لا شك أن السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن، ونحن بصدد مناقشة الحاجة إلى المثقف بشكل عام، والأمازيغي بشكل خاص، راهنا في المغرب، هو ما المقصود بالمثقف عامة، وبصفة "الأمازيغي" خاصة؟ فالمثقف بكل اختصار هو منتج للمعنى، يمتلك ما يكفي من أدوات المعرفة والإبداع والقدرة على طرح الأسئلة الصعبة، وعلى تحليل الواقع والوقائع والانتباه إلى نبض المجتمع وإخفاقات واختلالات تدبير قضاياه وشؤونه، وينخرط في مسارات تطوره الثقافي والاجتماعي والسياسي اعتمادا على رؤية إنسية وتصورات وإنتاجات علمية وفكرية أو إبداعية مؤثرة وذات جدوى ومعنى. ومن المعلوم أنه من شروط تطور المجتمعات والتجارب الديمقراطية الإنصات لصوت المثقف الذي يضطلع بدور نقدي وتنويري يعكس انشغالات المجتمع وصوته ومشروع تطويره والاستجابة لطموحاته، وذلك بالشكل الذي يتمن دور الثقافة والفكر والمثقف ووظيفته كحامل للضمير الجمعي وفاعل ووسيط مجتمعي، خاصة أمام إخفاقات السياسي وفي مقابل مقاربته ومصالحه، وأحيانا جشعه وتجبره وعماه، وباعتبار المثقف منتج للمعنى يتيح إمكانات تحليل وفهم المجتمعات والأوضاع واختلالات تدبير شؤونها وإنتاج المعرفة الضرورية حولها. ففي تاريخ الأنظمة الديمقراطية والمجتمعات المتقدمة يلاحظ كيف تم توظيف الثقافة وإنتاجات الباحثين والمفكرين والفنانين وانتقاداتهم وإبداعاتهم ونظرياتهم....في مسار التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي، وتصريفها من خلال اختيارات النموذج المجتمعي ووضع السياسات العمومية وتقويمها، وتقوية أدوات الإنتاج الاجتماعي ودمقرطتها، خاصة في مجالات التعليم والثقافة والإعلام والشأن الديني وتطوير الحياة الاجتماعية. من الواضح أن المثقف الأمازيغي هو أولا مثقف، وبالتالي تسري عليه كل الأسئلة والمواصفات والشروط التي يثيرها هذا الوصف والانخراط والوظائف المرتبطة به. ولأنه مثقف فلا يمكن أن يحمل هذه الصفة ما لم يبحث في وضعه وانتمائه الاجتماعي والثقاقي وفي الهوية التي ينتمي إليها. لذا كان على “المثقف” الأمازيغي مند نشأة المفهوم وتوفر شروط ظهوره، العمل على تأكيد مشروعية هذا الوصف في علاقة بمهامه وبوضعية الأمازيغية، وبالتطور الحضاري للمجتمع ككل. ومن الملاحظ أن كل المثقفين المغاربة طرحوا سؤال الهوية والانتماء، والفرق أن جلهم تبنوا التصور القومي الذي يرتبط بسياق سياسي وإيديولوجي سابق وبعوامل موضوعية وبإغراءات الشرق، ولم يكلفوا نفسهم كثيرا عناء تفحص حقيقة انتمائهم واختلافهم المغربي، مع استثناءات قليلة أهمها إنتاجات وأعمال بعض اللسانيين والمؤرخين والمثقفين والمبدعين والفاعلين الأمازيع. نذكر منهم محمد شفيق وعلي صدقي أزايكو وابراهيم أخياط وحسن إدبلقاسم وأحمد بوكوس وبوجمعة الهباز والقاضي قدور ومحمد الشامي والصافي مومن علي وأحمد دغرني ومحمد أجعحاع وبلعيد بودريس...، وفي مرحلة لاحقة أحمد عصيد ومحمد أكوناض ومحمد بودهان وعلي حرش الراس ومريم الدمناتي وأحمد أرحموش...وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم جميعا ونعتذر عن ذلك، وانضاف جيل لاحق من الشباب الباحثين والمبدعين في عدة مجالات فكرية ومعرفية وأدبية وفنية، والعاملين في مجال الترافع الحقوقي والفعل المدني والتنموي. وبصدد الحديث عن السياق السابق الذي عرف نزوعا قوميا قويا واستفراديا، ينبغي أيضا استحضار المقاربة الفكرية الاختلافية لعبد الكبير الخطيبي التي كانت عميقة ومتميزة في سياق النقاش الفكري لسنوات السبعينات والثمانينات من خلال انتباهه المبكر إلى واقع التعدد اللغوي والتنوع الثقافي والاختلاف المغربي. انطلاقا من تراكمات ونتائج هذا السياق واختيارات الماضي، يتضح أن وضع المثقف الأمازيغي وضع صعب بشكل مضاعف، ودوره مضاعف أيضا، لأنه يتحمل كل صعاب وتبعات الانخراط الثقافي في قضايا المجتمع ومسار تطوره الفكري والحقوقي، إضافة إلى عمله ودفاعه عن مشروعية الأمازيغية وإنصافها لغة وثقافة وهوية، وتحليل ونقد البنية الثقافية والفكرية الأحادية وإيديولوجيتها. فقد أسس المثقف الأمازيغي مشروعيته وصفته وخطابه على تقديم بديل للمثقف القومي ومشروعه الفاشل في استيعاب وفهم حقيقة المجتمع المغربي ووضعه الثقافي المتنوع وعمقه الإنسي، والمساهمة في مسار البناء الديمقراطي وتطور المجتمع والحياة الحقوقية والثقافية والسياسية، وباعتباره حامل لقضية حقيقية ذات مشروعية حقوقية وثقافية بارزة، وذلك بشكل يستجيب للحاجة للتحول والمصالحة مع الذات وتصحيح إخفافات الماضي، والانتصار لقيم وخيارات التعدد الللغوي والتنوع الثقافي وتقوية مقومات الهوية الوطنية المنفتحة وفي صلبها الأمازيغية، وتحرير الإمكان البشري والممكن التنموي الوطني. يتميز المثقف الأمازيغي أيضا، بتمكنه الواضح من إخراج نقاش الأمازيغية من الإطار العرقي ومن حدود التناول اللسني والثقافي البسيط، واعتماد المعارف الحديثة قي حقول الانثربولوجية واللسانيات والتاريخ والسوسيولوجيا...في التعاطي مع الإشكالات والمواضيع التي تتصل بالوضع اللغوي والثقافي والهوياتي، وربطها بمسار التطور الحضاري للمغرب ككل، في ارتباط ببقية القضايا الاستراتيجية ومشروع البناء الديمقراطي وتحقيق كرامة المواطن المغربي. انطلاقا من هذه التوضيحات تتأكد الحاجة الملحة إلى المثقف الأمازيغي وأدواره في المستقبل من خلال: الاضطلاع بمهامه النقدية والتنويرية ضد أسباب ومظاهر التخلف وقوى الاستبداد والنكوص التي تتهدد هويتنا المنفتحة ووجودنا الحضاري والثقافي المختلف وعيشنا المشترك، والإنصات لنبض المجتمع وآلامه، ونقد الاختيارات والسياسات والإجراءات غير المنصفة، والاستمرار في إنتاج المعرفة وتجديد المفاهيم، وتطوير النقاش العمومي والمساهمة في إغناء وتطوير الثقافة المغربية المتنوعة وتحديثها. ثم الاستمرار في الدفاع عن أطروحته والإقناع بها، وإرساء نتائجها على المستوي المؤسساتي والتدبير الديمقراطي والمنصف للتعدد اللغوي والتنوع الثقافي وفكر الاختلاف والعدالة المجالية...وإنتاج الخطاب والمعرفة والإبداع الضروريين لذلك وللنهوض بالأمازيغية.