بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة الذي يصادف هذه السنة يوم 20 نونبر 2025 في الحاجة إلى فلسفة "لا" العرائش أنفو يبدو أن كلمة "لا"، رغم بساطتها اللغوية من أكثر الكلمات التي حملت عبر التاريخ ثقلًا وجوديًا وسياسيًا وأخلاقيًا. إنها ليست مجرد نفيٍ لغوي، بل موقف من العالم، ووعي بالحدود، وصرخة في وجه الامتثال الأعمى. في زمنٍ تكثر فيه الأقنعة وتقلّ فيه الوجوه، يصبح قول "لا" أكثر الأفعال صدقًا. لكن "لا" التي نقصدها هنا موقف وجوديٌّ، تمرّد هادئ ضد ابتذال العالم، ورفضٌ فلسفيٌّ للانصهار في قطيع الطاعة والامتثال. وفي زمن يغمره الضجيج الإعلامي، وتستبد به ثقافة القبول والخضوع للأنظمة الاقتصادية والسياسية السائدة، تصبح الحاجة إلى فلسفة "لا" ضرورة وجودية لإنقاذ المعنى الإنساني من التلاشي، إذن كيف يمكن أن تساهم الفلسفة في الانتقال من النفي إلى الوعي؟ وبالتالي تصير "لا" كفعل تفكير عوض أداة نفي سلبية؟ أن تقول "لا" معناه أن تؤكّد وجودك في عالمٍ يريدك تابعًا، ف"لا" ليست نفيًا بقدر ما هي إثبات: إثباتٌ للحرية، وللذات التي ترفض أن تُستهلك في مسرح القبول الأعمى، كل "لا" أصيلة هي إعلانُ ولادةٍ جديدةٍ للكائن، وتذكيرٌ بأنّ الإنسان لا يُقاس بمدى انتمائه، بل بقدرته على الرفض. في جوهرها، "لا" هي الفعل الفلسفي الأول، لقد بدأ سقراط ب"لا"، وواصلها اسبينوزا ونيتشه وسارتر وغيرهم كثير وعلى رأسهم الشاعر الكبير أمل دنقل في قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" الذي أنشد فيها يقول: المجد للشيطان معبود الرياح مَن قال "لا" في وَجْه مَن قال "نعمْ" مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ وقال "لا" فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ هؤلاء كلّهم قالوا "لا" في وجه الموروث، و"لا" في وجه الإله الزائف، و"لا" في وجه كل سلطةٍ تفرض المعنى قبل السؤال. لذلك تبدأ الفلسفة حين يُقال "لا" لأن قول "لا" هو أول فعل نقدي يقوم به العقل إزاء ما يُقدَّم له كبداهة أو كحقيقة مطلقة، عندما قال سقراط "لا" للجهل المطمئن إلى نفسه، ولأوثان الرأي العام، أسس بذلك لبذرة العقل الفلسفي، لذلك فإن "لا" ليست سلبًا للوجود، بل نفيًا للزيف، إنها أداة تحرير، تُمكّن الذات من أن تفكر ضد المألوف، وتعيد النظر في ما يُفترض أنه نهائي، وفي كل البديهيات المسلم بها. بهذا المعنى، تمثل "لا" لحظة ولادة الوعي الذاتي، حين يدرك الإنسان أن القبول الدائم هو شكل من أشكال الموت البطيء، وإلغاء الذات بما هي ذات واعية مفكرة، كما أن "لا" تعبير عن موقف مُقَاوِم في وجه الهيمنة بكل أنواعها، وهكذا تحضر "لا" في التاريخ السياسي باعتبارها الشرارة الأولى لكل ثورة، قالها غاليليو في وجه الكنيسة، وقالها جيفارا في وجه الإمبريالية، وقالها الفلسطيني الفدائي المقاوم في وجه الاحتلال. لكن الفلسفة لا تكتفي ب"لا" سياسية سطحية، بل تجعل من الرفض وعيًا بالعالم وبالذات في العالم. فأن تقول "لا" لا يعني فقط رفض القمع، بل أيضًا رفض المنطق الذي يبرر القمع. لهذا فإن فلسفة "لا" ليست نزعة عدوانية، بل شكل من أشكال الكرامة الوجودية، ورفض للامتصاص داخل نظام الهيمنة، سواء كانت هيمنة رأسمالية، أو أيديولوجية، أو ثقافية. كما تتخذ "لا" في بعدها الأخلاقي وظيفة مزدوجة: فهي رفض للشر، وفي الوقت نفسه دعوة للمسؤولية، فأن أقول "لا" يعني أن أتحمل عبء القرار، وأن أختار الوقوف في الجهة الأصعب. وفي عالم يكرّس "ثقافة نعم"، نعم للاستهلاك، نعم للطاعة، نعم للنجاة الفردية…، تصبح في مثل هكذا وضع "لا" علامة على يقظة الضمير، إنها ليست مجرد تمرّد، بل تعبير عن حسّ أخلاقي عميق يرفض المشاركة في الباطل. من هنا، يمكننا القول إن الضمير نفسه هو صيغة داخلية من كلمة "لا": لا للظلم، لا للتزييف، لا للعبودية الحديثة، واللا هنا ليست نافية بل باعتبارها مقاومة وتحدٍ في وجه كل ما يتبعها، بل اللاَّ هنا إنقاذ ووعي بما لا يجب تحققه وما يجب رفضه في أفق انتاج بديل عنه، خاصة وأننا نعيش في عالم تقوم فيه الرأسمالية المعاصرة على ترويض الإنسان ليقول "نعم" لكل شيء: نعم للإنتاج، نعم للإعلانات، نعم للذات المموّهة التي تستهلك لتثبت وجودها، مما جعل الإنسان يتحول كما يقول الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ تشول هان، إلى عبدٍ متطوّع في "مجتمع الأداء"، يمارس استعباده الذاتي باسم الحرية. هنا بالضبط، تستعيد فلسفة "لا" معناها التحرري: لا للانصهار في ماكينة السوق، لا لامتصاص الرغبة داخل نظام الرأسمال، لا لتحويل الإنسان إلى منتجٍ أو سلعةٍ أو ملفّ بيانات. بهذا المعنى، يصبح قول "لا" فعلاً روحيًا مقاومًا، يؤسس لهوية حرة قادرة على إعادة تعريف المعنى خارج دوائر الاستهلاك والربح. كذلك تحضر "لا" في مجالات الفن، في أرقى معانيه، باعتباره الوجه الجمالي لفلسفة "لا"، فحين يخلق الشاعر أو الرسام أو الموسيقي أو المخرج السينمائي عالماً مغايرًا، فهو يرفض العالم القائم، لهذا يقول الفن الراقي "لا" للجمود، ولا للابتذال، ولا للغة التي لم تعد تعبّر عن الوجود. إذن "لا" ليست فقط موقفًا سياسيًا أو فكريًا، بل شكلًا من أشكال الإبداع، إنها تولّد الجمال من رحم الرفض، وتمنح الوجود إمكانية جديدة للمعنى، لهذا فإننا نحتاج إلى فلسفة "لا" لأننا نعيش في زمن "نعم" المطلقة: نعم للمظاهر، نعم للنظام، نعم للخراب المزيّن بالشعارات الواهمة. خلاصة القول فلسفة "لا" ليست نقيضًا للحياة، بل دفاعًا عنها ضد التشيؤ والتفاهة، إنها إرادة استعادة الذات في وجه ما يحاول ابتلاعها، أن نقول "لا" معناه أن نحيا بطريقة أخرى، أن نفكر بحرية، وأن نتحمل ثمن الوجود الأصيل في عالمٍ يكره الأصالة. شفيق العبودي العرائش 20 نونبر 2025