أسلفنا القول عن الزواج في (( الحقيقة))، وندخل الآن على الزواج في (( الشريعة)).. ونبدأ بأن حواء قد كانت زوجة آدم في الحقيقة: (( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها)).. ففي هذا المقام فإن النفس الواحدة هي نفس آدم، الإنسان الكامل، الذي أقيم مقام الخلافة.. وإنما كانت حواء زوج آدم، في هذا المقام، لأنها تنزل عنه (( وخلق منها زوجها..)).. فهي انبثاق نفسه عنه خارجه، كما عبرنا آنفا.. ثم إنه لما كان آدم أول رسول شريعة، من رسل التوحيد، فقد أراد الله له، ولزوجه، أن يكونا زوجين في الشريعة.. ومن أجل ذلك فقد نهاه أن يتصل بها قبل أن تحلل له بالشريعة.. وإلى ذلك الإشارة بقوله: (( ويا آدم اسكن، أنت وزوجك، الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما: إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين؟؟ * قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا، وترحمنا: لنكونن من الخاسرين * قال: اهبطوا!! بعضكم، لبعض عدو.. ولكم في الأرض مستقر، ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون، وفيها تموتون ومنها تخرجون * يا بني آدم!! قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى.. ذلك خير.. ذلك من آيات الله.. لعلهم يذكرون * يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان، كما أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما.. إنه يراكم، هو، وقبيله من حيث لا ترونهم.. إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون..)).. لقد أوردنا هذه الآيات الكريمات في كتابنا: (( الرسالة الثانية من الإسلام))، في باب الحديث عن الحجاب.. وأوردنا الآية الأولى منها في باب الحديث عن خطيئة آدم.. وتحدثنا شيئا يسيراً عن الشرح.. ونحن نورد هذه الآيات الآن في باب الحديث عن الزواج في الشريعة. وقد نتحدث فيها بشئ يسير من التبسيط.. قوله (( ويا آدم)) يعني الخليفة، يعني الإنسان الكامل (( اسكن، أنت وزوجك))، يعني زوجك في الحقيقة (( الباطنة))، والتي سيتم اقترانك بها في شريعتك (( الظاهرة)) فتنطبق بذلك الصنيع شريعتك، وحقيقتك.. وظاهرك، وباطنك.. ولكن قبل أن يتم هذا الاقتران الشرعي يجب أن لا تقربها، وقد وردت الإشارة اللطيفة إلى ذلك بقوله: (( ولا تقربا هذه الشجرة)) فإنكما إن تفعلا، تكونا من (( الظالمين))، المعتدين على حد الشرع.. وهذه إشارة إلى أول الشرائع، التي بدأ الإنسان يرتفع بها في مراقي النفوس، وجاءت منظمة للغريزة (( الجنسية)).. وهي طرف من الغريزة الوحيدة - غريزة (( الحياة)) وخادمتها الأولى.. وبهذا التنظيم نهض التكليف، الذي به ارتفع الإنسان عن الحيوان، فخرج من النفس الأمارة ودخل مرتبة النفس اللوامة.. و (( الشجرة)) هنا لها درجات من المظاهر.. أولها، وأدناها لآدم، نفسه التي بين جنبيه.. ثم هي، في تنزلها عنه، شهوة نفسه هذه إلى الجنس.. ثم هي حواء.. ثم هي شجرة التين.. فإن شجرة التين إنما هي رمز النفس الأمارة.. وإنما نهي عنها لئلا تقوى بأكلها نفسه الحيوانية فتتكثف وتغلظ فلا تطيعه على التصعد باتباع الأمر الشرعي، واجتناب النهي الشرعي ومن أجل هذه الحكمة، نفسها، نهينا، نحن المسلمين، عن أكل الدم المسفوح، لأنه هو النفس، وإذا ما أكلناه أضفنا نفسا إلى نفس، فتطورنا في الكثافة بدلا من اللطافة.. وتسفلنا، وأخلدنا إلى الأرض، بدلا من الترفع والتسامي.. وهو أيضا ما من أجله حرم علينا لحم الخنزير.. فإن الخنزير، بما جبل عليه من أخلاق الحرص والشره، هو أيضا رمز للنفس الأمارة.. ومن هذا الباب يجيء تحريم ما أهل لغير الله به.. وكذلك تحريم الميتة: (( قل لا أجد، فيما أوحي إلي، محرما على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير، فإنه رجس، أو فسقا أهل لغير الله به.. فمن اضطر غير باغ، ولا عاد، فإن ربك غفور رحيم)) فشجرة التين هي الشجرة المعنية في الظاهر، فلما وقع الخلاف بأكلها تلاحقت حلقات السلسلة، حتى وقع الخلاف بالمماسة.. فتغشى زوجه بغير شريعة.. وحلقات هذه السلسلة المتلاحقة طويت في عبارة: (( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما)).. والإشارة بقوله: (( بدت لهما سوآتهما))، إنما هي للأعضاء التناسلية.. فقد كانت محجوبة عنهما بنور البراءة،، والتقى فظهرت بظلام الإثم، والمخالفة.. قوله (( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة))، إشارة إلى الحجاب، الذي أملاه الخزي الذي صاحب الخطيئة.. وقد تحدثنا عن ذلك في موضعه من كتابنا (( الرسالة الثانية من الإسلام)) تحت عنوان (( الحجاب ليس أصلا في الإسلام)).. والذي يهمنا من هذه الآيات التي أوردناها في هذا الباب هو سياقها في نفسه.. وشرح ما به الإشارة إلى الزواج في الشريعة.. فلنكتف بهذا القدر.. ونقرر هنا أن شريعة آدم فردية.. وهي طرف من حقيقته.. وإنما وقعت خطيئته بمخالفة شريعته لقرب ما بين شريعته وحقيقته.. وعندما يسترد مقام الخلافة، الذي فقد بالخطيئة تنطبق شريعة وحقيقة من يسترده، وتكون زوجه في (( الحقيقة)) هي زوجه في (( الشريعة)).. ومن هذا المقام جاء النص، في أصل الدين، على الزوجة الواحدة.. فليس في أصل الدين إلا هذه.. ثم تنزلت الشريعة، من أصل الدين إلى فرعه، فجاء تعدد الزوجات.. فالشريعة، على ذلك، شريعتان.. شريعة في الأصل، وشريعة في الفرع.. الزواج في شريعة الأصول: هناك شريعة تقوم على أصول الدين، ومتعلقها آيات الأصول فهي منها تنبعث وعليها تستند.. والزواج، في هذه الشريعة، يقوم على الكفاءة بين الرجل والمرأة.. الزواج هنا إنما هو ترسيم للعلاقة القائمة في (( الحقيقة)).. زوجتك فيه هي صنو نفسك.. ويمكن تعريف الزواج هنا بأنه شراكة بين شريكين متكافئين، ومتساويين في الحقوق، والواجبات، لا تقع فيه وصاية من الرجل على المرأة، ولا من المرأة على الرجل، فليس هناك وصاية على أيهما فيه إلا وصاية يفرضها على كليهما القانون الدستوري.. هما يملكان الدخول في هذه الشراكة بالأصالة عن نفسيهما، وبمطلق اختيارهما، ولهما الحق (( المتساوي)) في الخروج عنها،.. فهما يتفقان، حين يتفقان، فتكون المحبة، والمودة، والوفاق، والسعادة.. وهما يتفقان، حين يختلفان - يتفقان على أن يختلفا- فيكون فض الشراكة، من غير أن يترك مرارة، ولا عداء.. فيمارس حق الطلاق في سعة أفق، وطيبة نفس، ليدخل كل من الشريكين في تجربة جديدة، مع شريك جديد، عسى أن يهتدي بهذه التجربة الجديدة لصنوه الحق، أو إلى قريب منه، فلا تكون، يومئذ، بهما حاجة إلى ممارسة حق الطلاق، وإنما هو الوفاق، والمحبة، والسعادة.. والحكمة في شريعة الطلاق إنما هي تصحيح الخطأ الذي كثيرا ما يقع نتيجة لعدم المقدرة على، العثور على، أو التمييز بين، الشريك الحقيقي، والشريك الذي قد يشبهه، ثم لا يكون إياه.. وهذا العجز، بفضل الله، يتناقص دائما، وتحل محله القدرة، وذلك كلما ترقى الرجال، والنساء، وكلما قويت لديهما الأنوار التي بها يكون التمييز، وتقع المطابقة.. من ههنا تنهض حكمة شريعة الطلاق.. الزواج، في هذه الشريعة، هو حظ العارفين الذين يتسامون به إلى مستويات لا تدخلها معهم شريعة الطلاق.. لا لأنهم يمنعونها، بالطبع، ولكن لأنهم لا يحتاجونها.. وقد بينا كل هذا في تفصيل واف في كتابنا (( الرسالة الثانية من الإسلام)) تحت عنوان (( الطلاق ليس أصلا في الإسلام)).. في هذا الزواج ليس هناك ولي، ولا مهر.. وليس فيه تعدد زوجات.. والطلاق فيه حق من حقوق المرأة، كما هو من حقوق الرجل.. ودخل الأسرة يملكه الشريكان، حتى حين يكون عمل المرأة قد استغرقه (( البيت)).. فليست النفقة منة من الرجل على المرأة.. الزواج في شريعة الفروع: شريعة الفروع هي موضوع الرسالة المحمدية.. ومتعلقها آيات الفروع.. فهي تنبعث منها، وتعتمد عليها.. وشريعة الفروع شريعة مرحلية.. الحكمة منها نقلة المجتمع المتخلف، الذي نزلت عليه، ليتقدم، حتى يستحق شريعة الأصول.. والحركة منها نحو شريعة الأصول، حين يحين حينها، هو الذي نسميه تطوير التشريع الإسلامي.. ومستوى شريعة الفروع هو مستوى الرسالة الأولى.. ومستوى شريعة الأصول هو مستوى الرسالة الثانية من الإسلام، وهي الرسالة التي وظفنا حياتنا على التبشير بها، والتمهيد لها، والدعوة إليها.. الزواج، في هذه الشريعة، في تعريف بعض الفقهاء،: (( عقد يفيد حل استمتاع كل من العاقدين بالآخر، على الوجه المشروع)).. أو أنه: (( عقد يرد على ملك المتعة قصدا)).. وهذا تعريف، في الفقه، وهو قاصر عن التعريف، في الشريعة.. ومعروف قصور الفقه عن سماحة الشريعة.. الزواج، في هذه الشريعة، هو عقد بين طرفين، غير متكافئين، يملك فيه الطرف الراجح منهما حقوقاً أكثر مما يملك الطرف المرجوح.. والسبب في رجحان حقوق الطرف الراجح، إنما هو رجحان عقله، ودينه، ومن ثم، كثرة واجباته.. ولقد اشتملت على بعض هذه الحقوق هذه الآية الكريمة: (( الرجال قوامون على النساء.. بما فضل الله بعضهم، على بعض.. وبما أنفقوا من أموالهم.. فالصالحات قانتات، حافظات للغيب، بما حفظ الله.. واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن.. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.. إن الله كان علياً كبيراً..)).. فالعلاقة فيه بين الرجل والمرأة ليست علاقة تكافؤ، ولا هي علاقة تسلط، وإنما هي علاقة رشيد جعل وصياً على قاصر، وطلب منه أن يعينه على الرشد.. ولقد جاءت الفاصلة، في الآية الماضية، بقوله، تبارك، وتعالى: (( إن الله كان علياً كبيراً))، لتتضمن هذا المعنى.. فلكأنه قال: جعلنا لكم عليهن علو درجة، فتذكروا أن علو الدرجات لله.. فإن حدثتكم نفوسكم بالاستعلاء عليهن، والتسلط، ومعاملتهن بغير دوافع العطف، والحكمة، وتوخي الترشيد، فاعلموا: أن الله هو صاحب العلو، والاقتدار، والسلطة.. اعلموا ذلك واخشوه فيهن إن كنتم مؤمنين.. والغرض، من هذا العقد، هو تنظيم الغريزة (( الجنسية)) لمصلحة الأفراد، ولمصلحة الجماعة.. فأما لمصلحة الأفراد - الرجل، والمرأة- فبإعفاف النفس، وبصون الأخلاق.. ثم إن به الحب ينمو، والطمأنينة تتوثق، والراحة النفسية تتوفر، قال تعالى فيه: (( ومن آياته أن خلق لكم، من أنفسكم، أزواجاً، لتسكنوا إليها.. وجعل بينكم مودة ورحمة.. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)).. كل أولئك يكون، بفضل الله، ثم بفضل الإمتاع الحسي، والمعنوي.. وأما لمصلحة الجماعة - وحظ الأفراد هنا غير غائب- فبحفظ النوع، وبقيام الأسرة، التي هي الدعامة الأولى للمجتمع، وبالاهتمام بالذرية، الذي يسوق إلى تعليمها، وإلى تهذيبها، وإلى استشعار المسئولية نحوها التي توجب السعي، والكدح، اللذين، بهما قوام التعمير، والتمدين، لجميع الأمة.. هذه الشريعة، إذا ما وضعت في موضعها من حكم وقتها هي غاية في الانضباط، والحكمة، والعدل، والسماحة.. وهي قد حررت المرأة، يومئذ، تحريرا كبيرا.. وقفزت بها قفزة حكيمة، وجريئة، في آن معا.. وهي لا يظهر فيها النقص إلا إذا ما نقلت من وقتها، وطلب إليها أن تستوعب طاقات المرأة المعاصرة، فتنظم حقوقها، وتحل مشاكلها.. ولكن لن يكون النقص، حينئذ، هو نقص هذه الشريعة، وإنما هو نقص هذه العقول التي تنقلها من بيئتها إلى بيئة لم تشرع لها، بدعوى أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.. ولقد تحدثنا في مواضع كثيرة في كتبنا، عن هذه الجهالة، مما يغنينا عن التعرض لها الآن.. والذي يهمنا أن نقرره، في هذا المقام، هو أن هذه الشريعة مرحلية.. وكل حقوق، أعطيت بها للرجل على المرأة، إنما هي أمانة عنده، كأمانة الوصي على حقوق اليتيم، يطلب منه أن يرشده، وأن يرد إليه حقوقه حين يبلغ الرشد.. جميع آيات الوصاية على النساء منسوخة، منذ اليوم، بآية: (( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. وللرجال عليهن درجة..)).. ولقد سبق شرح هذه الآية.. فلا موجب للإعادة.. وجميع آيات الوصاية، على الرجال، وعلى النساء، منسوخة، منذ اليوم، بآيتي: (( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر)).. وجميع آيات الرأسمالية، في القرآن، منسوخة بآية: (( ويسألونك ماذا ينفقون؟؟ قل: العفو)) وللعفو قمة، وله قاعدة.. وستظل قمته متروكة لمنطقة الأخلاق.. وإنما تهمنا قاعدته لأنها أدنى منازل الاشتراكية، وهي تحريم ملكية وسائل الإنتاج، على الفرد الواحد، أو على الأفراد القلائل.. وبهذا ينفتح الطريق لتطوير التشريع، الذي تقوم عليه الرسالة الثانية من الإسلام.. وهي الرسالة التي تقوم على تحقيق الفردية، لكل رجل، ولكل امرأة.. وتتوسل إلى منازل الفردية هذه بوسيلتين: إحداهما وسيلة المجتمع الصالح، وهو المجتمع الذي يقوم على التشريع الدستوري، المستمد من الدستور الإنساني، الذي، تحت ظله، يتحقق الجمع بين الاشتراكية، والديمقراطية، في جهاز واحد، حتى لكأنهما، للمجتمع، الجناحان للطائر، لا نهضة له بدونهما معا.. وثانيتهما وسيلة المنهاج التربوي الذي جاء به الإسلام، في عبادته، والذي يسوقنا، بإتقان تقليدنا للمعصوم، من التقليد إلى الأصالة - من السير في القطيع إلى البروز إلى مقام الفردية- من العبادة إلى العبودية.. من القيد إلي الحرية.. والحرية المطلقة، في ذلك.. ومقام الفردية هذا هو آصل أصول الدين.. وهو، من ثم، مطلوب الدين الأخير، لأنه مقام العبودية.. وهو المقام الذي تتأدى إليه جميع المناشط في العلم - العلم بالشريعة المشرفة- وفي العمل، وفي الذكر، وفي الفكر، وفي العلم - العلم بالله العظيم- وفي الفناء عن هذا العلم.. ومقام العبودية هذا هو مقام شريعة وحقيقة.. ولكن الشريعة فيه شريعة فردية، يخرج بها المحقق من شريعة القطيع.. ويؤتى شريعته الفردية من الله كفاحاً.. مقام العبودية هذا مقام حياة.. حياة بالله، عند الله.. وهو نهاية المطاف، وما للمطاف نهاية.. (( إن المتقين في جنات، ونهر، في مقعد صدق، عند مليك مقتدر)).. عند الله، حيث لا عند.. نهاية المطاف.. وما للمطاف نهاية.. لأنه سير إلى الإطلاق.. فهو تجدد، مستمر وسرمدي، لحياة الفكر، وحياة الشعور..