لم تنشأ أزمة الشرق الأوسط (...) نتيجة خلاف بين دول، بل نتيجة صدام الحضارات».. كلام كتبه جامعيّ بريطاني سنة 4691 (في كتاب «الشرق الأوسط والغرب») بينما كان ما يزال غيرَ معروف بعدُ. إلا أن كلامه سينتشر بسرعة، ليجعل من برنار لويس متنبئا بالمستقبليات. استقر لويس، المتخصص في الشؤون التركية، في الولاياتالمتحدة ابتداء من سنة 4791. صار فاعل ا سياسيا، وهو الأمر الذي لا يخفيه. ولما كان قريبا من بول وولفوفيتز والمحافظين الجدد في إدارة بوش، فإنه يساند السياسة الإسرائيلية والحرب على العراق. «اشتهر» بين الجمهور الواسع بعد أحداث 11 شتنبر، قبل أن «يرتكب» كتابين يبدو جليا أنهما «موجَّهان» من بعيد، وإن كان ظاهرهما «علميا»: «ماذا حدث؟»، ثم «الإسلام في أزمة»، اللذين لقيا الكثير من الترحيب والتصفيق، فيما نسي من حوله أن يذكِّروا أن المؤلِّف مازال ينفي وجود شيء اسمه إبادة الأرمن... بعد أن مرت العبارة دون أن تثير كثيرَ انتباه في ستينيات القرن الماضي، أعاد لويس إثارتها من جديد، بعد 25 سنة، في مقال بعنوان «جذور الغضب الإسلامي»، وهو المقال الذي وصف فيه الحالة الذهنية للعالم الإسلامي وانتهى إلى القول: «هذا ليس إلا صدامَ حضارات. يمكن أن يكون رد الفعل غير عقلاني، لكنه سيكون، لا محالة، تاريخيا، من غريم قديم ضد إرثنا اليهودي- المسيحي وحاضرنا العلماني والتوسع العالمي لهذين البعدين معا». ويضيف سنة 5991: «أعتقد أن الأغلبية منا ستتفق على القول إن صدام الحضارات وجْه مهمٌّ من العلاقات الدولية الحديثة، رغم أن قلة منا ستذهب إلى حد القول، كما فعل البعض، إن الحضارات لديها سياسات خارجية وتُكوِّن لنفسها تحالفات». توجد رؤية «صدام الحضارات»، التي تواجه بين كيانين محدَّدين، «الإسلام» و«الغرب» (أو «الحضارة اليهودية- المسيحية»)، في قلب فكر برنار لويس، وهي رؤية تحصر المسلمين في ثقافة ثابتة وأبدية. «تتجاوز هذه الكراهية، يؤكد لويس، العداء لبعض المصالح أو الأفعال الخاصة أو لبلدان معيّنة، لكنها تصبح رفضا للحضارة الغربية كحضارة، ليس فقط بسبب ما تفعله، بل بسبب طبيعتها والمبادئ والقيم التي تمارسها وتعمل على إشعاعها». بهذا المنطق، يجوز القول إن الإيرانيين لم يثوروا ضد دكتاتورية الشاه المفروضة بموجب انقلاب خططت له وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إي) سنة 3591 والفلسطينيون لا يقاومون ضد احتلال أبدي لا يزول. وإذا كان العرب يكرهون الولاياتالمتحدة، فليس بسبب دعم الأمريكيين أرييل شارون أو بسبب احتلالهم العراق. بنفس المنطق، يمكن القول إن الحقيقة هي أن ما يرفضه المسلمون هو الحرية والديمقراطية. كيف يمكن فهم الخلاف في كوسوفو أو في إثيوبيا –إرثيريا، بمنطق برنار لويس.؟ في سنة 3991 أعاد صامويل هانتينغتون عبارة «صدام الحضارات» إلى الواجهة، في مقال مشهور نشرته مجلة «Foreign Affairs»، إلا أنها رُفضت في فرنسا، غير أن المفهوم أخذ يستقر، شيئا فشيئا، في وعي الناس. وعندما نطق الرئيس جاك شيراك، في تونس العاصمة (دجنبر 3002) كلمة «اعتداء» في ما يخص الحجاب، تلقّفتْها الصحافية إليزابيث شيملا لتقول: «لأول مرة، يعترف جاك شيراك بأن فرنسا ليست معفاة من صدام الحضارات». في السياق نفسه، كتب إيمانويل برينر في كتابه «فرنسا، حذار أن تفقدي روحك» (4002)، ما يلي: «لا نقصد المبالغة، لكن ينبغي الأخذ بعين الاعتبار الرهانات الثقافية التي تعكس المواجهات بين مفاهيم مختلفة عن العالم إن لم تكن متعارضة. (...) يغيب هذا البعد الثقافي عن الكثير من الملاحظين الذين يتجاهلون الأخذ بهذه الخلفية التاريخية، التي تتحدث إلينا بدون علمنا. يتعلق الأمر بخلفية من طبيعة ظلت، منذ زمن بعيد، خلافية وها هي تعاود الظهور في تعبيراتنا الهوياتية، اليوم. يكفي أن نُذكِّر بالحروب الصليبية والمواجهة بين ضفتي البحر المتوسط، كما يكفي التذكير بتقدم الإسلام في الجنوب الشرقي لأوربا حتى مشارف فيينا في القرن السابع. يكفي، أيضا، التذكير بزمن الأتراك، الرهيب وبزمن الاستعمار، وما ترتب عنه من مواكب العنف، ثم بزمن التحرير الذي، غالبا، ما كان دمويا. ترسبت هذه المواجهة، القديمة والمتكررة، في وعي الشعوب. ولهذا -يختم برينر- نجد أن عددا من أبناء الهجرة الشباب معادون للسامية «ثقافيا»... هكذا، فمن عهد محمد (يقصد النبي «ص») إلى حصار فيينا من قِبَل العثمانيين، من زمن التحرير إلى الإسلام السياسي، من الإسلام السياسي إلى «القاعدة»، ومن الحجاب إلى معاداة السامية بين شباب الأجيال المهاجرة، اكتملت الحلقة الدائرية، ليعيد التاريخ نفسه. (أرشيفات لوموند دبلوماتيك) شتنبر 4002