هلال: على الجزائر أن تقر بإخفاق مشروعها الانفصالي في الصحراء    أسعار النفط ترتفع وسط تفاؤل حيال الطلب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الارتفاع يستهل تداولات بورصة الدار البيضاء    مصرع أكثر من 35 شخصا في حريق بالكويت    الأمم المتحدة تدرج رسميا إسرائيل في "قائمة سوداء" لمنتهكي حقوق الأطفال    مندوبية التخطيط: 60 بالمائة من الأطفال المشغلين عام 2023 يزاولون أعمالا خطيرة    الضرب بيد من حديد على "تجار الرضع" في فاس.. السجن 20 عاما للمتهمين في القضية    مساءلة وزير التعليم في البرلمان حول انتحار تلميذة بعد ضبطها في حال غش في الباكلوريا    مصرع أكثر من 35 شخصا في حريق بالكويت    "الرياض" المغربية.. دور ضيافة عتيقة تنافس الفنادق الحديثة وتنعش السياحة    قدوم أكثر من 1.5 مليون حاج من خارج السعودية عبر المنافذ الدولية    مهندسو وزارة العدل يصعدون من أجل إقرار تعويضات تحفيزية لصالحهم    برلماني ورئيس جماعة يمثل أمام القضاء لمواجهة تهم خطيرة    باليريا تسير 15 رحلة يوميا إلى المغرب لخدمة الجالية.. منها رحلات إلى الناظور        إذاعة فرنسا العامة تطرد كوميديا بسبب نكتة عن نتنياهو    القنصلية العامة لإسبانيا بطنجة تعلن عن انتهاء مهام القنصل "غافو أسيفيدو"    حكيمي يكشف السر وراء الفوز الساحق على الكونغو    فكرة أبصرت النور بعد موت صاحبها، كيف انطلقت بطولة كأس الأمم الأوروبية؟    كيوسك الأربعاء | أزيد من 7 آلاف طفل في خلاف مع القانون    الوزارة تكشف عدد السياح الذين زاروا المغرب عند نهاية شهر ماي    الداكي رئيس النيابة العامة يستقبل رئيس السلطة القضائية بجمهورية البيرو    إعادة انتخاب المغرب في اللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة    الخلاف الحدودي السعودي-الإماراتي على الياسات: نزاع حدودي أم صراع نفوذ؟    تحقيق للأمم المتحدة: النطاق "الهائل" للقتل في غزة يصل إلى جريمة ضد الإنسانية    توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء بالمغرب    بتنسيق مع "ديستي".. تفكيك شبكة لترويج الكوكايين في العرائش وضبط كمية كبيرة من المخدرات    تقرير: المغاربة أكثر من رفضت إسبانيا طلبات تأشيراتهم في 2023    توقيع اتفاقية تعاون بين جهة الشرق وجهة اترارزة الموريتانية    مانشستر يونايتد يبقي المدرب تين هاغ    اليونسكو.. تسليط الضوء على "كنوز الفنون التقليدية المغربية"    اليد الربعة: تجربة جديدة في الكتابة المشتركة    لوحات فريدة عمرو تكريم للهوية والتراث وفلسطين والقيم الكونية    المنتخب المغربي يتألق بتحقيق فوز عريض ضد الكونغو برازافيل    أقصى مدة الحمل بين جدل الواقع وسر سكوت النص    تطورات مهمة في طريق المغرب نحو اكتشاف جديد للغاز    إطلاق مشروع "إينوف فير" لتعزيز انخراط الشباب والنساء في الاقتصاد الأخضر    توقيع على اتفاقية شراكة للشغل بالمانيا    القناة الرياضية … تبدع وتتألق …في أمسية فوز الأسود اسود    "الأسود" يزأرون بقوة ويهزون شباك الكونغو برازافيل بسداسية نظيفة    انتخابات 2026: التحدي المزدوج؟    أفاية: الوضع النفسي للمجتمع المغربي يمنع تجذّر النقد.. و"الهدر" يلازم التقارير    الركراكي: ماتبقاوش ديرو علينا الضغط الخاوي    غباء الذكاء الاصطناعي أمام جرائم الصهيونية    ندوة أطباء التخدير والإنعاش تستعرض معطيات مقلقة حول مرضى السكري    الأمثال العامية بتطوان... (622)    من المغرب.. وزيرة خارجية سلوفينيا تدين إسرائيل وتدعو لوقف تام لإطلاق النار بغزة    وفاة المعلم علال السوداني، أحد أبرز رموز الفن الكناوي    رفيقي يكتب: أي أساس فقهي وقانوني لإلزام نزلاء المؤسسات السياحية بالإدلاء بعقود الزواج؟ (2/3)    الفنان عادل شهير يطرح كليب «دابزنا» من فرنسا    الفنانة التشكيلية كوثر بوسحابي.. : أميرة تحكي قصة الإبداع من خلال لوحاتها    بوطازوت وداداس يجتمعان من جديد في المسلسل المغربي "أنا وياك"    السعودية تحظر العمل تحت أشعة الشمس اعتبارا من السبت القادم    ارتفاع درجات الحرارة من أكبر التحديات في موسم حج هذا العام (وزارة الصحة السعودية)    خبراء يوصون باستخدام دواء "دونانيماب" ضد ألزهايمر    دراسة علمية أمريكية: النوم بشكل أفضل يقلل الشعور بالوحدة    الرسم البياني والتكرار الميداني لضبط الشعور في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سينما الأسئلة المُعَلّقة.. في مديح يورغوس لانتيموس

قبل أن نتحدث عن لانتيموس وسينماه الموغلة في البساطة والتعقيد، لنعد قليلًا إلى كافكا، وتحديدًا إلى روايته «التحول» أو «المسخ»، إن ما صنعه كافكا في تلك الرواية كان أكثر من مجرد الحكاية، فكل رواية نقرأها تحكي قصة، لكن ماذا بعد الحكاية؟ أو ماذا أثناءها؟ أو ماذا قبلها؟ نتسائل لماذا حصل هذا ولماذا حدث ذلك؟ لكن كافكا لا يجيب، يواصل سرده بعبثية كاملة، غير عابئ بأسئلتنا الحائرة.
يدخلنا مع جريجور سامسا في قصة عن التحول من إنسان إلى حشرة عملاقة، دون أن يقدم أدنى تفسير، ثم يتجاوز بنا تلك الصدمة السردية إلى واقع القصة وتفاصيلها، فتظهر أسئلة جديدة، يتجاهلها كما تجاهل الأسئلة الأولى ويستمر في سرده، حتى تأتي النهاية بسيطة كما البداية، ونخرج من الرواية كما دخلناها، سوى أننا نخرج منها وقد عرفنا ما حدث لجريجور، ليس لماذا حدث، بل ماذا حدث.
وتبقى معنا تلك القصة، تطاردنا لأيام، نفكر فيها، نحاول إيجاد أجوبة لأسئلتنا حولها، نعود إلى الكتاب، نقرأه مرة أخرى، لكن لا جديد، الكلمات هي نفسها، الأحداث هي نفسها، التفاصيل هي نفسها، والأسئلة الحائرة هي نفسها، ثم في لحظة ما ندرك أن الهدف، ربما، لم يكن أن نحصل على الأجوبة، بل أن نطرح الأسئلة، فيكون السؤال بهذا المعنى الكافكوي العبقري هو الهدف، ولا يعود للجواب أي معنى، بل لا يعود له منطق أصلًا، فجريجور قد مات، وكافكا قد مات، لكن القصة عاشت، والحكاية ستبقى معنا إلى أن نموت، نحن أيضًا.
وتمامًا كما يُعدم كافكا كل الأجوبة عندما يغمرها بسيلٍ من الأسئلة الجارفة؛ يعمد لانتيموس إلى إرهاقنا بالتفاصيل وعلامات الاستفهام، ويجذبنا باستخدامه المتقن لأدوات السرد السينمائي إلى الصورة والصوت، بل النص والقصة، يعيدنا إلى معنى السينما: كيف تُحكى القصة؟ لا ما هي القصة، ولا ماذا يحدث فيها، يخرجنا من كل توقعاتنا، أو هو في الحقيقة يدخلنا إلى أعماق تلك التوقعات، ويرينا كيف أنها بسيطة، بل وربما تافهة، وأن كل الأسئلة التي نطرحها عليه غير مهمة، بل لا علاقة لها بما يُصوره وما يحكيه.
يفكك تلك التوقعات أمامنا ويحقِقها تمامًا كما توقعناها، ليقول لنا -ربما- أن لا غاية من هذا كله، وأن الغاية الوحيدة التي يمكن أن نبلغها من قضاء ساعتَين معه، هي ما يحدث في تَينِكَ الساعتين، فقط. لا ما قبلهما ولا ما بعدهما، أي لا ما نتوقعه ونرجوه من الفيلم، ولا ما سيصيبنا بعده من حيرة في محاولة تفسير ما حدث. إن ما يحدثُ في أفلام يورغوس لا يتجاوز آخر لقطة منها، يبقى هناك، حبيس صوره وألحانِ موزعيه وملامح ممثليه، وينتهي كما تنتهي قصص كافكا، مع آخر صفحة، ولا يعود من المهم بعدها أن نعرف لماذا حدث ما حدث.
لا ينجح المخرج إلا إذا استفز المشاهد، وهل هناك استفزاز أكبر من أن يجعلنا نتسائل بحيرة كاملة، ثم بغضب: «لماذا؟!» ثم لا يعطينا جوابًا، وكأنه يعيد استنطاق نيتشه في رفضه لذلك السؤال واعتباره أنه سؤال عبثي لا يمكن أن يلقى جوابًا شافيًا. والقصد هنا هو تقديم صورة أبلغ للسينما، صورة تتعالى عما نريد إلى ما يريد الصانع (المخرج)، أليس ذلك هو الفن؟ ما ينتجه الفنان، أيا كان ذلك.
إن فكرة الدخول إلى السينما ومشاهدة فيلم بغرض الخروج منه بأجوبة هي فكرة غير منصفة للسينما، ما الذي يلزم المخرج (الفنان) بأن يقدم أجوبة على أسئلة هو من قرر أن يدخلها عمدًا، باستخدام أدوات فنه، إلى عقل المشاهد. إن تلك الفكرة تُحاول إنزال السينما إلى مستوى لا تستحقهُ، إلى شيء أدنى من حقيقتها، إلى ما يشبه الثقافة العامة ومسابقات التلفزيون، هناك توقع أن لكل سؤال جوابًا، لكن الواقع، في حياتنا وفي السينما، أنه ليس لكل سؤال جواب، بل إن الأسئلة دائمًا أكثر من الأجوبة، أكثر بكثير.
ذلك هو الواقع؛ أن يبقى كثير من أسئلتنا حائرًا دون أجوبة، وذلك، بالنسبة لي على الأقل، هو لب ما قدمه يورغوس لانتيموس في فيلمه البديعَين The Lobster و The Killing of a Sacred Deer: سينما خالصة، خالية من الانحناء لما قد يريده منها أي أحد، متعالية على الأنساق التقليدية الباحثة عن معنى لكل شيء، متعالية على فكرة «الفائدة» أو»الرسالة» أو»المغزى» من الفن، إذ الفن بحد ذاته هو الفائدة وهو المعنى وهو المغزى وهو الجواب.
ثم إن لانتيموس يملأ أفلامه بتفاصيل كثيرة جدًا، لو ركزنا عليها وحدها، لشغلتنا عن الأسئلة وأجوبتها، إنه يبدع في تصوير قصصه ببساطة لافتة، موغلًا في الاقتراب من طبيعة الأشياء، ممعنًا في تجريدها من أي رومانسية أو خيال، مستخدمًا أدوات الفن والأدب معًا لخلقِ جوه الخاص، فإذا كنا نعرف أفلام ويس آندرسون بصورها ونعرف أفلام تارانتينو بكلماتها ونعرف أفلام هيتشوكوك بمشاهِدها، فإن لانتيموس يُعرّفُ سينماه بشيء أبسط من ذلك كله؛ بأجواءها.
إنه يخلقُ جوًا خاصًا به وبعوالمه وقصصه، ويُقحمنا في ذلك الجو الفريد من البداية، يربكنا بالتفاصيل ويزعجنا، بل ويغضبنا أحيانًا بالتعقيد والغرابة، مازجًا بين ما هو واقعي وما هو فانتازي دون أن يطغى أحدهما على الآخر، ودون أن نشعر بأن ما يحدث لا يحدث لأي سبب سوى أن لانتيموس يريده أن يحدث، حتى ينتهي الفيلم، فنخرج منه لندخل في حالة ذهول كاملة؛ مرتبكين، حائرين، متسائلين: لماذا؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.