من الإيجاز تارة وبنوع من التفصيل تارة أخرى . ومن الأمثلة الحية على ذلك كتاب :" فن التخليص في علوم البلاغة" للإمام جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب ...ونستثني أيضا من هذه الدراسات الكتابات الشعرية الغربية الحديثة (جيرار جنيت – Gérard genette- مثلا)
وإذا كان الدارسون والباحثون العرب قد اهتموا بهذه العناصر البنائية في القصيدة الشعرية القديمة والحديثة والمعاصرة، فإنهم أهملوا بشكل كبير دراستها في السينما و المسرح و السرديات ، ولاسيما في الرواية والحكاية الشعبية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا.
هذا، ويعد الباحث العراقي ياسين نصير – حسب اعتقادي- أول دارس عربي يشتغل على البداية والاستهلال في كثير من أبحاثه ودراساته القيمة كما في كتابه:"الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي" . ومن الكتب الأخرى التي اهتمت بالبداية نذكر : كتاب:" البداية في النص الروائي" لصدوق نور الدين ، وكتاب:" بداية النص الروائي" لأحمد العدواني، وثمة مقالات أخرى اهتمت بالبداية والاستهلال كدراسة " البدايات ووظيفتها في النص القصصي" لصبري حافظ ، و" مساهمة في نمذجة الاستهلال الروائي" لعبد العالي بوطيب ، و" في شعرية الفاتحة النصية: حنامينة نموذجا" لجليلة الطريطر ، و" فاعلية التخييل في البداية السردية" لشعيب حليفي ،... أما عن الدراسات المترجمة في مجال البدايات، فيمكن الإشارة إلى الدراسة القيمة التي هي تحت عنوان: " في إنشائية الفواتح النصية" لأندري دي لنجو ، و" في البداية" لجاك وب ...
ومن أهم الدراسات التي اشتغلت على النهاية في الرواية نستحضر ماكتبه عبد الملك أشهبون تحت عنوان:" خطاب النهاية في الرواية العربية" ....
أما عن الدارسين الذين اهتموا بالبداية والعقدة والنهاية في القصة القصيرة جدا ، فنستحضر كلا من: أحمد جاسم الحسين في كتابه:" القصة القصيرة جدا" ، ويوسف الحطيني في كتابه:" القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق" ، وجاسم خلف إلياس في كتابه:" شعرية القصة القصيرة جدا" ، وجميل حمداوي في كتابه:" من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا- المقاربة الميكروسردية" ...
 أنواع البدايات في القصة القصيرة جدا:
تستعمل القصة القصيرة جدا كما هي عند الكاتب المغربي جمال الدين الخضيري مجموعة من أشكال البدايات، حيث يقوم الكاتب بتنويع بداياته الاستهلالية، وتغيير وضعياته الاستفتاحية من قصة إلى أخرى. وقد تشترك القصة القصيرة جدا في هذه البدايات بشكل من الأشكال مع القصة القصيرة والرواية، مادامت الصياغة السردية في الاستفتاح متشابهة إلى حد كبير بين هذه الأجناس الأدبية الثلاثة. ويمكن الحديث عن مجموعة من البدايات التي تستند إليها قصص جمال الدين الخضيري، ويمكن حصرها في الأنواع التالية:
 البداية الفضائية:
يشغل جمال الدين الخضيري في مجموعة من قصصه القصيرة جدا ما يسمى بالبداية الفضائية أو الظرفية، والتي تتحدد في الزمان والمكان على حد سواء، وتتضح البداية الفضائية الزمانية في قصته:"فليعش المجنون" التي استهلها الكاتب بمؤشر زماني: " في عز شمس الظهيرة". وإليكم القصة كاملة:" في عز شمس الظهيرة، بأسماله الرثة لحق المجنون رفيقته المشردة. أمام مقهى الحديقة فار تنورهما. تعانقا، ثم تهاويا إلى مدارج التوغل. كان يموءان ويعويان. هب المارة إليهما، وسيّجوهما بأجسادهم اتقاء من عيون الدهماء. أطلت امرأة من شرفتها. انفلتت منها ضحكة كالصهيل. هتفت بأعلى صوتها:
- فليعش المجنون
ردد المارة:
- يعيش.. يعيش..
ثم رددت الكلام نفسه الجدران وسارت به الركبان.
اجتمع مجلس المدينة وأصدر القرار الآتي:
" يتم إحصاء وإخصاء كل مجانين المدينة".
وقد تكون هذه البداية الظرفية مكانية كما في قصة:"التنين الفاغر فاه": "في المطعم الشرقي، انتبذتْ مكانا غير شرقي، تتناول طعامها بتأنق، متلاعبة بعمودين رقيقين من خشب. لما لمحتُها من خلل البهارات المنتشرة في المكان، وصورة التنين الفاغر فاه المتدلي من السقف، فزعتُ نحوها، وقلتُ:
- هل تتذكرينني؟
هزت رأسها علامة النفي وافترّ ثغرها عن ابتسامة سريعة الاضمحلال كفقاقيع مشروب غازي.
قلتُ وأنا أحدق فيها بتمعن:
- ألا تتذكرين يوم الطابور، عندما زحفت نحو الشباك، و...؟
ولما بدا الاستغراب ساطيا على محياها، قلتُ بصوت كسير:
أنا الصائح، الملوح بيدي ضد الخرق...
قالت مسترجعة نفس الابتسامة السابقة ومشيرة إلى التنين الجاثم فوقها:
-الطوابير كثيرة، والخرق مزن هطلاء، كالحمم النافثة من فم هذا الكائن اللامنقرض."
ويعني كل هذا أن البداية الظرفية هي التي ترتكز على الزمان والمكان، وذلك باعتبارهما خلفية إطارية محددة للشخوص والأحداث الواردة في القصة القصيرة جدا.
 البداية السردية:
من الطبيعي أن تكون بدايات كثير من القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري سردية، مادامت هذه القصص تتكئ على عمليتي التحبيك والتخطيب على المستوى السردي، كما يتجلى ذلك بوضوح في قصة:"حب على شاكلة البعير":" زارتني خليلتي كعادتها في غرفتي نهاية هذا الأسبوع. وما طفقنا في عزف وصلة غرامية رائقة حتى بدأ كلبي المدلل يضايقني ويهش وينبح ويلح علي إلحاحا شديدا أن أكلم فتاتي في أمره. سرعان ما عربد التجهم على وجهها وساحتها فقالت:
- ما به؟
- يريد أن تجلبي له كلبتك. له حاجياته الغريزية مثلنا، أليس كذلك..
- لكن الأمر لا يستقيم...
- لا يستقيم!! ولم؟
- لو كان الأمر يتعلق بحيوانات أخرى ربما.. أما أن نتساوى مع الكلاب فلا..
- ومع أي الحيوانات تريدين أن نتساوى؟
- ألم تسمع قول الشاعر: " وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري".
ويتضح، مما سبق، بأن البداية السردية هي التي ترتكز على إيراد الأحداث تمهيدا وتعقيدا وانفراجا.
 البداية الوصفية:
تستهل بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري ببداية وصفية ، وذلك من أجل وصف الشخصية أوالأمكنة أو الأشياء أو الوسائل كما في قصة:" الحاصد":" طويل القامة. بارز العروق. منحن على منجله طول يومه. خلّف وراءه أكواما من الحصاد. تراءت له أفعى رقطاء تتجه نحوه. استمر في انحنائه ولم يبال بها قط. وما أن غرست أنيابها في ساقه نافثة سمها حتى سقطت ميتة. أخذها وربط بها قبضة من السنابل."
ويلاحظ أن الكاتب قد أسبغ على شخصية الحاصد مجموعة من الأوصاف الخارجية التي تبين قوته وشجاعته ورباطة جأشه.
 البداية الشخوصية:
ترتكز بعض القصص القصيرة جدا على الشخوص المحورية تبئيرا ورصدا وتركيزا كما في قصة" الرجل المنجل": " يسمى الرجل المنجل لكثرة تأبطه له.
رأيناه مرة يجري تجاه امرأته، يصيح كالملدوغ، ويصرخ في وجهها:
- ناولوني المنجل، أين المنجل أيتها...؟
حاول أن يتجرد من سرواله التقليدي المشدود بعناية حول خصره بحبال وأحزمة عديدة فلم يفلح.
رأيناه تنفرج أساريره، تنفجر مزاريبه، حممٌ تسيل من سيقانه ويقول في هدوء:
- ملعون معقوف هذا المنجل، ملعون مأفون هذا السروال الذي يغلي كالمرجل."
ونورد هنا أيضا قصة قصيرة جدا ترصد لنا شخصية أخرى ، وهي شخصية:" بائع متجول":" مذْ عرفته وهو بائع متجول يذرع الطرقات، ويؤثث معروضاته في الأرصفة وحواشي الأسواق. يتاجر في كل شيء؛ من سقط المتاع إلى السماق والاحراز.
كل يوم يضايقه المخازني إن لم يدفع له الإتاوة المعلومة. يضطر إلى نقل بضاعته تجاه موضع آخر، لكنه يلقى دائما المصير نفسه. فلكل مكان سادة وجباة.
مرت سحابة هذا النهار عليه قمطريرا، فلم يبع إلا قشة واحدة. والأدهى أن القطعة النقدية التي قبضها مدكوكة متآكلة لن يتقبلها أحد، ولن يندم عليها ملقيها في التراب. ولأنه لا يود أن يمررها لأي من زبائنه فقد حار في أمرها، سيما وأنه مطوق بالبؤس والعوز.
سرعان ما غزته فكرة طارئة فقال في قرارة نفسه وهو يبتسم:
-لن يكون مثواها إلا جيب المخازني وزبانيته، أليست جيوبهم مستقرا لكل مساوئ الدنيا وسيئات البشر؟"
وهكذا، فالبداية الشخوصية هي التي تدور حول شخصية رئيسية أو محورية تلتف حولها الأحداث تشبيكا وتعقيدا وتمطيطا وتخطيبا .
 البداية الحلمية:
نعني بالبداية الحلمية تلك البداية التي تستهل بملفوظ حلمي يحول الحقيقة إلى تخييل أو فانطاستيك كما في قصة "مجرد حلم": "رأيت فيما يرى النائم أني تحولت عملاقا ضخم الجثة مفتول العضلات مهاب الجانب. فعزمت أن أجهز على أعدائي الذين استضعفوني وجرعوني العلاقم. قصدت مدير الشركة التي أعمل فيها فأزحت الحراس عن طريقي بدفعة حديدية من منكبي، وخرمت الباب بركلة واحدة من رجلي على شاكلة أفلام رعاة البقر. اقتحمت عليه المكتب فوجدته معتليا سكرتيرته. جذبته من قفاه وطرحته أرضا وأزبدت في وجهه:
- أزفت نهايتك، وانقضى علوك واعتلاءك.
قال بوجهه الصفيق تغزوه ضحكة متحدية:
- أنت الذي أزف اندحار حلمك، وانقضى مقامك في العمل.
جرجرته إلى النافذة في حالة انتشاء وددت لو كانت خالدة، وأسكبته منها. وبقدر تدحرجه نحو دركات الهبوط والفناء كان تدحرجي من سريري المهترئ. حثثت الخطى نحو عملي بثقة طافحة، ولم يخامرني شك أني سأحذو أثار حلمي النعل بالنعل. أليست الحياة برمتها في نهاية المطاف مجرد حلم؟"
وتوجد هذه البداية الحلمية أيضا في قصة:" مجرد حلم": " رأيت فيما يرى النائم أني تحولت عملاقا ضخم الجثة مفتول العضلات مهاب الجانب. فعزمت أن أجهز على أعدائي الذين استضعفوني وجرعوني العلاقم. قصدت مدير الشركة التي أعمل فيها فأزحت الحراس عن طريقي بدفعة حديدية من منكبي، وخرمت الباب بركلة واحدة من رجلي على شاكلة أفلام رعاة البقر. اقتحمت عليه المكتب فوجدته معتليا سكرتيرته. جذبته من قفاه وطرحته أرضا وأزبدت في وجهه:
- أزفت نهايتك، وانقضى علوك واعتلاءك.
قال بوجهه الصفيق تغزوه ضحكة متحدية:
- أنت الذي أزف اندحار حلمك، وانقضى مقامك في العمل.
جرجرته إلى النافذة في حالة انتشاء وددت لو كانت خالدة، وأسكبته منها. وبقدر تدحرجه نحو دركات الهبوط والفناء كان تدحرجي من سريري المهترئ. حثثت الخطى نحو عملي بثقة طافحة، ولم يخامرني شك أني سأحذو أثار حلمي النعل بالنعل. أليست الحياة برمتها في نهاية المطاف مجرد حلم؟"
ويعني هذا أن البداية الحلمية هي تلك البداية التي يحضر فيها الحلم بشكل بارز و لافت للانتباه، لتصبح فيما بعد إطارا فنيا وجماليا للأحداث والشخوص والأفضية السردية.
 البداية الساخرة:
تتسم بدايات بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بخاصية السخرية والفكاهة والتهكم والتندر كما في قصة"الأصلع": "أستاذنا أقرع، أصلع، بإمكان المرء أن يمشي على رأسه حافيا دون أن يتأذى.
يطفق في الشرح مارا بكفه على صلعته الناصعة بحركة لا إرادية. تتناهى إلى سمعه العبارة الدامية: (الأصلع). يتناثر ريقه مدمدما:
- الشعر لا يكسو إلا رؤوس الحمير أمثالكم، متى ما رأيتم حمارا أصلع، أدفع عمري إن أتيتموني به.
ننسل هاربين من القسم مرددين بصوت جماعي:
- رأيناه رأيناه..."
ويعني هذا أن البداية الساخرة هي تلك البداية التي تثير المتلقي ذهنيا ووجدانيا وحركيا ، وذلك عن طريق خلق لغة الابتسامة والطرافة والضحك، وغالبا ما تنبني تلك اللغة المثيرة على التهجين والباروديا والمحاكاة الساخرة.
 البداية التأملية:
هناك قصص قصيرة جدا ذات طابع تأملي في الذات والموضوع كما في قصة:"قارئة الفنجان": " تمعنتْ في قعر الفنجان وحدقتْ في قسماته جيدا حتى استقرت نظراتها على شفتيه وبعد هنيهة قالت:
- ستحتسي كل فناجين المقاهي وستمارسك الأرصفة والطرقات.
عادت تتمعن القعر من جديد. قطّبت حاجبيها. بدا التيه على وجهها. قال لها:
- هل من مستجد؟
ردت وهي تهز كتفيها:
-لاشيء، مجرد زوبعة في فنجان."
إذاًً، فالبداية التأملية هي تلك البداية التي تستند إلى التدبر العقلاني، والتفكير الملي، والنظر إلى الذات والأشياء نظرة عميقة تأملية قوامها: العقل والمنطق والحدس.
 البداية التراثية:
يعتمد جمال الدين الخضيري في كتابة قصصه القصيرة جدا على البداية التراثية ، حيث يكثر من العبارات المسكوكة ، وذلك إن تجريبا وإن تأصيلا . ويعني هذا أن تلك البدايات تسير على منوال البدايات الموجودة في كتب التراث أسلبة وصياغة وكتابة وتناصا كما في قصة:"معاذير آفلة":"أخبرنا في مجلس سمر أحد شيوخنا ممن لا نردُّ خبره، قال:
" قصدتُ مستشفى المدينة بغية إجراء عملية أسفل بطني. ولما تمددتُ على السرير هرعتْ إلي بادئ الأمر ممرضة ناعمة فائرة كالموزة. طفقتْ في تنظيف مكمن الداء بقطن ومادة لزجة. استباحتْ حرمة أراض مجاورة، وأتقنت المناورة. وإذا بالسنجاب يزحف ويتمطط وينوء بكلكله مزاحما ناطحات السحاب."
ونحن على أحر من الجمر، ترجيناه الإفصاح عما آل إليه الأمر، والإغداق علينا من السرد. وبعد روية أضاف:
" هَمَمتُ أن اعتذر فانتفت المعاذير، وألفيتُ نفسي أمسح عني وضر الخجل والسنون بقولي:
- ( أنا بَاري مَنُّه..) ، أنا بريء من ذاك الذي ينتفض من رماده كطائر العنقاء".
فتعالت أصواتنا صادحة:
- لحاك الله من رجل.. لحاك الله من رجل !!"
وهكذا، يتبين لنا بأن هذه القصة تراثية المنزع سواء على مستوى السرد والحكي أم على مستوى الصياغة والتعبير والأسلبة أم على صعيد المعجم والمفردات.
 البداية الشاعرية:
يلاحظ أن جمال الدين الخضيري قد وظف البداية الشاعرية أو ما يسمى بالمحكي الشاعري الذي تختلط فيه الحكاية السردية بالصياغة الشعرية كما في قصة" نكاية بحكاية ما":
" مغرمٌ بحكاية "دارة جلجل".
مغرمٌ بالجارة بلبل.
تفنّنَ في حيّاكة الحكاية لها.
تواعدا على اللقاء عند شطّ حارة الفلفل.
هناك ألفى البلابل بعدد النمل والرمل.
طوّقنه، جرّدنه...، قبع وتقوقع متدثرا باليم.
لا نأمة في البحر، لا ناقة للنحر.
بكى... نكى بالحكاية التي كانت ذات قروح وجروح."
ويعني هذا أن البداية الشاعرية هي التي يمتزج فيها أجواء الشعر مع أجواء النثر والسرد والحكي، فتتقاطع المشابهة (التشبيه والاستعارة) مع المجاورة (الكناية والمجاز المرسل).
 البداية الميتاسردية:
نعني بالبداية الميتاسردية حينما تفكر القصة القصيرة جدا في نفسها، فتستعرض آلياتها الفنية والجمالية بالفضح والبوح والكشف، ثم ترصد المشاكل التي يمكن أن يواجهها كاتب القصة القصيرة جدا على مستوى الإبداع والتلقي كما في قصة:" فقاقيع":" كتبتُ قصة قصيرة جدا. استحضرت فيها أحداثا جساما وأزمنة متداخلة في شكل شذرات وومضات. فما كان من بطلها إلا أن انسل هاربا. وقال إن مكانه في الملاحم وليس في أقصوصة تتبخر أحداثها كالفقاقيع موزونة بأشبار كاتب مخبول. فعقدت العزم ألا أثق أبدا في بطل من صنع يدي، ولن ألبسه- ما أسعفني القلم- جبتي الورقية، ولن أسبغ عليه أي نعمة مدادية."
إذاً، فالبداية الميتاسردية أو البداية الميكروسردية هي تلك البداية التي ترتكز فنيا وجماليا وسرديا على جماليات القصة القصيرة جدا نظرية وإبداعا ووظيفة.
 البداية الإحالية أو التناصية:
تعتمد البداية الإحالية والتناصية على تشغيل المعرفية الخلفية، وتوظيف السيناريوهات والخطاطات والمدونات التناصية إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وإما بطريقة واعية أو غير واعية كما في قصة" مسح الطاولة"، حيث تحيل هذه القصة على الكوجيطو الديكارتي وفلسفة الأنا إنية وكينونة:"جلس ديكارت في الحانة مهموما، مسندا فكه على كفه محدقا في اللاشيء. جاء النادل ومسح الطاولة. لم يتمالك ديكارت نفسه. قفز كالملدوغ. صفق بيديه. عانق النادل بحرارة وقال:
- إنني موجود في هذه الحانة."
فما أكثر- إذاً- القصص القصيرة جدا لدى جمال الدين الخضيري، ذات البداية التناصية والحمولة الثقافية والفكرية!مادام هذا المبدع له اطلاع كبير على شتى الحقول المعرفية والعلمية والفنية.
 البداية السببية:
تعتمد البداية السببية على ذكر السبب. وبعد ذلك، يسرد الكاتب الأحداث والنتائج المترتبة عن ذلك السبب تمطيطا وتدقيقا وتكثيفا كما في قصة"احتفال": " لأنهم عراة حفاة
ضحوا في يوم العيد بسلحفاة.
ليس اغتيالا لبطئهم وبطئها.
ولا اشتهاء للحمها.
ولا، ولا ...
فقط لأن فرحتهم العيدية لن تكتمل إلا على أنغام قيثارة مصنوعة من قوقعة سلحفاة."
ومن النماذج الأخرى التي تمثل البداية السببية نذكر: قصة" حمية": " لأن البدانة ليست موضة، ولأن القارئ النهم والأكول الشره في طريقهما إلى الانقراض كما الديناصورات، تتبعتُ نظام حمية صارم:
تناولت وجبة خفيفة جدا..
كتبت قصة قصيرة جدا..
فأصبحنا رشيقين جدا."
إذًًاً، فالبداية السببية هي تلك البداية التي ترتبط فيها النتيجة بالسبب، وغالبا ماتكون تلك البداية في تلك القصة القصيرة جدا مقترنة بأداة " لأن" السببية.
 البداية الفانطاستيكية:
يوظف جمال الدين الخضيري مجموعة من القصص القصيرة جدا ذات طابع فانطاستيكي قائم على التعجيب والتغريب كما في قصة:"مجرد حلم": "رأيت فيما يرى النائم أني تحولت عملاقا ضخم الجثة مفتول العضلات مهاب الجانب. فعزمت أن أجهز على أعدائي الذين استضعفوني وجرعوني العلاقم. قصدت مدير الشركة التي أعمل فيها فأزحت الحراس عن طريقي بدفعة حديدية من منكبي، وخرمت الباب بركلة واحدة من رجلي على شاكلة أفلام رعاة البقر. اقتحمت عليه المكتب فوجدته معتليا سكرتيرته. جذبته من قفاه وطرحته أرضا وأزبدت في وجهه:
- أزفت نهايتك، وانقضى علوك واعتلاءك.
قال بوجهه الصفيق تغزوه ضحكة متحدية:
- أنت الذي أزف اندحار حلمك، وانقضى مقامك في العمل.
جرجرته إلى النافذة في حالة انتشاء وددت لو كانت خالدة، وأسكبته منها. وبقدر تدحرجه نحو دركات الهبوط والفناء كان تدحرجي من سريري المهترئ. حثثت الخطى نحو عملي بثقة طافحة، ولم يخامرني شك أني سأحذو أثار حلمي النعل بالنعل. أليست الحياة برمتها في نهاية المطاف مجرد حلم؟"
ويعني هذا أن البداية الفانطاستيكية هي تلك البداية التي تنبني على التحول والامتساخ والتقلبات الحلمية والرؤيوية.
 البداية الحوارية أو المشهدية:
هناك نوع آخر من البداية تستهل بها قصص جمال الدين الخضيري، ويمكن تسميتها بالبداية الحوارية أو المشهدية ، وتحيلنا هذه البداية على جنس المسرح و النصوص الحوارية والخطابات الاستفسارية المبنية على السؤال والجواب كما في قصة" القناع":
" هو: أودّ أن أشتري قناعا يا حبيبتي
هي: لِمَ، أتنوي أن تمثل في مسرح؟
هو: لا، لكن حتى يبدو وجهي محايدا وأنا أغازلكِ، و...
هي: أتضع قناعا على قناع؟!
صفقت في وجهه الباب وهي تقول:
- في الوقت الذي كنت أنتظر أن تتجرد من أصباغك، تتمترس في قلاعك."
هذا، وإذا كانت البداية السردية الحكائية مرتبطة بالسارد أو الراوي؛ فإن البداية الحوارية مرتبطة بشكل خاص بالشخصيات في حوارها المباشر.
 البداية التقريرية:
تتخذ بعض قصص جمال الدين الخضيري طابعا تقريريا، وذلك في شكل جمل تقريرية وتأكيدية تعيينا وإخبارا. بمعنى أن الجمل التقريرية جمل حرفية مباشرة من حيث دلالاتها المقصدية كما في قصة:"حملة تمشيط": " الحاكم قادم، الحاكم ناقم.
سيارات الشرطة تمشط الطرقات، تتلقف مجانين ومشردي المدينة.
التقى المجنون بالمجنون:
- إنهم يتعقبونهم.
- من؟
- أمثالنا.. علينا بالهروب.
نظر كل واحد تجاه الآخر، وكأنهما يكتشفان أسمالهما التي تبرق بالسواد وتشي بحالهما.
دون نذير، أياد كأنها كماشات تزج بهما داخل الفركونيت العاجة بالرؤوس.
صرخ الأول : ما أنا منهم، أنا ميكانيكي السيارات.
تبعه الثاني بهستيريا: ولا أنا كذلك، ما أنا إلا بائع فحم."
وهكذا، فالبداية التقريرية هي بداية حرفية قائمة على الجمل الخبرية سواء أكانت ابتدائية أم طلبية أم إنكارية. ومن المعروف أن الجملة التقريرية المبنية على التعيين والمباشرة نقيض الجملة الإنشائية المبنية على تنوع الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية.
 البداية الإنشائية:
تستند البداية الإنشائية إلى استخدام مجموعة من الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية كالاستفهام، والأمر، والنداء، والنفي، والنهي، والقسم، والتمني، والشرط، والترجي، والندبة، والاستغاثة....كما في قصة"اكتشاف": " لا قطوف فيها، ولا نذور.
مستعصية الوطء، موغلة في الأحراش.
عندما هبط فريق العمل فيها من عل.
وبعد المسح من السفح إلى السفح.
توصل الفريق إلى الاكتشاف الآتي:
" المنطقة طاردة، ولا يمكن أن يعيش فيها إلا ذئب ومعلم".
وهكذا، فهذه القصة القصيرة جدا تنتهي بأسلوب إنشائي غير طلبي يتمثل في توظيف أسلوب الحصر والقصر القائم على أداة النفي وإلا الاستثنائية. وكما هو معلوم، فإن الأسلوب الإنشائي يسبغ على القصة القصيرة جدا نوعا من الإيحائية والوظيفة الشعرية.
 البداية المفارقة:
تتكئ بعض قصص جمال الدين الخضيري على المفارقة ، وذلك من خلال الجمع بين المتضادات المتنافرة، وتناقض المنطق مع الممارسة كما في قصة:"لا حرج":
"أعمى يحملُ أعرج.
حاملٌ مُساقٌ، ومحمول سائق مُميطٌ بعينيه للأذى.
في التلة نادى الأعرجُ على فتاة وأوغلا في الحديث.
لما مضت لسبيلها سأله الأعمى عمّن تكون. قال الأعرج بحنق:
- إنها أختي
- مخاتلٌ خبيثٌ، أتظن أنك محمول على هودج، أي أخت هاته التي يتمطى لها ...، كدت تثقب الرقبة التي تحملك!
- ليس على الأعمى حرج إذا عاجَه وهم.
- ولا على الأعرج حرج إذا هاج وماج."
وترد هذه المفارقة أيضا في قصة:" جاذبية": " بديهي أن الأشياء تسقط من الأعلى نحو الأسفل، لكنني سقطت من الأسفل نحو الأعلى. لا يهمني خُرْقَ نيوتن وتفاحته المتواطئة، ولا الحَذْلقات السكولارية. أحاول أن أُلمْلِم الأشياء:
مقصورة قطار، سرير ذو طابقين، فحيح أنثى.
سقطتُ من مضجعٍ سفليّ نحو آخر علوي، ولم يَسْرِ علينا قانون الجاذبية إلا عندما انصهرنا معا فكان السقوط هذه المرة مدويا، مدويا كجلمود صخر ..."
إذاً، تقوم المفارقة في هذه القصص القصيرة جدا على خرق المألوف، والانزياح عن العقل والمنطق، وكل ذلك من أجل تشكيل دلالة جديدة قوامها السخرية من الذات والواقع على حد سواء.
 البداية الملغزة:
تعتمد بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري كما في " فقاقيع" و" وثابة كالبراغيث" على طرح أسئلة الافتراض والاحتمال، واستعمال الألغاز لإرباك القارئ، واستفزازه ذهنيا وعقليا ووجدانيا كما في قصة:" مطيتان":" افرضْ مثلا أنهم سألوكَ عن الفرق ما بين مطيتين:
واحدة باسقة لكنها تزهر ولا تثمر، وأخرى تلتصق بالأرض وتتمرّغ بالتراب بَيْد أنها تزهر وتثمر.
أجزمُ أنكَ لن تعرف الجواب إلا إذا امتطيتَ قمّة شجرة الصفصاف، حينذاك سترى أحدَهم يتأبط ذراعها، حتى يستقرا تحت الشجرة، فيحصل ما يحصل من أمر الامتطاء والتمرغ بالتراب.
لو كنتُ مكانكَ لجلبتُ فأسا وقطعتُ هذه المطية الصفصافة التي لمْ أَرَها أبدا تثمر."
هذا، ويلاحظ أن هذه القصة القصيرة جدا يبدأها الكاتب بالافتراض، واستحضار المتلقي لطرح السؤال عليه في شكل لغز، وحينما يعجز القارئ الحائر، يسرع الكاتب إلى تقديم الجواب الساخر.
 البداية الأيقونية:
تتخذ بعض القصص القصيرة جدا طابعا بصريا أيقونيا ، حيث تتحول بعض الأيقونات السيميائية إلى علامات دالة كما في قصة:"السائق":" جاااالس أمام المقود. كأس الشاي مثبت جنب الكرسي. على لوحة القيادة غيض وفيض؛ كراسة مهملة، اسطوانة مهشمة، صور شاحبة،... في الخلف ملاءة وسرير. يحمل في سيارته عمره، عهره، سره، نبوغه. يبحر نحو التخوم. ويعود ذات خريف كما عاد السندباد، لكن دون خوارق ولا عجائب. فقط كان شاهدا على خرائب وكائنات تقتات على مرتادي الطريق."
يلاحظ أن كلمة " جاااالس" في هذه القصة القصيرة جدا تعبر أيقونيا وسيميائيا ، وذلك من خلال تقطيعها إلى مجموعة من حروف المد، على مدى ارتباط حياة السائق بسيارته في أفراحه وأتراحه، واستمراره في الجلوس أمام مقود سيارته طوال مراحل عمره، وكثرة انشغاله بالمقود إلى درجة الاعتياد والملل والروتين.
 أنواع العقدة في القصة القصيرة جدا:
نعني بالعقدة الوضعية السردية الأساسية القائمة على التأزم والصراع والاضطراب والتوتر الدرامي، ويمكن تقسيم هذه الوضعية إلى الأنواع التالية:
 العقدة المقتضبة:
نعني بالعقدة المقتضبة تلك العقدة التي تتسم بالتكثيف والاختصار والاقتضاب والإيجاز كما وكيفا كما في قصة:" عطب": "متكئة على سيارتها المركونة جنب الطريق في انتظار من يغير لها إطار العجلة.
كل مرة كان يتم التغيير، لكن بقيت العجلة على حالها."
ونجد هذه العقدة واضحة كذلك في قصة" خشب":" قال وهو يرى حرائق تلتهم الجبال والرجال:
- كيف تأتّى لخُشيْبة ثقاب أن تزدرد قارة من الأخشاب؟"
ويلاحظ أن هذه العقدة موجزة ومكثفة في شكل أحداث سلبية مركزة كحدث العطب في القصة الأولى، وحدث الحريق في القصة الثانية.
 العقدة المضمرة:
تخلو بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري من العقدة المألوفة التي تتمظهر في شكل أزمة أو مشكلة أو وضعية صعبة، بل هذه العقدة لا يمكن استجلاؤها إلا بالتأويل والتأمل والفحص والاختبار؛ لأن هذه العقدة غير واضحة بشكل جلي، بل هي مختفية ومضمرة ، وتحضر في القصة تضمينا وإيحاء وتلويحا وإشارة كما في قصة:"النادلة": نادلة سوداء مثل الفحمة. لما اتجهت نحو منضدته تسأل عن بغيته. نظر فيها مليا وقال:
- ترى لو طحناك هل سنصنع منك كحلا تمتلئ به مراودنا؟!"
من الصعب بمكان استجلاء العقدة في هذه القصة القصيرة جدا، إلا إذا مارسنا فعل القراءة الجيدة، وفعل التأويل المثمر، لنستكشف تلميحا وتلويحا بأن كثرة السواد هي العقدة المشكلة لحبكة هذه القصة القصيرة جدا.
 العقدة المفصلة:
نعني بالعقدة المفصلة تلك العقدة التي تستكمل مقوماتها الفنية والجمالية، وغالبا ما تكون عقدة عادية وطبيعية كما في النصوص السردية المألوفة، ومن أمثلة لهذا النوع من العقدة نستحضر : قصة:" ثورة" : "هاج حمار القرية وركض نحو القرية المجاورة وسفد أتانا هناك. القريتان على طرفي نقيض ولا يوحد بينهما إلا اشتباكات العصي وطقطقات المقالع. ثار النقع بينهما من جديد. هبت كل قرية لنصرة حيوانها. سقط حشد كبير. وجدها حمير القريتين فرصة لا تعوض فنزحوا إلى مكان بعيد عن أرض الوغى ليمارسوا لأول مرة الحب على هواهم ودون مراقبة."
ويعني هذا أن العقدة المفصلة تشبه العقدة التي نجدها في الأقصوصة والقصة القصيرة، وقد استكملت مكوناتها السردية تحبيكا وتسريدا وتخطيبا.
 العقدة الممتدة:
نعني بالعقدة الممتدة في القصة القصيرة جدا تلك العقدة التي ليس لها حل أو نهاية أو انفراج، بل تتسع تلك العقدة المتوترة، وتمتد سردا ومساحة لتهيمن على كل أطراف القصة كما في قصة:"المتلعثم": الحانة تلفظ روادها. يلفظ جيوبه أيضا عله يجد ما يستقل به التاكسي. يعبر الزقاق المظلم الضيق. يجردونه من أحذيته ومن ساعته ومما تبقى من آدميته. يواصل المسير. يزداد تلعثمه. يزداد تنمّله. يحاول أن يحصي كم عدد المرات التي عاد فيها من الحانات والمساجد حافيا. لم يقو على ذلك، فازداد تلعثما."
ويعني هذا أن العقدة الممتدة هي تلك العقدة التي تهيمن على النص القصصي كله. وبتعبير آخر، حينما تتحول القصة كلها إلى عقدة من البداية حتى النهاية.
 أنواع الجسد السردي في القصة القصيرة جدا:
يمكن القول: إن ثمة ثلاثة أنواع من أجساد القصة القصيرة جدا في قصص جمال الدين الخضيري، وهي:
أولا: الجسد القصصي القصير: وينبغي ألا يتعدى بعض الجمل القليلة جدا كما في قصة:" ارتحال":" عندما رأيْتُه متصنّعا الارتجال، تيقّنْتُ أنه أزف موعد الارتحال.."
ثانيا: الجسد القصصي المتوسط : قد يتخذ خمسة أسطر أو نصف الصفحة على أكبر تقدير كما في قصة:" البرتقالة القاتلة":" عم القحط وسادت المجاعة في البلاد. استشرى الجراد وتنافس مع بني البشر في افتراس النبات ولحاء الشجر. ظهر رجل في الزقاق أنهكه الهزال يتمسح بأعتاب برتقالة، ثم سرعان ما دسها في عبه بحركة برقية. تبعه هيكل عظمي على مشارف الموت يجر خطاه بثقل كأنه ينتزعها من صمغ لصيق. يود لو يظفر ببعض القشور أو بعض الفتات. طفق صاحب البرتقالة في تقشيرها. ازدرد القشور أولا وأتبعها بلبها. سقط الرجل الهيكل ريشة هامدة من هول المشهد واستفحال الطوى، وتساقط الرجل الآخر من فرط التخمة."
ثالثا: الجسد القصصي الطويل : ويتعدى هذا الجسد الصفحة أو يقترب في صياغته الحكائية من نفس الأقصوصة أو من نفس القصة القصيرة أو من نفس الرواية أو من نفس المسرحية أو الشعر ، كما يتضح ذلك جليا في قصة:" الهدير":" أعرف كاتبا نذر نفسه للكتابة، وانزوى في برجه النائي. وما إن أمسك بخط الكتابة وأخضع قلمه لنسيج الأحداث حتى كبا واستعصى عليه شق الحروف وبذرها بفعل كدر أصابه تسبب فيه زعيق سيارات وعجلات لا تتوانى عن الهدير. نهض ذات صباح. دق مسامير في قطعة خشبية مستطيلة، ثم دفنها في الطريق تاركا فقط لأنصالها أن تطفو بعض الشيء على الأديم. اختفى وراء شجرة وبدأ يراقب ما اقترفته يداه. مرت سيارة. سرعان ما تمايلت. انحرفت عن الطريق، وربضت جانبا. تتالت السيارات وتكررت المشاهد ذاتها. وعندما عاد في اليوم الموالي، حاملا قطعته الخشبية، اختفت الأشجار وتلاشى الطريق. وقبل أن ينتشي بفتحه المبين، هدر من بعيد صوت قطار، وقال لنفسه:
- من أي غابة حديدية يا ترى سأستل، هذه المرة، أسافين، يكون فيها بأس شديد وعرقلة لقاطرات هذا التنين الزاحف.
وما بين إغفاءة عين وتفتحها، صدئت عجلات الكاتب التي لا تدور، واستمر الهدير وتشابكت حول برجه طرق أخرى تعج بالضجيج."
ويمكن القول أيضا: إن هناك جسدا قصصيا مقتضبا ومختزلا، وجسدا قصصيا متناميا ومتصاعدا.
 أنواع النهايات في القصة القصيرة جدا:
تختتم القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بنهايات متعددة ومتنوعة ، ويمكن الحديث عن مجموعة من النهايات بالشكل التالي:
 النهاية السردية:
من الطبيعي أن تكون نهاية القصة القصيرة جدا نهاية سردية مادامت بدايتها سردية، والأصل في القصص كما هو معلوم أن تكون محكية وسردية. ومن الأمثلة على النهاية السردية قصة:"الحاصد": طويل القامة. بارز العروق. منحن على منجله طول يومه. خلّف وراءه أكواما من الحصاد. تراءت له أفعى رقطاء تتجه نحوه. استمر في انحنائه ولم يبال بها قط. وما أن غرست أنيابها في ساقه نافثة سمها حتى سقطت ميتة. أخذها وربط بها قبضة من السنابل."
يلاحظ أن قفلة هذه القصة القصيرة جدا عبارة عن أحداث سردية قائمة على تتابع الأفعال وتراكبها سرديا.
 النهاية الفضائية:
تتنوع النهاية والخاتمة في قصص الكاتب صياغة وأسلبة وتخطيبا وتسريدا، فقد تكون نهاية ظرفية زمانية أو مكانية كما في قصة:"ساحة الحمام": منذ مدة والساحة خالية من الحمام.
انقطع عنها مرتادوها، لم يعد الأطفال ينطّون وراء الحمام، هاجرها المصور، وبائع الحلوى، وماسح الأحذية،...
- لا قوت في الساحة، قال الذين انقطعت أرزاقهم، ولعنوا الحمام الذي قاد لواء الهجرة.
جاء صوت الزبّال مبتلا بنحيب مكنسته مشيرا إلى طيف هناك عند الطوار كأنه الغمام:
- أُغتيل الحمام، غبّ كل إطلالة شمس،عند عتبة المطعم ذاك أجمعُ أكوام ريش وبقايا حمام."
يتبين لنا بأن قفلة هذه القصة القصيرة جدا قد جمعت فضائيا بين نهاية زمانية ونهاية مكانية.
 النهاية الشخوصية:
تنتهي بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بالتركيز على الشخصية تعريفا أو تنكيرا أو تبئيرا كما في قصة:"عاشق الزحام":"يعشق الزحام. يلتصق في الطوابير. يندفع ويتدحرج في الحافلات. يندس في جلبابه صيف شتاء. يداه معتقلتان في جيبه أو بين فخذيه. كلما كثر العفس والعسف، الرهز والنهز، تتلوى أعطافه كشجرة لبلاب. يتمطى... يتخطى... يتلاطم على جبينه البصاق في جنون. تنهض على وجهه كدمات.
مذ عرفته يعشق الزحام، يذرع الزحام، يتنفس الزحام، لا يعرف الانكفاء ولا الاكتفاء."
تنتهي هذه القصة القصيرة جدا بنهاية شخوصية ، يتم فيها تبئير الشخصية المحورية بواسطة ضمير الغائب الذي يحيل على عاشق الزحام مقاما وسياقا.
 النهاية الوصفية:
تنتهي بعض قصص جمال الدين الخضيري بنهايات وصفية قائمة على ذكر النعوت والأوصاف والأحوال والتشبيهات لتبيين أحوال الموصوف كما في قصة:" سحر أسود":" - رجل أسود أدرد يشرب قهوة سوداء في ليلة حالكة.
هذا ما قاله لي وأنا أسأله عن لوحة تشكيلية لا أرى فيها إلا السواد. ولا أخفيكم أني لم أر سحرا أسود مثل هذا الذي يشع من اللوحة السوداء."
وهكذا، تنتهي هذه القفلة القصصية بذكر مواصفات السحر، وذلك عبر إيراد الصفة والنعت، وتشغيل صورة التشبيه والتمثيل لتجسيد الحال والمآل.
 النهاية الحوارية:
تنتهي بعض النهايات في مجموعة من القصص إما بحوارات مباشرة وإما بحوارت داخلية كما في قصة"الذيل والتكملة": " قال نابشٌ في النوايا:
- نَوَى الهَرْقَ وليس الحَرْقَ.
يتمثل المشهد أمامي منبثقا من صدى العويل على الشكل الآتي :
طيفٌ يتقدم الجحافلَ هارقا على نفسه ما تيسر من البنزين. قبل أن تطوّقه أكثر من هراوة، يرشقه طيف آخر بسيجارته مشعلا شواظ الفتيل.
وكلما سمعتُ مناوشاتهم حول المنزلة ما بين الهرق والحرق أقول:
- زَيْتُ القنديل ذيل وعود الثقاب تكملة."
ونجد مثالا آخر للنهاية الحوارية في قصة:"الحية الميتة":
" حية رقطاء ممددة في الطريق.
ألجمه الخوف، حلّقتْ عيناه في كل اتجاه.
تلقّف صخرة، صوبها تجاه الأفعى، أخطأها..
اتبعها بثانية وأخطأها كَرّةً أخرى.
قالت العجوز وهي تنشطر شظايا من شدة ضحكها:
- ضاعت البلاد.. إنها ميتة.
- حسبتها حية تسعى.
- لو كانت كذلك ما أمهلتك
- مصيبةٌ في رأيك.
قالت وهي تطوّح بها:
- المصيبة هو أنت."
وترد النهاية الحوارية كذلك في قصة:"حلم بالمقلوب":" كانت جالسة لوحدها. وبعد أن انتهت من غذائها وطلبت قهوتها، لاح لها في الركن الآخر رجل في منتصف العمر تظهر عليه آثار نعمة. سرعان ما أخذت قهوتها واتجهت نحوه. جذبت كرسيا وقاسمته مائدته. ثم قالت بنبرة مغرية:
- معذرة يا سيدي، أريد أن أتحدث معك في مسألة مهمة.
- تفضلي
- لقد اقتحمتَ علي حلمي هذه الليلة رغم أنه لم يسبق لي أن رأيتك من قبل.
- جائز.
- ليالي مليئة بالأحلام يا سيدي.
- طبيعي، لكل منا أحلامه وأضغاثه..
- لكن أحلامي ليست أضغاثا.. إنها تتحقق لكن بالمقلوب
- كيف؟
- إذا حلمتُ بالنجاح فان السقوط يكون مآلي، وإذا حلمت بالصعود فإنه ينتظرني النزول، وهكذا دواليك.
- في عالم الأحلام كل شيء وارد
- وهل تعلم بماذا حلمتُ الليلة؟
- وهل هو حلم بالمقلوب أيضا؟
- أكيد.
- بماذا حلمتِ؟
- تصور. . لقد حلمتُ أنني اقتحم عليك مائدتك وأدفع ثمن وجبتك."
ويعني هذا أن النهاية الحوارية ترتبط بالنصوص المسرحية والدرامية والمشهدية القائمة على السؤال والجواب.
 النهاية التقريرية:
تنتهي كثير من القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بجمل تقريرية خبرية قائمة على التعيين والحرفية المباشرة كما في قصة:"الأزهار المندغمة" : " رأيته في الحقل يقطف أزهارا. ينتقي ما يقطفه بعناية. يحصد كل زهرة شاذة، غريبة، غير متناسقة... مشكلا باقة جامحة ومتنافرة لكنها بديعة.
اقتربت منه و أجلت فيه بصري، فإذا هو بودلير يهمهم ويقول بانتشاء:
- أجمل الباقات هي التي تندغم فيها هذه الأزهار الشريرة."
ويعني هذا أن النهاية التقريرية هي التي ترد في شكل تقريرات خبرية وأحكام إثباتية تخلو من الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية.
 النهاية الإنشائية:
تنتهي كثير من قصص جمال الدين الخضيري بنهاية إنشائية قائمة على الاستفهام، أو الأمر، أو التمني، أو النداء، أو القسم، أو التعجب، أو النهي، أو النفي، أو القصر... كما في قصة:"النزوح الأكبر":" انحسر البحر فجأة وامتدت اليابسة بين بلدين كان يربطهما من قبل بحر ملغوم. لم يشرق الصبح من غد حتى نزح قوم بكامله إلى ما بعد اليابسة.
لم يبق في بلدتي إلا شيح، وريح، وروث حمير، وحاكمها الأبدي. بحث عن نسوانه، وعن المهرج، وعن السيّاف، وعن هامات كانت لا تكف عن الانحناء، وعن أصوات تلهج بالدعاء. لم يجد شيئا إلا الخواء وصرير أبواب تريد أن تنفك من عقالها علها تقتفي أثار أصحابها. امتطى صومعة ونادى فيما تبقى من شجر وحجر:
- بمناسبة النزوح الأكبر، أعلن حظر اهتزاز الجذوع، ونمو الزروع، وتدحرج الأحجار في كل الربوع. وهل آفتنا إلاّ هذا التدحرج المروّع؟!"
ونرد النهاية الإنشائية أيضا في قصة:" عصا ومآرب":
" عصاه لا يتكئ عليها.
لا يهش بها على غنمه.
يعوج بها على مشارق ومغارب أخرى.
مخترقا الحوش في جوف الظلام، يلملمه السعال.
يطرق باب بيته، يتواتر الطرق كأنه البرق.
تتناهى إليه صدى خطوات مهرولة منفلتة من بعيد.
مزلاج، صرير، بقايا أنثى.
يهوي بعصاه على محياها مزمجرا:
- ماذا لو كنت مطاردا، ملاحقا.. ألا من مغيث؟!"
وهكذا، يختم الكاتب قصتيه بقفلتين إنشائيتين، مرة بالاستفهام الطلبي (هل آفتنا.... ؟) ، والاستثناء غير الطلبي(إلا هذا التدرج...)، ومرة أخرى بالاستفهام الطلبي(ماذا لو ...؟)، وأسلوب الحث والتحضيض(ألا من مغيث؟).
 النهاية المفاجئة:
تنتهي بعض قصص جمال الدين الخصيري بنهاية مفاجئة تصدم المتلقي بمعطياتها المعطاة، فتفاجئه بحلول لم يتوقعها القارئ واقعا أو إمكانا أو احتمالا كما في قصة"المذيعة" : " وأخيرا اشترى التلفاز ذا الشاشة المسطحة الرقيقة. علقه على أحد جدران الصالون. أشعله ونادى زوجته كي تشاهد معه نشرة الأخبار المسائية. قال لها وهو يومئ إلى التلفاز الذي ملأ إطاره وجه المذيعة الحسناء:
- إنها رائعة حقا
- لا أعتقد ذلك.
- أنظري كم هو جذاب شكلها
- عادي جدا
- صوتها يصدح واضحا، أليس كذلك؟
- صوت كبقية الأصوات لا تميز فيه.
- لكنها الوحيدة التي راقتني..
قامت ثائرة يتطاير الحنق من عينيها وصعقت في وجهه:
- أتقولها بكل صفاقة، أناديتني لتغيضني بهذه المذيعة الخرقاء.
- لكنني يا عزيزتي كنت طول الوقت أتحدث عن الشاشة وليس عن المذيعة.."
ونجد هذه النهاية كذلك في " قصة الفراق":" أخيرا قررتُ أن أتخلى عنها ولا أولي وجهي أبدا شطر مضانها. يكفي ما مضى. صراحة كنت مغفلا، واستطاعت أن تكبلني بغواياتها أكثر من اللازم. اقتحمتْ عالمي، ولم تفارقني أبدا وأنا لم أزل بعد طالبا مغلوبا على أمري، لا أملك إلا ما أسد به رمقي. مع ذلك كانت تتقاسم معي ميزانيتي الضئيلة، وتتنقل معي في حلي وترحالي. وكانت لا ترفض أن نتناوب عليها أنا وصديق لي. تصوروا.. يا لخستي مع ذلك بقيت لصيقا بها. آه.. كم كان يحلو لها أن ترمي بثقلها على صدري أو على صدورنا وتغرقنا بأريجها المميز. كلما داعبتها بأصابعي وأطبقت عليها بشفاهي تزداد حرائقها وتتقلص بين يدي. وبمجرد أن أنتهي منها أطوح بها بعيدا وأنا نادم على ما قمت به فلا تأبه لذلك. أحيانا كنت اطرحها أرضا بقوة وأدعصها برجلي، لكنها تأبى إلا أن تلتصق بي، وأعود إليها وأنا صاغر مشدود إلى سحرها الذي لا استطيع عنه فكاكا. وتتشبث بي تشبث الصغير بيد أمه، وتنتحر بين ثنايا أناملي من جديد. أما هذه المرة فلا، فإن إرادتي من حديد، فها أنا ذا أرميها إلى الأبد غير آسف. ولن أندم إذا قلت:
- "إلى الجحيم سيجارتي.."
يستعمل الكاتب عنصر الاستدراج والاستقراء، فينطلق من الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام ، وذلك من أجل أن يباغت القارئ بنهاية مفاجئة وقفلة صادمة.
 النهاية الساخرة:
تنتهي كثير من قصص جمال الدين الخضيري بالنهاية الساخرة التي تقوم على التنكيت والتلغيز والنادرة والفكاهة والسخرية والمفارقة ، كما يتضح لنا ذلك جليا في قصة:"ليلة القص": " قيل له في ليلة طافحة بالقص والسرد:
- جاء دورك قص علينا بعضا من ملحك ونوادرك
- أجل، لكن شريطة أن أبدأ قصصي من نهايتها
ولما أبدوا موافقتهم قال:
- إذاً، فلتضحكوا أولا، فنهايتها تستلزم ضحكا.
ولما ضحكوا استجابة لطلبه قال:
- أمَا وقد ضحكتم فما الداعي إليها؟.."
وهكذا، يتعامل جمال الدين الخضيري مع التراث من خلال رؤية ساخرة قائمة على التهجين والباروديا والمحاكاة الساخرة.
 النهاية الإحالية أو التناصية:
يمكن الحديث عن النهاية الإحالية أو التناصية في كثير من القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري كما في قصة:"داحس والغبراء": بدأ اللعب وانتهى في عشب ملعب، وتحول إلى داحس والغبراء من قبل شعب معلب". ، أو في قصة:" حب على شاكلة البعير": " زارتني خليلتي كعادتها في غرفتي نهاية هذا الأسبوع. وما طفقنا في عزف وصلة غرامية رائقة حتى بدأ كلبي المدلل يضايقني ويهش وينبح ويلح علي إلحاحا شديدا أن أكلم فتاتي في أمره. سرعان ما عربد التجهم على وجهها وساحتها فقالت:
- ما به؟
- يريد أن تجلبي له كلبتك. له حاجياته الغريزية مثلنا، أليس كذلك..
- لكن الأمر لا يستقيم...
- لا يستقيم!! ولم؟
- لو كان الأمر يتعلق بحيوانات أخرى ربما.. أما أن نتساوى مع الكلاب فلا..
- ومع أي الحيوانات تريدين أن نتساوى؟
- ألم تسمع قول الشاعر: " وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري" .
وهكذا، فقصص جمال الدين الخضيري ملأى بالإحالات التناصية، والمقتبسات المنصوصة، والترسبات الإحالية ، وتفتيق الذاكرة التراثية تحبيكا وتخطيبا.
 النهاية المسكوكة:
تنتهي بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بنهايات مسكوكة، وعبارات منسوجة قد تم صياغتها في شكل حكم وأمثال ونصائح وأدعية متسقة، يستعملها في قصصه الثرية لتقديم رؤيته التراثية التأصيلية، كما وردت في جملها الأصلية وملفوظاتها الموروثة عرفا وصياغة وأسلبة . ومن الأمثلة الدالة على ذلك نورد قصة:" شفيرة تفيد المرتشي":" عمّرتُ طويلا عند عتبات المكاتب حتى عِيل صبري دون أن أظفر بمآربي. ولما جعجعني القهر، انضممتُ إلى موجة الصارخين في البلد منددا متوعدا. ألفيتُني وجها لوجه أمام السيد "دائم المرتشي" متزعما موكبا من ضِجاج المواكب، ولما عرف بغيتي التي هي سبب بحّتي انتبذ بي جانبا، ودس في عبي شفيرة مفتولة كضفيرة موجهة لمن يهمه الأمر:
"مبضع الصّد لا يزيحه إلا سخاء المدّ"
إذاً، تتحول كثير من النهايات القصصية القصيرة جدا إلى عبارات مقتبسة مسبوكة سواء أكانت موروثة أم مختلقة من قبل الكاتب إبداعا وصياغة وسخرية.
 النهاية الفانطاستيكية:
تنتهي بعض قصص جمال الدين الخضيري بنهاية فانطاستيكية قائمة على التحول والامتساخ سواء أكان ذلك التحول الخارق تعجيبا أم تغريبا ، كما يتضح لنا ذلك جليا في قصة" أفعى": سيّج حظيرة. اكترى بدوا. نصب كرسيا واستوى عليه. لم ينقصه غير علم يرفرف ونشيد يُعزف. وضعهما كيفما اتفق. وإذا الحظيرة دولة تسعى. وإذا هي تنقلب أفعى."
يلاحظ أن الكاتب قد استعمل قفلة فانطاستيكية قائمة على التغريب والترويع والامتساخ، وذلك حينما تحولت الدولة إلى حية تسعى ، وذلك دلالة على انتشار الفساد والسوء والرذيلة من جهة ، ودلالة على انبلاج الثورة والغضب والسخط من جهة أخرى.
 النهاية المغلقة:
نعني بالنهاية المغلقة تلك النهاية التي لا تترك وراءها سؤالا أو استفهاما، بل ترد في صيغة إخبارية تقريرية كما في قصة:" بائع الباذنجان":"متشحا بغلالة دخان، أحس بشخصين يتبعانه.
عليه أن يتخلص من سيجارته المحشوة بالحشيش بطريقة ذكية حتى لا يُضبط متلبّسا.
انعطف نحو بائع القزبر والبقدونس، بخفة حاوٍ غيّر سيجارته بسيجارة البائع المحطوطة جانبا.
وهما يحيطان به ويمسكان بيده النافثة لخيط إدانة، قهقه عاليا عاليا، زاد من قهقهته سماعه لصوت البائع وهو ينادي: الباذنجان.. الباذنجان."
ويعني هذا أن قفلة هذه القصة القصيرة جدا مقفلة غير مفتوحة عبر الاستفهام أو نقط الحذف أوبياض الصمت.
 النهاية المفتوحة:
ثمة مجموعة من القصص القصيرة جدا تنتهي بخاتمة أو قفلة أو نهاية مفتوحة في شكل أسئلة ينبغي أن يجيب عنها المتلقي كما في قصة:" القطط في بلادي" : " لم أَر القطط في بلادي قَطُّ تأكل من خشاش الأرض أو توغل في جوف الفَرى. فقطْ عازمةً نازحةً تنتظم في طوابير.
أراهُ كالقدر يدفع بتؤدة دَوّاستي دراجته الهوائية، من بعيد تتلاشى بحّات صوته، بإصرار يعرض بضاعته. عندما لا يجد كعادته مقتنيا للسمك الذي تنوء به دراجته يبصقه على الطوابير المتمططة خلفه، وبوجهه الطيني ينسف المثل الصيني، ضارعا رافعا وجهه نحو الأعلى:
- يا سامك السماء هل من حاجة لتعلّم صيد الأسماك؟!"
وهكذا، تنتهي هذه القصة القصيرة جدا بقفلة مفتوحة في شكل استفهام استفساري موجه إلى المتلقي للإجابة عنه.
 النهاية الخرجة:
نعني بالنهاية الخرجة تلك النهاية التي تتخذ العامية أو الدارجة لغة للتخاطب والتواصل كما في قصة:"عبث": "عبثي حتى النخاع. يرى العالم مرتبا ترتيبا معكوسا، وأن الأمور منفلتة فيه ومقلوبة رأسا على عقب.
وحين لا يجلب جل تلاميذه كتبهم كعادتهم يثور فيهم غاضبا:
لّي ما عندوش الباب يخرج من لكتاب."
وتذكرنا هذه القفلة العامية بالخرجة في الموشحات الأندلسية التي كانت تنتهي بنهاية عامية أو نهاية مصاغة بلغة أجنبية.
 النهاية الملغزة:
تتحول بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري إلى ألغاز مربكة وأسئلة محيرة كما في قصة:"بغية مطمورة":" بعدما أضناني البحث عنها قصدت الدرويش لعله ينير لي ما تعتم من سراديبي. وجدته في ركنه المعهود مكدودا يحمل عجزه البادي. دون أن ينتظر مني السؤال، ودون أن يتفحص محياي، بادرني:
- إخالك تبحث عنها.
- أجل.
- صفها لي
قلت بابتهال:
-أناديها وأعاديها، إذا تكسرتْ تيسرتْ، وإذا التوتْ استوتْ، وكلما سردتْ سدرتْ، ومتى ما صاغت غاصت، فلا لهوتُ بجلدها ولا نجوتُ بجلدي.
قال رافعا عينيه نحوي في ذهول:
- ويحك، لن تتبدى لك، بغيتك مطمورة في كتاب."
فهذه القفلة بمنزلة لغز يستدرج فيها السارد القارئ ليبحث معه عن جواب شاف لهذا اللغز المحير. لذا، تسمى هذه القفلة بالنهاية الملغزة.
 النهاية الصامتة:
تنتهي بعض قصص جمال الدين الخضيري بنهاية صامتة ، وذلك بتوظيف علامات الحذف أو الصمت، أو تشغيل البياض لترك مساحة مثقوبة أمام المتلقي لملء فراغها بتأويلاته الممكنة والمفتوحة كما في قصة"الأصلع":" أستاذنا أقرع، أصلع، بإمكان المرء أن يمشي على رأسه حافيا دون أن يتأذى.
يطفق في الشرح مارا بكفه على صلعته الناصعة بحركة لا إرادية. تتناهى إلى سمعه العبارة الدامية: (الأصلع). يتناثر ريقه مدمدما:
- الشعر لا يكسو إلا رؤوس الحمير أمثالكم، متى ما رأيتم حمارا أصلع، أدفع عمري إن أتيتموني به.
ننسل هاربين من القسم مرددين بصوت جماعي:
- رأيناه رأيناه..."
يلاحظ أن ثمة نقط الحذف في آخر القصة القصيرة جدا بعد كلمتي: رأيناه رأيناه ... دلالة على الصمت المتعمد من قبل الكاتب ليستدرج المتلقي من أجل المشاركة في بناء النص تلذذا وانسجاما.
 النهاية الشاعرية:
تتضمن بعض النهايات في قصص جمال الدين الخضيري نهاية شاعرية توحي بأجواء الحب والغواية والافتتان الجمالي والإيروسي كما في قصة:"الغانية والملتحي":" قالت وهي تضج بالمساحيق:
- عِظْني يا شيخ
ظل محدقا فيها مأسورا بجمالها الوحشي الصاعق، حتى اعتقدت أنه تاهت منه لفظة البدء. فقال:
- تساوينا في هذا، أحتاج اللحظة إلى من يعُضّني، عفوا، إلى من يَعِظُني مثلك.
عَضّت شفتيها، وانصرفت متمايلة، ثانية أعطافها."
وترد النهاية الشاعرية كذلك في قصة:"كلمات":" اعتاد أن يقول لها كلمات يكاد يقفز لها قلبها من نياطه وتحملها إلى الثريا من قبيل: " أرى البحر يطل من عينيك" و " شعرك جواد جامح". وعندما صمّمت أن تقول له:
- دعني أراك أنت هذه المرة.
توارى في الزحام ممتطيا الجواد الجامح عابرا البحر الذي شغف به في اتجاه الضفة الأخرى. وتطاير القلب وتطايرت نياطه."
يلاحظ القارئ أن هاتين القصتين القصيرتين جدا تحوي أجواء رومانسية شاعرية تختلط فيها الصور المجازية مع شاعرية الذات والانفعال والحب والعشق والغواية والافتتان.
 النهاية المفارقة:
تبدو بعض النهايات في قصص جمال الدين الخضيري نهايات مفارقة تقوم على التضاد والتقابل والتناقض بين العناصر اللغوية والصور السردية كما في قصة:" البرتقالة القاتلة": "عم القحط وسادت المجاعة في البلاد. استشرى الجراد وتنافس مع بني البشر في افتراس النبات ولحاء الشجر. ظهر رجل في الزقاق أنهكه الهزال يتمسح بأعتاب برتقالة، ثم سرعان ما دسها في عبه بحركة برقية. تبعه هيكل عظمي على مشارف الموت يجر خطاه بثقل كأنه ينتزعها من صمغ لصيق. يود لو يظفر ببعض القشور أو بعض الفتات. طفق صاحب البرتقالة في تقشيرها. ازدرد القشور أولا وأتبعها بلبها. سقط الرجل الهيكل ريشة هامدة من هول المشهد واستفحال الطوى، وتساقط الرجل الآخر من فرط التخمة."
وهكذا، تنتهي هذه القفلة القصصية بتقديم صورتين متناقضتين ساخرتين تؤشران على جدلية الصراع بين الأنا والآخر، وتأكيد مفارقة الذات والواقع.
 النهاية الصادمة:
يلاحظ أن بعض نهايات القصص القصيرة جدا التي يكتبها جمال الدين الخضيري نهايات صادمة تربك المتلقي ذهنيا، وتحيره عقلا ووجدانا، كما في قصة:"الصفيحة الجانية":" علق صفيحة حمار في باب داره، وعلق أخرى في سيارته. يسأله ابنه دائما عن جدوى هذه الحديدة المعقوفة الصدئة، فيجيبه:
- فيها خير كثير ؛ تقي من العين ومن عاديات الزمن.
وعندما كانا يتجولان في دروب الحي انتبه الابن إلى أن الرجال الراكبين على الدواب يشبعونها ضربا ونخسا.
فقال لأبيه مستغربا:
- لماذا ينهمر اللكز والضرب على هذه الدواب البئيسة، ألا تحمل في أظلافها صفائح تقيها من عاديات الزمن، ومن لسعات السياط الماحقة؟"
تنتهي هذه القفلة القصصية بخاتمة أو نهاية صادمة تربك القارئ ذهنيا ومنطقيا، خاصة إذا كان هذا القارئ قد تعود على نهايات تراعي أفق انتظاره.
 النهاية السعيدة:
تتضمن بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري نهاية سردية إيجابية، وتختم بقفلة سعيدة كما في قصة:"حالة طوارئ":" جلس في المقهى، كانت ماثلة قبالته بشكل متحد كأنه القدر. تثاءب، فتثاءبت، ابتسم، فافتر ثغرها عن ابتسامة. هم بها وهمت به. جلس أمام مقود سيارته وقبل أن يتم حركة فتح الباب لها، دوّت في المكان صفارات إنذار. توارتْ، وتوارى الكل في لمحة بصر. تحسس قميصه في ذهول فلم ير أنه قُدّ من قُبل ولا من دُبر، فتنفس الصعداء."
نلاحظ - إذاً- بأن هذه القفلة القصصية القصيرة جدا تنتهي بنهاية سعيدة، وذلك من خلال جملة السارد:" فتنفس الصعداء" التي وضعت حدا لوضعية الاضطراب والتأزم.
 النهاية المأساوية:
تنتهي بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بنهايات حزينة ومأساوية ، وذلك حسب تجربة الشخصية داخل القصة المعطاة كما في قصة:"عصا الترحال": بعدد النمل والرمل كانوا.
سعارا وجنونا، تشظت الربوع تحت وطأة صراخهم. جأروا، جهروا:
- ارحلْ مدحورا
- ما أنا براحل.
- ارحلْ ثكلتكَ أيّامُك.
- ما أنا براحل يا...
قالت نملة: لََيحطمنّنا الجندُ وهم يشعرون.
وما كادوا يشْرَعون حتى هبّت زوبعة مباغتة كالعطسة، هشّمت عصا الترحال، وأصبحت المسالك ذات محالك ومهالك."
تنتهي هذه القفلة القصصية بنهاية مأساوية كما يتضح ذلك جليا في هذه العبارة الدالة:" وأصبحت المسالك ذات محالك ومهالك". وهذا تأشير على وجود المآسي والمصاعب والأهوال التي سيواجهها المرتحلون أثناء مغامراتهم السفرية ، وتجاربهم الحياتية.
 النهاية المتوازية:
تتميز نهايات بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بالتوازي إن صرفا وإن تركيبا وإن دلالة كما في هذه القصة:"وعد صادق":" باسقةً تسمق الشمس. في شماريخها، تقصف البحر بأشعتها الاتهامية المتحرشة. تضطرب أنفاسه مدا وجزرا، ثم ما يفتأ يغويها غواية النار للفراشة، لتستسلم متدحرجة من علاها فتذوب فيه متوهجة متوارية.
استحضر هذا المشهد وهو يتأملها حاسرة متهالكة جنبه على السرير كأنها فقمة لفظها البحر. للتو تحوّل بحرا هادرا مستقطبا، وتحولت هي شمسا مشرقة مسافرة . كلاهما يحذق دوره، كلاهما يصدق وعده."
ترتكز هذه القفلة القصصية على استعمال التعادل التركيبي، واستثمار التوازي اللغوي والنحوي من أجل خلق إيقاعية قصصية لافتة للانتباه.
 النهاية الرمزية:
تنتهي بعض القصص القصيرة جدا عند الكاتب بنهاية رمزية كما في قصة:"بغلان":"غذ السير جهة شروق الشمس حتى امتد أمامه بغلان يرمقانه شزرا. هم بمواصلة السير إلا أنه تذكر أنهما رابضان هناك منذ مدة لا يتزحزحان قيد أنملة واحدة يشحجان ويرفسان كل عابر.
قرر أن يأخذ عصا ويهش بها عليهما علهما ينجفلان. سرعان ما تراجع وهو يقول:
- إن وراء البغلين ما وراءهما."
تدل هذه القفلة القصصية (بغلان) على وجود صراع عدواني مفتعل بين جيرانين لا يفصلهما إلا معبر حدودي يسمى ب(بغلان)، ويشير الكاتب من خلالهما واقعيا إلى التنافر الحدودي الموجود بين المغرب والجزائر .
 النهاية الأسطورية:
تنتهي بعض القصص القصيرة جدا عند الكاتب بنهاية أسطورية كما في قصة :" سيدة القهقرة": " ما بين المساحيق والفساتين تَتَسرمدُ سيدة القهقرة والثرثرة. فعلٌ يتواتر مع انبلاج كل صبح.
ينتظرها كعادته في سيارته. يروغ عن مواعيده. يطير جنونه مناطيد..
غزته فكرة طارئة: لم لا يغتال طول الانتظار بصولة الانصهار في فعل شيء ما؟
في ظرف وجيز، أَلَّف دواوين وعناوين بين ثنايا مقود سيارته. كاد أن يخرج من جلده جذلا.
قرر أن يهدي عمله إلى ملهمته وشيطانة شعره التي تقتسم معه السرير والشخير، والتي لم يَسْعَ قط إلى ملاحقتها في وادي عبقر على غرار الشّعراء والسعراء" .
يشير " وادي عبقر" في هذه القفلة القصصية إلى دلالات أسطورية يتداخل فيه التخريف مع الأسطرة ، حيث يعتبر وادي عبقر عند شعراء الجاهلية مصدر الشعر والخلق والإبداع، وفيه يستمد الشعراء إبداعهم من الجن والشياطين.
تركيب واستنتاج:
وخلاصة القول: تلكم نظرة موجزة ومقتضبة حول معمار القصة القصيرة جدا في ضوء المقاربة الميكروسردية، وذلك من خلال التركيز على أربعة عناصر بنيوية كبرى تشكل لحمة القصة القصيرة جدا، وتعضد نسيجها النصي اتساقا وانسجاما ومعمارا. وتتمثل هذه المكونات البنائية في البداية والعقدة والجسد السردي والنهاية. وقد اتضح لنا ، مما سبق ذكره، بأن الدراسات التي انصبت على العناصر المعمارية في السرديات بصفة عامة وفن القصة القصيرة جدا مازالت دراسات قليلة جدا تعد على الأصابع. كما تبين لنا أيضا بأن القصة القصيرة جدا بالمغرب كما هي عند المبدع جمال الدين الخضيري ، وذلك من خلال أضمومتيه:" فقاقيع" و" وثابة كالبراغيث" ، تتسم بالتنوع والثراء والغنى على مستوى البداية والعقدة والجسد السردي والنهاية.
الهوامش:
- أحمد جاسم الحسين: القصة القصيرة جدا، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 1997م، ص:48؛
2- انظر: ياسين نصير: الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:7؛
3 - د.أحمد العدواني: بداية النص الروائي، النادي الأدبي بالرياض والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2011م؛
4- انظر هذه المنهجية عند د.جميل حمداوي: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا- المقاربة الميكروسردية، كتاب قيد الطبع ، وقد تم نشره رقميا بموقع أدب فن، http://www.adabfan.com/criticism/3670.html
5 - جمال الدين الخضيري: فقاقيع، التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2010م؛
6 - جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث ، مجموعة قصص قصيرة جدا، قيد الطبع، وتضم أربعا وستين قصة قصيرة جدا؛
7 - أرسطو: الخطابة، ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، طبعة 1980م؛
8 - ياسين نصير: الاستهلال ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:7؛
9 - القزويني: فن التخليص في علوم البلاغة، ضبط وشرح عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية؛
10- ياسين نصير: الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2009م؛
11- صدوق نور الدين: البداية في النص الروائي، دار الحوار، اللاذقية، سورية، الطبعة الأولى سنة 1994م؛
12- د.أحمد العدواني: بداية النص الروائي، النادي الأدبي بالرياض والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2011م؛
13- د.صبري حافظ:( البدايات ووظيفتها في النص القصصي)، مجلة الكرمل، قبرص، العدد:21-22، سنة 1986م، ص:142؛
14- د.عبد العالي بوطيب: ( مساهمة في نمذجة الاستهلال الروائي)، مجلة مقدمات، الرباط، المغرب، العدد:21، خريف 2000- شتاء2001م، ص:31؛
15- جليلة الطريطر: (في شعرية الفاتحة النصية : حنامينة نموذجا)، مجلة علامات في الأدب والنقد، جدة، السعودية، العدد:، 1998م، ص:145؛
16- د.شعيب حليفي: (فاعلية التخييل في البداية السردية)، مجلة أوراق، عمان، الأردن، العدد:10، شعبان 1420ه، ص:79؛
17- أندري دي لنجو: (في إنشائية الفواتح النصية)، ترجمة: سعاد بن إدريس نبيع، مجلة نوافذ، جدة، العدد:10، شعبان 1420ه، صص:20-25؛
18- جاك وب: (فن البداية)، كتاب معالم القص، ترجمة: د.مانع الجهني، النادي الأدبي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى 2001م، ص:167؛
19- د.عبد الملك أشهبون: (خطاب النهاية في الرواية العربية)، مجلة قوافل، الرياض، العدد:23، 2007م، ص:42-45؛
20- أحمد جاسم الحسين: القصة القصيرة جدا، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 1997م، ص:48؛
21- د.يوسف الحطيني: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، مطبعة اليازجي، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م، صص:105-111؛
22 - جاسم خلف إلياس: شعرية القصة القصيرة جدا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2010م، صص:179؛
23- د.جميل حمداوي: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا- المقاربة الميكروسردية، كتاب قيد الطبع ، وقد تم نشره رقميا بموقع أدب فن، http://www.adabfan.com/criticism/3670.html
24- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:14؛
25- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:70؛
26- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:15؛
27- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:77؛
28- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:10؛
29- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:25؛
30- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:25؛
31- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:19؛
32- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:31؛
33- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:8؛
34- جمال الدين الخضيري:وثابة كالبراغيث، ص:9؛
35- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:88؛
36- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:32؛
37- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:13؛
38- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:44؛
39- جمال الدين الخضيري: فقاقيع ، ص:25؛
40- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:13؛
41- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:20؛
42- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:19؛
43- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:14؛
44- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:11؛
45- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث،ص:14؛
46- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:91؛
47- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:76؛
48- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:73؛
49- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:78؛
50- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:86؛
51- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:87؛
52- جمال الدين الخضيري:وثابة كالبراغيث، ص:15؛
53- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:5؛
54- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:6؛
55- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:77؛
56- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:16؛
57- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:92؛
58- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:16؛
59- جمال الدين الخضيري:وثابة كالبراغيث، ص:12؛
60- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:12؛
61- جمال الدين الخضيري:فقاقيع، ص:29؛
62- جمال الدين الخضيري:فقاقيع، ص:89؛
63- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:16؛
64- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:20؛
65- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:90؛
66- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:8؛
67- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:74؛
68- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:67؛
69- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:15؛
70- جما الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:20؛
71- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:32؛
72- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:11؛
73- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:13؛
74- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:2؛
75- جمال الدين الخضيري: بغية مطمورة، ص:19؛
76- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:19؛
77- جمال الدين الخضيري:فقاقيع، ص:11؛
78- جمال الدين الخضيري: فقاقيع،ص:11؛
79- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:5؛
80- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:4؛
81- جمال الدين الخضيري: فقاقيع، ص:17؛
82- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:12؛
83- جمال الدين الخضيري: وثابة كالبراغيث، ص:6؛
84- جمال الدين الخضيري:فقاقيع، ص:53؛
85- جمال الدين الخضيري:وثابة كالبراغيث، ص:3.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.