يعتبر البعض أن دور المثقف والمحلل السياسي هو الوقوف عند مسافة واحدة من مختلف الفاعلين السياسيين، وليس الانتصار لفريق دون آخر لما يمثله هذا من انحياز مخل بمقتضيات تدخل المثقف والمحلل السياسي وتعامله مع قضايا الخلاف والصراع بين الأحزاب السياسية وأطروحاتها المختلفة في تناول قضايا الشأن العام. إن الحياد في قضايا المجتمع والسياسة غير ممكن، وليس له من معنى غير اللامبالاة في أحسن أحواله، أو الاصطفاف إلى جانب المستفيدين من الأوضاع المعنية. كما علمنا التحليل العلمي لكل تناول للقضايا ذات الارتباط الجوهري بقضايا مثل قضايا تدبير الشأن العام ومختلف أشكال التنافس الاجتماعي والسياسي باعتبارها قائمة على تصورات خاصة بالمصالح المادية أو المعنوية لتلك القوى وليست وليدة اللامبالاة بها. ولست أكشف سرا إذا أكدت، هنا، أنني لست محايدا بمعنى اللامبالاة بخصوص قضايا الممارسة السياسية كما لست أضع نفسي ضمن خانة المستفيدين من الأوضاع القائمة، بما يعنيه من محاولات الوقوف في وجه التنمية الاجتماعية والسياسية. بل أصطف ضمن المدافعين عن الأفق الديمقراطي المؤسس على ضرورة احترام مختلف القواعد الديمقراطية عندما لا يبدو أنها في صالحهم، قبل أن تكون متطابقة معها، لأن هذا هو الاختبار الفعلي لمدى الالتزام بها في المنطلق أو عند النتائج على حد سواء. غير أن عدم إمكان التزام الحياد أو "صفر رأي وموقف"، من قضية من القضايا، لا يعني عدم إمكان التزام الموضوعية في تناولها. الموضوعية ليست كما لا يخفى على أي إنسان واقعي وعقلاني تعني أساسا التقيد بمعطيات الواقع عند التناول وعدم محاولة إخضاعها إلى رغبات ذاتية لا تستند إلى واقع ملموس يمكن التأكد منه بالنسبة لكل من انخرط في عملية توصيف الواقع، وإن اختلفت قراءاتهم في تكييفها. ذلك أن إنكارها لا يمت إلى الموضوعية بصلة بل هو شكل من أشكال التضليل غير المسؤول في حال الوعي بذلك أو في حال انتفائه معا. أعتقد أنه كلما وقف الإنسان عند خطاب، في أي مجال من المجالات، يزعم لنفسه الطهرانية المطلقة ويرى في خطاب الغير تجسيدا للدنس الشيطاني أو ما شابه، فلا ينبغي التردد في اعتبار الخطاب الأول خطابا خاطئا وتدليسيا على كل المستويات، كما لا ينبغي التردد في القول في المقابل، باحتمال صواب الثاني ولو في مستوى من مستوياته. فلأن الأول خطاب إقصائي في عمقه فهو يغلق باب الحوار باعتباره مكتفيا بذاته عن سواه من أشكال الخطاب والتصورات، وهو بذلك يفرض العقم على التفكير والممارسة معا، ويحيل التحليل السياسي على النفاثات في العقد مرة أخرى كَدَأْب أسلافهم في البحث عن قراءة طلاسم ما أنزل لله بها من سلطان.