ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الجيش المغربي يستفيد من التجارب الدولية في تكوين الجيل العسكري الجديد    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ورقة تمهيدية للمناقشة الجماعية .. الاتحاد الاشتراكي، الملكية، الاسلاميون، الحكومة.. واليسار (2

حصلت «الاتحاد الاشتراكي» على الوثيقة التي حررها المناضل محمد حبيب الطالب، عضو المكتب السياسي السابق لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، ويتحدث فيها عن التنمية وهشاشة المجتمع السياسي والتحالفات والآفاق الممكنة والمشروع المجتمعي. ونحن إذ ننشرها، فذلك تعميما للفائدة..
3 - التحالفات الأخرى:
أما على مستوى التحالفات، فإن التشويش والاضطراب قد بلغا ذروتهما في الفترة الأخيرة، ولذلك يهمنا أن نؤكد على الموقفين التاليين:
أولا: ما من تغير نوعي يدعونا إلى إعادة النظر في الكتلة الديمقراطية. فحزب الاستقلال لازال هو حزب الاستقلال في رؤيته ومنهجيته ومبادئه وسلوكاته. والتغيرات النسبية التي حدثت في قواعده الاجتماعية وأطره وقياداته هي في حكم ما يجري في مختلف الأحزاب الديمقراطية الأخرى. أما الظواهر الشخصية الغارقة في النفعية، فهي ظواهر قديمة لا يمكن بعد القياس عليها لوحدها.
ثم، إن برنامج الكتلة الديمقراطية الذي سطرته في مجموعة من الوثائق مازال قائما، ولم يستنفد بعد كل أغراضه، لا في المجال السياسي والدستوري ولا في المجالات الأخرى.
والمشكلة الحقيقية في نظرنا، أن أيا من أحزاب الكتلة مارس تجاه حليفيه الآخرين سياسة كتلوية فعلية ونشطة ومبادرة. بل كان الحذر والتنافسات الضيقة العقلية السائدة داخل الكتلة ولاسيما بين الطرفين الرئيسيين فيها: حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. ولذلك، غابت الكتلة عمليا، وانعدمت مبادراتها السياسية والجماهيرية، وانطفأ حتى ذاك البصيص المعنوي الذي كانت تثيره لدى مكوناتها. فكيف يجوز لنا إذن أن نحكم على خيار لم يمارس في الواقع، بل تمَّ وأده في حينه. بينما تُبين التجربة، أنه عندما كانت الإرادة السياسية الكتلوية متوفرة عند أولئك القادة التاريخيين وعند الجميع، أنجزت الكتلة وقدمت الشيء الكثير. فمن كان يصدق، بعد الصراعات القديمة، أن حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي سيتوصلان إلى تقديم لائحة مشتركة وموحَّدة في الانتخابات التشريعية لسنة..... !! إن عقلية الوحدة والتحالفات الاستراتيجية تبدو في المشهد السياسي العام لدى اليسار والقوى الديمقراطية، وكأنها عقلية مناقضة في الصميم لشخصيتهم السياسية التجزيئية بالأحرى. وفي هذا الأمر أكثر من دلالة على تدني «النخبة السياسية» في بلدنا.
إن عملا وحدويا أو تحالفيا من هذا القبيل يتطلب الوعي الصاحي بشروط المرحلة، والإرادة الوحدوية القوية، والأفق السياسي الواضح، والنفس الطويل والمثابر، والاستعداد للتنازلات المتبادلة، وبالجملة، فإنه يحتاج إلى التربية الايديولوجية المناسبة.
ولكي تكون الكتلة في مستوى تحديات الانتقال الديمقراطي، بخصوصياته التاريخية التي ألمحنا إليها، عليها أن تعي، أن أشكال العمل الفوقية والوقتية التي تعودت عليها دون غيرها، لم تعد كافية ولا مقنعة في المراحل القادمة. فما لم تكن قواعد الكتلة مقتنعة بجدواها ومشاركة بفعالية في توجهاتها وأنشطتها، وما لم يكن الهم الجماهيري حاضرا على الدوام في كل موقف تتخذه، وفي أشكال العمل التي تنتقيها، فستظل الكتلة معرضة للحسابات الضيقة، وعلى هامش التطلعات الشعبية، وقاصرة على أن تكون التعبير المجتمعي المطلوب.
لكن، ألا نتوقع لأحزاب الكتلة تموقعات سياسية قد تكون متعارضة في المرحلة القادمة؟ قد يحصل ذلك. بل ومن أجل درء هكذا احتمال، والذي سيكون لا محالة إضعافا إضافيا للقوى الديمقراطية، ينبغي التعجيل باستئناف عمل الكتلة والقيام بالمراجعات النقدية الضرورية، واستخراج الخلاصات المشتركة منها، وتقريب التصورات السياسية للمرحلة القادمة. فلا شيء حتمي تفرضه الضرورة الموضوعية الخالصة وحدها، وإنما للإرادة أيضا مكانتها وفاعليتها.
ثانيا: من أهم القضايا التي مازالت تثير الكثير من الجدل لدينا وفي الساحة الوطنية والعربية عامة، الموقف الذي ينبغي للاشتراكيين أن يتخذوه من الحركات المنسوبة إلى الإسلام السياسي. ولأننا سنخصص ورقة لموضوع الإصلاح الديني، فإننا سنؤجل التشخيص الدقيق لحمولاتها الإيدلوجية المختلفة إلى ذاك الموقع. وما سنطرحه الآن ليس أكثر من منطلقات أولية يتم نسيانها في الغالب في خضم التنافس الساخن الجاري. وهذه المنطلقات الأولية هي:
أولا: لنبدأ بالتذكير التالي، إن الحركة الاسلامية ليست بالحركة الواحدة المتجانسة، لأنها مختلفة المذاهب الطائفية والمشارب الفكرية ومتناقضة التموقعات السياسية ومناهج العمل وأساليبه، عدا تطبع كل منها بخصوصيات تجاربها الوطنية ودرجات التطور الديمقراطي بها. وتشمل هذه التعددية البلد الواحد أيضا.
ولذلك، لا يجوز التعميم وإطلاق نفس الحكم الواحد عليها جميعا. والأمر لا يختلف في بلدنا عن هذه القاعدة. إذ لدينا حركة عقيدية هي أقرب إلى «الزاوية» منها إلى حزب سياسي، ومازالت تتموقع سياسيا خارج السيرورة الديمقراطية. ولدينا حركة سياسية براغماتية مندرجة في العملية الديمقراطية وتشكل الايديولوجيا لديها رديفا مكملا وتابعا لأولوية العمل السياسي. وهي تنهل بوجه عام من أدبيات ما يسمى «بالإسلام الوسطي». ولدينا تنظيمات ناشئة أكثر انفتاحاً وتحرراً ايدلوجيا وسياسيا، وإن كان موقف السلطة منها مازال متعثراً ومتردداً وغامضا. ولدينا أخيراً، «المجموعات الجهادية» المستنسخة لفكر القاعدة وأساليبها. وأما هذا الوضع المتعدد الألوان، فإن تعاطينا مع هذا الفريق أو ذاك يختلف قوميا ووطنيا بحسب إقتراب كل منها من رؤيتنا السياسية وانفتاح كل منها ايديولوجيا على التقدم الفكري. إن شعار «ليس في القنافد أملس» شعار مضلل واستعدائي وكارثي على مستوى الممارسة العملية.
ثانيا: ينبغي ألا يغيب عنا، من جهة، أن حركات الإسلام السياسي قابلة، للتطور في جميع الاتجاهات، كأي حركة اجتماعية سياسية أخرى، تبعا لمستوى تطور التناقضات الاجتماعية والثقافية والسياسية في البلد المعني. إن الحكم عليها الإجمالي بالجمود المطلق في نفس مواقعها، حكم غير متبصر وغير واقعي. قد تكون وتيرة التطور بطيئة، بحكم طبيعة المعتقد الحاملة له، وبحكم التحصن الدفاعي الذي تمر منه تجاه اكتساح الحداثة آخر معاقلها الدفاعية «الأسرة على سبيل المثال» وما تعتبره ثوابت أخلاقية بوجه عام، وبحكم حالة الإذلال القهري الامبريالي-الاستعماري الذي مازالت تعاني منه الأمة العربية والشعوب الإسلامية دون غيرها... إلا أن كل ذلك لا يستثني الحركات الاسلامية من سنة الحياة، وقانونها العام في التطور تبعا لتطور المجتمع ككل.
ومن جهة ثانية، وكيفما كان الدور الذي لعبته السلطات الحاكمة في تشجيع الحركات الاسلامية لكبح المد اليساري الماركسي والقومي، فهي مع ذلك حركات اجتماعية شعبية لها جذورها في التربة الوطنية.
إن الإشارة لهذا الجانب، على غير النظرة «المؤامراتية السطحية» قد يفيدنا أيضا في رؤية الوجه الآخر الخلفي لهذه الظاهرة. فإذا كان من مصادر قوتها الشعبية، أنها استثمرت الموروث الثقافي الديني في تموقعها الاحتجاجي المعارض بوجه عام للأنظمة القائمة، ولو بالصيغة الايدلوجية المحافظة، فإن من مصادر ضعف القوى الحداثية، أنها أهملت هذا الموروث الثقافي كلية، أو أنها تحاشت الخوض فيه ولا تملك عنه سوى أجوبة شكلية فارغة المضمون، ولذلك فلم تستطع أن تبيئ وتوطن و«تعرب» حداثتها، كما عجزت من قبل على تبييئ وتوطين وتعريب ماركسيتها أو اشتراكيتها.
ثالثا: إن مطلب فصل الدين عن السياسة هكذا بإطلاق، مطلب غير واقعي وغير تاريخي بالمرة. عدا أنه تحريف لمفهوم العَلمانية بحد ذاته والذي لا يطالب أكثر من فصل الدين عن الدولة و فصل الدولة عن الدين. ليس الدين مجرد علاقة فردية مع الله، تُختزل في تمارين دائمة لشعائر ثابتة، يقوم به الفرد لضمان خلاص في الآخرة. بل هو في الواقع التاريخي أكثر من ذلك، إنه - أيضا - رابطة روحية وثقافية وأخلاقية واجتماعية لمساعي فردية ومجتمعية دنيوية. ويشتد لحامه (أي الدين) والحاجة إليه، كلما كانت الروابط الاجتماعية الأخرى ضعيفة أو تمر من حالة أزمة. فهو الملجأ الواقي، والتعويض اللاحم لضعف تاريخي أو مرحلي للروابط المجتمعية الأخرى. فالارتباط إذن بين الدين وشؤون الدنيا حميمي ومتغير. ومن ثمة، فالعلمانية في هذه الحال ليست مجرد إجراء قانوني دستوري، وإنما هي حصيلة لحرث ثقافي تصير معه الثقافة الدينية السائدة قابلة للتطور ومطابقة لحاجيات العصر، وتكون العلاقات المجتمعية الأخرى مواكبة وعلى قدر مناسب وداعم لهذا التقدم.
غاية القول، ليس «المرجعية الإسلامية» التي تتشبث بها الحركات الاسلامية هي موطن الخلاف، فكل الأحزاب الديمقراطية تمتح بهذا القدر أو ذاك من نفس المرجعية، وإنما الخلاف في التأويلات السياسية والفكرية المستخلصة منها والموضوعة كخيارات نهائية للمجتمع.
لقد أعطت الحركات الاسلامية الأولية المطلقة للحركية السياسية على حساب التجديد الفكري والايديولوجي. فكان انخراط بعضها أو جلها في العملية الديمقراطية مشوها ومبتوراً ومتناقض النتائج، تقدم نسبي سياسي من جهة ومحافظة اجتماعية وتلفيقية فكرية من جهة ثانية، والأنكى من ذلك، روح المداهنة الشعبوية لأشد مظاهر الموروث رجعية وتخلفا في سبيل كسب سياسوي عاجل. ولعل في هذا الانشغال السياسوي الشعبوي ما يفسر كيف بقيت الحركات الاسلامية تحت القبضة الثقافية لمفكرين إسلاميين تقليدانيين، وبعيدة كل البعد عن تأثيرات اجتهادات المفكرين الإسلاميين الحداثيين وهم بالأولى والأحرى.
رابعا: لكل تلك المقدمات السابقة، فإن موقفنا الذي يسعى إلى أن يستوعب كل الشروط الموضوعية والذاتية، التاريخية والمرحلية، والذي يحاول أن يُكوِّن صورة متكاملة عن حركات «الاسلام السياسي» في أوضاعها المختلفة ودينامياته المتناقضة..
إن موقفنا هذا لن يكون بالتالي حكما عليها بالجملة، ولا حكما نمطيا ذا اتجاه واحد، بل سيتعاطى مع كل حالة خصوصية بالقدر الذي تقترب فيه من قناعاتنا الحداثية ومن خياراتنا السياسية، سواء بالنقد لما يخالف هذه القناعات والاختيارات، أو بالتعاون والمساندة لما يتفق معها. أو بالإدانة الكلية لمن يكون على نقيض الخيار الديمقراطي جذريا.
إن هذا السلوك لا يلغي في النهاية واجبنا الديمقراطي في الدفاع عن حقوق أي منها إذا ما تعرض لجور أو تظلم أو عسف لا يجيزه القانون ومبادئ حقوق الإنسان كيفما اختلفنا سياسيا أو فكريا.
وفوق هذا وذاك، أو مع هذا وذاك، فإننا نضع من هواجسنا واهتماماتنا، أن نجاح الحداثة الفكرية أو الايدلوجية الاشتراكية، لا يستقيم إلا مع وصلهما الاستيعابي والنقدي مع تراثنا الثقافي الديني، وإلا ظلت الحداثة والاشتراكية على حالهما دعوة برانية ونخبوية معزولة وعاجزة على الفعل والقيادة والسيادة.
4 - الايديولوجيا..
بعد انهيار ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، لم يعد لمفهوم الايديولوجيا في التداول الفكري إلا طابعا سلبيا محضا، وبما يدل على كل أشكال الوعي الزائفة والمناقضة للعلم.
نحن لا نتقيد بهذا الاختيار السائد لاحتراسات عديدة، منها، أن الهجوم المركز على «الايديولوجيا» موجه بالدرجة الأولى لخصي الفكر من غاياته الإنسانية المثلى. وهو بالتالي يضرب في الصميم الايديولوجيا الاشتراكية، كفكر وكفلسفة وتصورات اقتصادية واجتماعية وغايات تحررية إنسانية جذرية. مشجعا في مقابل ذلك نزعة وضعانية برغماتية، وعقلانية أداتية، بلا بعد تاريخي ولا أفق إنساني تحرري شامل وجذري، ويقصد أن يظل الانسان في النهاية عبداً ذليلا لمنتوجاته واختراعاته وللنظام الرأسمالي العالمي. وبديهي أننا لا نعمم هذا الاستنتاج على كل الكتابات النقدية في هذا الشأن. فالمفهوم الاشتراكي للايديولوجيا لا يسقط كل جوانب الزيف فيها، وإنما يشدد على مضامينها الاجتماعية وعلى مدى مطابقتها الفعلية لشرط التقدم وللتحرر الانساني الشامل. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هو التالي: إذا كان في المجتمعات المتقدمة ما يبرر، أو ما يفسر بالأصح، تراجع الايديولوجيا لديها، فهل مجتمعاتنا العربية - الاسلامية في نفس الوضع التاريخي، العلمي والثقافي، والإنتاجي.. بينما هي مجتمعات مستهلكة في كل تلك المجالات، وذات تراث ثقافي ماضوي مثقل على حاضرها، وتواجه اليوم مهاماً متداخلة ومكثفة نهضوية وحداثية ومعاصرة(؟) إن جوابنا سيكون بالقطع في أن مجتمعاتنا مازالت مجتمعات ايديولوجية... وهي في حاجة إلى ايديولوجية مطابقة لمتطلباتها التاريخية. ودليلنا على ذلك، حتى ولو كان إثباتنا من نوع الإثبات بالسلب، أن التنظيمات السياسية التي لها تماسك داخلي قوي، وحضور جماهيري يمتد إلى القعر، هي التنظيمات ذات التماسك لايديولوجي، وإن كانت ايديولوجية تقليدانية. بينما ضعفت تلك التي تبنت الحداثة في ظل تفكك وانحلال ايديولوجيتها الاشتراكية، وهي الايديولوجيا الوحيدة المتماسكة والقادرة على مجابهة التقليد بأفق فكري تاريخي واجتماعي مفتوح على النهضة والتقدم.
إشكاليتنا نحن الاشتراكيين المغاربة، أن الايديولوجيا الاشتراكية لدينا لم ترسخ أقدامها بعد برصيد نظري غني ومتين. فما أن بدأت تخطو خطواتها الأولى في المتسع الشعبي، وما أن بدأت تتعمم في أوساط المثقفين، وبالشكل الفقير والبراني الذي عممت به، حتى تسارع الزمن «لغير مصلحتها» مباغتا أياها بانقلابات عالمية في مجال السياسة والفكر والعلم، طرحت عليها أسئلة جديدة لم تألفها من قبل، وهي مازالت تحبو وتتلمس الطريق إلى واقعها الخاص.
ولذلك، لا نجد على امتداد التجربة المغربية إنتاجات نظرية معمقة في الايديولوجيا الاشتراكية، غير ما كان عاماً وشائعا عنها. إضافة لتحاشي الفكر السياسي المغربي التقدمي الخوض في الأسس الفلسفية للاشتراكية مكتفيا منها بالمنهج الاقتصادي مراساً وحيداً له. ولا نجد بالأحرى متابعة لها بعد الزلازل التي عرفها العالم، وفي ضوء التطورات الكيفية الحاصلة في ميادين المعرفة المختلفة. كل شيء يجري في الميدان الفكري والثقافي لدينا، وكأن الاشتراكية لم يعد لها وجود نظري، ولم تعد أفقاً تاريخيا للإنسانية جمعاء، سوى التصريح بها إسما والانتماء إليها رمزاً. ما نود استخلاصه في النهاية، أننا بحاجة إلى إرجاع الاعتبار للايديولوجيا في حياتنا الحزبية، وإلى إغناء وتجديد تفكيرنا الاشتراكي، والانكباب على عملية تثقيف واسعة ودائمة لأطرنا وقواعدنا الحزبية. وهذا لن يتأتى على أحسن وجه إلا من خلال القيام بمراجعة جماعية فكرية للتراث الاشتراكي بكل تفرعاته، قديمه وجديده. ومن خلال إعادة ربط الصلة العضوية بين الحداثة وبين المشروع الاشتراكي، وكذلك بإيجاد صلات الوصل بين الايديولوجيا الاشتراكية وثراتنا الحضاري التقدمي.
إن هذا المجهود النظري-التثقيفي الذي نطمح له لا يمكن أن يجد البيئة المناسبة لإنجازه سوى إذا استطعنا أن نشرك المثقفين، ونسترجع معهم أدوارهم وحضورهم الفاعل في الحياة السياسية عامة، وفي المشروع المجتمعي الاشتراكي بوجه خاص.
5 - البرنامج المجتمعي النهضوي:
تعتبر هذه القضية من أهم المراجعات التي نصبو إليها. ذلك أن من أسباب التراجع في التعاطف الشعبي مع حكومات الانتقال الديمقراطي، غياب مثل هذا البرنامج لدى الأحزاب الديمقراطية والاشتراكية، وبالتالي، انسحابها الشبه كلي من الميدان المجتمعي، و استغراقها في انتظارية ذيلية للعمل الحكومي.
إن المشاركة في حكومة التوافق، وفي ما بعدها، وفي تلك الشروط المؤسساتية والدستورية، وتحالفاتها الحزبية العريضة، وبالتجاوزات التي صاحبتها، وفي أجواء شعبية غير مبالية وقلقة... كل ذلك كان يستوجب على القوى الديمقراطية، وعلى الاتحاد الاشتراكي أساساً، أن يحافظ على استقلاليته النسبية تجاه جماهيره وقواعده، بل كان هذا الارتباط فريضة مطلقة فوق أي تضامن حكومي وفي كافة الظروف والأحوال. والواقع نفسه يبين، أن بين التضامن الحكومي وبين العمل الجماهيري مسافة، غير متناقضة، وشاسعة، لا يمكن للعمل الحكومي كيفما كان نمطه، أن يحتاجها لوحده. وأن أشكال العمل الجماهيري وأساليبه متنوعة بحسب كل ظرف سياسي.
لكن الحقيقة أننا كنا أمام جمود تنظيمي حزبي شبه مطلق، مبعثه هو الآخر، أن القوى الاشتراكية دخلت المشاركة الحكومية بلا تحليل معمق لاستراتيجية الانتقال الديمقراطي، ودون تثقيف مسبق لقواعدها وأطرها بما كان ينتظرها من احتمالات وتحديات وما كان الظرف يستدعي منها من استعدادات تكتيكية ومؤهلات جماهيرية حماية للتجربة ودعما لها وتقليلا للخسائر الواردة. إن غياب البرنامج المجتمعي، تحليلا وممارسة، كان من أبرز علائم هذا الجمود. بل قل، كان قصوراً واضحا في الوعي الاستراتيجي وفي الممارسة النضالية.
ولهذا، يصعب علينا أن نستسيغ تعليق كل المعضلة السياسية في ما آلت إليه الأوضاع الجماهيرية والحزبية، إما على المشاركة الحكومية، وإما على طبيعة الدستور الجاري به العمل. بل لا نرى في هذا السلوك الاختزالي سوى شكل من أشكال «الهروب إلى الأمام» للتغطية على مواطن العجز الذاتي العميقة.
نعم...، لقد كانت هناك دائما برامج قطاعية أو مناطقية، لكن هذه البرامج على تجزيئيتها وتشتتها وتضارب أولوياتها، وتموضعها على هامش الخط السياسي المرحلي، وفي بيئة تنظيمية سائبة، وفي غياب المتابعة والتثقيف الجماعي بها، لم ترق في الممارسة العملية، قط، إلى مركز الاهتمام اليومي للقيادة أو للقاعدة. ولم تصل قط إلى مستوى المحاسبة والمتابعة الحثيثة والمبدعة. إنها بكل بساطة أوراق موضوعة على الرف.
إن البرنامج المجتمعي الذي نعنيه هو العصب الحي لعمل كل الهيئات القيادية والقاعدية. وهو نهج تعبوي، تنظيمي وسياسي وايديولوجي، متماسك ومتكامل الأهداف. ينطلق من التحليل الموضوعي للتحولات الاجتماعية في كل مرحلة، ومن مطالب وأهداف وأساليب عمل مع كل فئة أو مكون من المكونات المجتمعية. ويجيب على الأسئلة المستقطبة التي طرحتها الممارسة المجتمعية على الحزب في كل مرحلة ولدى كل فئة.
ولأن التراجع في الحياة السياسية العامة هو طابع المرحلة، فإن الهدف المركزي الذي وضعناه للبرنامج المجتمعي المرحلي، نتوخى منه استنهاض القوى الشعبية وإعادة ارتباط القوى الاشتراكية بها. وهذا ما جعلنا نسميه ب«البرنامج المجتمعي النهضوي». وسنعطي الأولوية لهذا الموضوع الحاسم بتفاصيله في ورقة خاصة قادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.