طنجة.. توقيف المتورط الرئيسي في سرقة قبعة "كوتشي" بحي بئر الشعيري    "كان فوتسال السيدات" يفرح السايح    عادل الفقير    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    حكومة أخنوش تُطلق أكبر مراجعة للأجور والحماية الاجتماعية    الملك يهنئ أعضاء المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة للسيدات بمناسبة فوزه بكأس إفريقيا للأمم 2025    نواب بريطانيون عن الصحراء المغربية: مخطط الحكم الذاتي محفّز حقيقي للتنمية والاستقرار في المنطقة بأكملها    سيدات القاعة يفلتن من فخ تنزانيا في ليلة التتويج بلقب كأس إفريقيا    افتتاح فندق فاخر يعزز العرض السياحي بمدينة طنجة    ترامب يستقبل رئيس الوزراء الكندي    انطلاقة أشغال المركز الفيدرالي لتكوين لاعبي كرة القدم بالقصر الكبير    منتخب المغرب لأقل من 20 سنة يدخل غمار كاس افريقيا للأمم غدا بمصر    بهدف قاتل.. منتخب السيدات للفوتسال يتوج بلقب الكان في أول نسخة    زخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    جهة طنجة-تطوان-الحسيمة تتصدر تعيينات الأطباء المتخصصين لسنة 2025 ب97 منصباً جديداً    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    عبد النباوي: العقوبات البديلة علامة فارقة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب    الاستيلاء على سيارة شرطي وسرقة سلاحه الوظيفي على يد مخمورين يستنفر الأجهزة الأمنية    خبير صيني يحذر: مساعي الولايات المتحدة لإعادة الصناعات التحويلية إلى أراضيها قد تُفضي إلى نتائج عكسية    تجار السمك بالجملة بميناء الحسيمة ينددون بالتهميش ويطالبون بالتحقيق في تدبير عقارات الميناء    سلطات سوريا تلتزم بحماية الدروز    مأسسة الحوار وزيادة الأجور .. مطالب تجمع النقابات عشية "عيد الشغل"    القصر الكبير.. شرطي متقاعد يضع حداً لحياته داخل منزله    موتسيبي: اختيار لقجع قناعة راسخة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إدريس لشكر …لا ندين بالولاء إلا للمغرب    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    دراسة.. الأوروبيون مستعدون للتخلي عن المنتجات الأميركية    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    العراق ولا شيء آخر على الإطلاق    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص قصصي.. أن يتربص عند الزاوية 180
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 11 - 2009

للرجل وجه ليلي تستره ظلمة الليالي الندية الرطبة الحارة القارسة.
يحل صاحب الوجه بعد غروب شمس كل يوم، يجر وراءه كلبا يتحرك بطيئا كأنه مجبر على السير، يتمركز في مرصده، يتربص عند نقطة تقاطع درب طويل ضيق وزقاق غير سالك ؛ يتدثر بمعطف طويل يكاد يلامس قدميه، يتأبط هراوة - ويا ليته تأبط في صغره محفظة - يضيق عينيه، يلتقط صور مرئيات تتجمع في البؤبؤ، ما من طيف يمر في مجال بصره يفلت من ضبط هويته - بشرا كان أو حيوانا.
يخطو خطوات بطيئة، يتفقد المنطقة ويبدأ عمله: يتربص بساكنة الدرب وضيوفهم، يتسقط ثرثرتهم وما يصدر عن ألسنتهم الطويلة بخصوص الوضع السياسي والاجتماعي، انتهاك الحقوق، استغلال النفوذ، الشطط في استعمال السلطة، الصيد في أعالي البحار، أراضي الأحباس، مقالع الرمال والرخام، ومواضيع يحشرون أنوفهم فيها بينما الأجدر بهم تشجيع الفريق الوطني وارتياد ساحات المهرجانات الفنية وتجريب حظوظهم مع اليانصيب ورهان سباق الخيول والكلاب.
بعد السير جيئة وذهابا، يستقر عند نقطة تقاطع الدرب والزقاق ? عند الزاوية 180 درجة - وتبدأ العينان تمسحان المنطقة.
* * * * *
بدا الليلة على غير عادته مهموما مرهقا وشعر بدبيب يسري في مجموع أوصاله. انفتح فمه، حين داهمته نوبة تثاؤب - فغطاه براحة يده كي لا يدخله الشيطان. أخرج من جيب معطفه صرة صغيرة من البلاستيك الشفاف، ونشر سطرا من السعوط على امتداد أصبع الإبهام. بدأ يتنشقه تارة من التجويف الأيمن من منخره وتارة من التجويف الأيسر - مطبقا مبدأ التناوب -. وساعة وصل السعوط إلى منحه توالى العطس فانتفض وانهزم النوم الذي يثقل جفنيه.
كيف اهتدى إلى هذه الحيلة لمغالبة النعاس وتمديد يقظته؟
(كان سكان الدرب يجودون عليه بما يتيسر لهم عند بداية كل شهر، فقد وجدوا من يسهر على راحتهم وهم نيام، يقيهم شرور السطو على أشيائهم المنشورة فوق السطوح. وكانت الإكراميات تكفيه طيلة أيام الشهر لاقتناء، كل يوم، قنينة خمر رخيص أو ربع لتر ماء الحياة، يخففه بالماء، فتنعشه الجرعات المتتالية ويظل مستفيقا طيلة الليل.
لكن دوام الحال من المحال: لقد تبين لساكنة الدرب أن الرجل يتربص بهم، يتسقط أحوالهم بل هناك من أسرَّ إليهم جازما بتورطه في الوشاية ببعض الشبان حد محاكمتهم ? فبادروا إلى مقاطعته، ووصل الأمر بأحدهم أن سماه (سحت الليل) ناصحا إياه اللجوء إلى من عيَّنه حارسا ليليا كي يؤدي له أتعاب مهمته القذرة !
تزامن هذا المستجد مع شكوك بدأت تساوره. تُرى هل استنفد المدة الافتراضية لمهنته؟ وإلا ما معنى عدم انتظام حضور كفيله (الزواق) صبيحة كل يوم للتزود بأحوال الدرب وساكنته؟ بادر إلى الاتصال به طارحا عليه وضعيته الجديدة، محاولا إقناعه بإخلاصه في العمل وبجهوده لتطوير أسلوبه حيث لم يعد يتربص بالساكنة والاعتماد على البصر فحسب، بل اجتهد ودرب سمعه حتى صار بمقدوره التقاط حديث مهموس على بعد كذا سنتمتر... وحديث مسموع على بعد كذا متر.
لم يعلق (الزَّواق) على المعلومة واحتفظ بها لأهميتها - ربما تنفعه فهو يطمح في الترقي إلى منصب المشيخة - لكنه ارتأى أن يستعرض معلوماته مقابل جهل محدثه وأوضح له أن ما يقوم به يصطلح عليه ب: «السمعي البصري».
ردَّدَ (سَحْت الليل) عبارة «السمعي البصري» بتسكين حرف الصاد ثم تساءل: «البصري أسمع به، فمن هو السمعي؟»
عند هذا الحد بادر (الزَّواق) إلى الانصراف قائلا: «لقد تغيرت الأحوال !». لم يستوعب (سحت الليل) مضمون العبارة كما لم يستوعب ما يتناقله الناس وما تذيعه وسائل الإعلام من قبيل: العهد الجديد، الديمقراطية، حقوق الإنسان، المجتمع المدني، المجالس الاستشارية... وهلم جرا.
هو السند ينقطع. لكن في انتظار القادم من أيام، لم يعدم حيلة لمواصلة عمله الليلي وعوَّض المشروب الروحي بالسعوط فهو أقل تكلفة وذو فعالية لمغالبة النعاس).
* * * * *
عاوده الارتخاء وثقل الجفنين وانضاف إحساس دغدغ مشاعره فخفق قلبه: لماذا يتذكر صاحبته الليلة؟ أهو بشير فأل حسن ينبىء باقتراب التقائهما مجددا بعد فراق غير معلن ومن جانب واحد؟ هل أخطأ وتركها فريسة هواجس؟ لم يكن لائقا التصرف بطريقة تجعلها هزأة بين أناس الدوار الذين لا هَمَّ لهم سوى القيل والقال، بل كان المفروض أن ينفصل عنها بحسب ما تقتضيه الأعراف بدل هجرها بشكل لا يمكن وصفه، ساعة انفضاح أمره، سوى بالنذالة. ربما لن تتشبث به فلها قدرة عجيبة على اصطياد من تهواه نفسها وقد سبق لها أن مرت بتجربة زيجتين انتهتا برحيل الزوجين إلى دار البقاء، ولم تنجب منهما.
لا شيء يربطه بها سوى الفاتحة قرأها دزينة رجال من الدوار، وأيضا ما تفرضه طبيعة ما هو ثنائي: المذكر والمؤنث ؛ الفاعل والمفعول ؛ التابع والمتبوع ؛ الجار والمجرور ؛ آه المجرور ! كثيرا ما تؤرقه تعليقات ساخرة بخصوص تبعيته للمرأة حدَّ ستميته (رجل ميرة) فاندثر لقبه. ولإغاظتهم كان يرد عليهم: هي لا لاَّكم. ويتمادى في استفزازهم بمناداتها: لالَّة ميرة.
حقا، هي امرأة ذات خاصيات كما للبشر: صارمة وحاسمة في اتخاذ القرارات ؛ طَيِّعة متى أحست بالافتقار إلى ذلك الشيء ومتسلطة متى شبعت منه حدَّ التخمة ؛ دمَّاعة نوَّاحة في المآتم حتى ليكاد البعض يجزم باقتراب نضوب مصادر دموعها، لكنها تتميز بقدرة خارقة على التحكم في إيقاف دموعها في الوقت المناسب ؛ طاقتها تتجدد باستمرار وبصورة يصعب معها تحديد مصدرها، خاصة حين ينتابها هوس الرقص وتصير مملوكة لشيطانه. كلما طرقت أذنيها موسيقى شعبية، تطرح كل شيء جانبا وتنخرط في رقص هستيري لا يحررها منه سوى انكتام إيقاع البندير وجرَّة الكمنجة.
إلى متى يظل ملتصقا بها كالمجرو؟
فكَّر وقدَّر. وحين واتته الفرصة قرَّر: موسم الحرث على الأبواب وأرض لالاَّه بحاجة إلى البذور والسماد ؛ زودته بمبلغ مالي وعليه الذهاب إلى مركز التعاونية الفلاحية قصد ضبط الحاجيات وتصفية ديون سابقة، غير أن الرجل بات مقتنعا باستحالة استمرار صاحبته في استغلال أرض الجموع، فحق الاستغلال أصبح ضمنيا في خبر كان بعد رحيل زوجها الثاني إلى دار البقاء، فالأرامل لا حق لهن بالانتفاع من أراضي الجموع ? إن لم يكن لهن ولد ? وصاحبته يسري عليها مضمون ظهير صادر عن السلطات الرسمية منذ سنة 1919. وبالنسبة إليه، لا يمكنه الاستفادة فهو دخيل على الدوار لا ينتمي إلى الجماعة السلالية.
صبيحة اليوم المقرر لتنفيذ المهمة، امتطى بغلا وكانت وجهته صوب طريق أخرى... الطريق المؤدية إلى المدينة. لقد قرر أن يضع حدا فاصلا بين الجار والمجرور.
* * * * *
المدينة أخيرا، ولكل داخل دهشة ! هو الكرنفال عينه إذ يتجمع بساحة المدخل الشرقي للمدينة كل ما يحيل على تناقضات بمواصفات خاصة: يتعايش في الساحة جميع أصناف الدواب، مختلف وسائل النقل، حلقات الفرجة، عربات يعرض أصحابها وجبات سريعة يتهافت الوافدون عليها كما يتهافت أناس آخرون في أماكن أخرى على «ماكدونالدز» لا مجال للمساومة ولا للاختيار فالبطن لا ترحم.
ضوضاء البشر، زعيق الأبواق، النهيق والصهيل... أشياء تصم الآذان، فيضطر كل متحاورين اثنين إلى اعتماد إشارات التخاطب بدل لغة منطوقة. هناك طائفة من البشر لا شغل لها، هل هي طائفة النشالين؟ مهما تكن درجة الاحتياط الاستباقي مرفوعة إلى حدودها القصوى، فالنشالون لا يعدمون حيلة للإيقاع بالضحايا.
يسير الرجل ممتطيا بغله لا يدري إلى أين يتجه، بل لا يدري حتى مبتغاه وكاد يندم على فعله، غير أن إحساسا عنيفا ? لا قبل له بمقاومته ? بدأ يسيطر عليه وبعث الثقة بنفسه وشجعه على المضي في المغامرة مهما تكن تبعاتها: لقد تحرر من التبعية وانفصل عن لالاَّّه.. عن الجار ؛ استقل بذاته وما عاد إمَّعة.
بدا شبه نائم، غائصا في ذكرياته حدَّ أنه ترك العنان للبغل كي يسير حسب هواه أو كان يزجره كما كان أجداده القدامى يزجرون الطير في الأيام الخوالي.
فجأة، ينعطف البغل وسار يخترق أحد الشوارع الراقية، فيما الرجل غير عابئ بنظرات المارة فهم لم يألفوا مشهدا كهذا... مشهد بهيمة تحتك بسيارات الكات كات. وبلغت دهشتهم ذروتها بعدما توقف البغل: باعد قائمتيه الخلفيتين ثم بدأ يشرشر... ويبعر !
استفاق الرجل من شروده حين توقفت سيارة إحدى المصالح ووجد نفسه محاصرا من طرف أشخاص أنجزوا محضرا ثم حجزوا البغل واقتادوه إلى المحجز البلدي.
أهو الحظ بجانبه أم العناية الإلهية تحيطه برعايتها؟ وإلا بماذا يفسر وجود شخص ضمن من حاصروه، شخص يتحدر من قبيلته، خفف عنه وطأة ما أصابه؟ بعد عناق، شرح له ابن قبيلته ما يمكن عمله بخصوص البغل، إن هي إلا إجراءات بسيطة تتلخص في أداء ذعيرة لاسترداده، وعليه أن ينسى الموضوع الليلة على الأقل ? إذ سيحل ضيفا عليه.
* * * * *
سار الضيف رفقة مضيفه باتجاه ضاحية المدينة، وبدأ انبهاره بالشوارع الراقية يتلاشى وانمحت من ذاكرته أضواء النيون وواجهات المتاجر والعمارات، وصدمه واقع آخر تمثله الضاحية ببنايات عشوائية وبراكات وساكنة تفتقر إلى أبسط ظروف العيش. لم يجد أي فرق بين الضاحية وبين الدوار، وعاوده الحنين إلى لالاَّه، وبدا كمن انعقد لسانه. لكن مضيفه تمكن من حل عقدة لسانه وجره إلى الحديث عن ارتحاله: لماذا ومتى وكيف؟ حيث تبين له أن الرجل، رغم تردده، سائر حتى الوصول إلى نقطة اللاعودة.
وداخل برَّاكة المضيف كان كل ما لذَّ وطاب. وكلما انصرم جزء من الليل، تزداد الجلسة سخونة وتكاشف الرجلان ولعبت الكأس لعبتها حتى صار إحساسهما أشد رهافة، حدَّ أنهما تعانقا أكثر من مرة وهما يجهشان بالبكاء. وكانت قمة البوح لما تذكر الضيف العناية الإلهية ولقاء ابن قبيلته، وقال: حمدتك يا رب وشكرتك. لكن مضيفه أفصح له أن العناية الإلهية جنبته مأساة كان بالإمكان حدوثها لواحتك البغل بسيارة إحداهن مريضة نفسيا و(مقرقبة) فلن تتردد في دهسهما معا، هو والبغل. أما إذا كان المعتدى عليه رجلا فتلك قصة أخرى.
وتبدى المضيف لضيفه أكثر كرما عندما وعده بالبحث عن برَّاكة يشتري رقمها ليضمن بقعة أرضية ضمن بقع من المنتظر توزيعها في إطار مخطط لإعادة إسكان قاطني دور الصفيح. كما وعده بالتدخل لدى رئيسه ليسمح له بالعمل حارسا ليليا، فسعادته يتحدر بدوره من نفس منطقتهما. وحتى إشعار آخر، عليه أن يستقر بفندق مخصص لإيواء البشر والبهائم على حد سواء.
وقبل أن يخلدا إلى النوم، سلم الضيف إلى مضيفه ما بحوزته من مال واستأمنه عليه إلى حين شراء رقم براكة.
* * * * *
ما تزال صورة لالاَّه تنطبع على مخيلته بإلحاح. بالتأكيد لن ترضى بالإهانة فإحساسها شديد الرهافة إزاء وضعيات تنعكس على نفسيتها حد الانجراح، ولن تجد ما يخفف عنها وطأة الإهانة سوى الاستنجاد بقاموس السب والشتم تختار منه ما هو أفظع من الجرح، ترسله إليه عبر الهواء. وأكيد أيضا أنها ستحن إليه ساعة إحساسها بالجوع والرغبة في ذلك الشيء، وستشتاق إليه ليضبط لها الإيقاع بغاية تسخينات تمهيدية تُدخلها متاهة تلك الرغبة
وتشرع في الرقص بطريقة تصطلح عليها الشيخات: «مشطة وقدم» (تعتلي جفنة معدنية
مقلوبة ؛ تلف منديلا حول ردفيها ؛ تحرر تشعرها ؛ ترفع ذيل القفطان كاشفة عن ساقيها ؛ ترفع مؤخر قدمها اليمنى ؛ تضغط على أصابع القدم منحنية بجذعها إلى الأمام ؛ تنزل بكامل ثقلها وترتطم القدم بصفحة الجفنة ؛ تتكرر العملية بالقدم الأخرى ؛ تتوالى الحركات بإيقاع سريع موزون يضبطه صاحبها بجرة الكمنجة.
هل بلغت الحرارة ذروتها؟ تتباطأ حركة القدمين كما يتباطأ الارتطام بصفحة الجفنة ؛ تحس بجسدها على وشك الانهيار ؛ تنزل: تخطو خطوة أولى... ثانية ؛ ينفتح فمها وتسترخي شفتها السفلى منثنية باتجاه الذقن ؛ تتسارع دقات القلب ؛ ترتد بجذعها إلى الوراء ؛ تزفر ؛ يجف لسانها ؛ (أين غاب الريق؟) ؛ تضع كفها أسفل السرة وتخرج كلماتها متقطعة وتردد لازمة إحدى العيطات: ه...ذا مر...يض !
وكما لو أصابت العدوى صاحبها، يخفف ضغط أصابعه على وتر الكمنجة إلى أن ينكتم أنينها ؛ تنساب كلماته متقطعة بصيغة مواساة: ش...فاه الل...ه !
إذا الصداع يتربص بالرأس... والصاعقة تستهدف القمة دوما... فما بال القاع؟
أقلت القاع؟ منه يبتدئ الاهتياج والفوران... وينفث البركان غضبه !
وتضيف الجيولوجيا: وينبعث اللهب !
آه اللهب... لهب الجسد !)
* * * * *
بداية انبلاج أولى خيوط الصبح و(سحت الليل) متمدد يرنو إلى السماء: ما تزال نجوم تتوسط القبة تغمز من بعيد. وإذ شاهد نجما يسَّاقط، دبت في جسمه رعشة وانبعث من مخزون ذاكرته ما يتناقله اللسان الشعبي: (سقوط نجم ينبئ برحيل شخص ما إلى دار البقاء). تتوالى الصور في ذهنه بتواتر تختزل ظروف إقامته بالفندق: ما كان بمقدوره الخلود إلى النوم نهارا بعد ليالي التربص عند الزاوية 180 درجة. تعج الساحة بكافة أصناف البهائم والدواب. الحدادون يطرقون الحديد، يطوعونه لصنع حدوات الدواب. طنين يلازم رأسه حتى ليكاد ينفجر. مع مرور أيام تشبَّع مخه بالضوضاء وتآلف وإيقاع المطرقة والسندان. والبغل؟ ما يزال محتجزا واسترداده رهين بشراء رقم براكة. فمتى يوفي الزَّواق بوعده؟
بعينين مغمضتين، صار يحدق إلى النجوم المتراقصة فتبدت له هابطة تقترب منه، تجذبه إلى الأعلى، تصَّاعد به، ترحل به إلى هناك... إلى الدوار... إلى حيث التي تقول له ساعة هيجانها: هذا مريض ! وما قالت له يوما: (مريضة ما قادَّة).
يشتاق إليها اللحظة. نبضات قلبه بطيئة كما النجوم تتباطأ هابطة به فوق حقل محاط بشموع مضيئة، بطول أشجار الصفصاف. تبدت له لالاَّه تعتلي جرارا يتوسط الحقل، فاتحة ذراعيها تستعد لاحتضانه فيما هو يزدرد ريقه بصعوبة. ألقى عليها من فوق نظرة أخيرة وانسدت عيناه وخرج من حنجرته ما يشبه حشرجة: لالَّة... أنا... مري... !
* * * * *
غرق الدرب في سكون قبل أن يقطعه شغب أطفال يطلون من الأبواب، يستغربون لمشهد ما ألفوه: كان الرجل الليلي ممدودا على ظهره، تتقاطع يداه على صدره، بينما الكلب يحوم حوله يُرقِّص ذيله. بقي الأطفال حيارى خائفين وهم ينوون عبور الدرب ليلتحقوا بمدارسهم ? ربما يقطع عليهم الطريق ? صمموا على السير جماعة بشكل قوس والاستعداد لمحاصرته ? إذا لزم الأمر ? وإغلاق الدائرة عليه بشكل كماشه. لكن الكلب بدا وديعا لا يزال يُرَقِّص ذيله ? كأنه يضرب في الصفر ما اختمر في أذهانهم - ؛ دار دورتين حول الرجل، لممدود ووقف عند رأسه. رفع إحدى رجليه الخلفيتين ثم بدأ ي.... !
- ربيع: 2009 -


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.