كان آخر عهدي بالترافع في قضية تهم حرية الرأي والصحافة وحق الصحافي في الكتابة والتعليق، بحرية لا يحدها إلا ما يمليه عليه ضميره، في مطلع عقد تسعينيات القرن الماضي، بمناسبة متابعة الأخ المناضل محمد الإدريسي القيطوني، مدير جريدة «l'Opinion»، الذي أدانته، آنذاك، المحكمة الجنحية في الرباط، نهارا، بعقوبة سجنية ظالمة، قاسية، ليصدر في حقه ليلا في نفس اليوم عفو ملكي... وآخر نضال لي بالنسبة إلى حرية الصحافة والضمانات التي يجب أن تتوفر للصحافي ليضطلع بدوره الكامل ونشر الحقيقة، كما هي، وإبداء الرأي والتعليق على الخبر، بكل حرية، كان بمناسبة متابعة الأخ المجاهد الأستاذ الكبير عبد الكريم غلاب، أمدّ الله في عمره، عندما حاولوا إلباسه جرائم زعزعة الاستقرار والمس بأمن الدولة بمناسبة أحداث 14 دجنبر 1990، بسبب ما نشرته جريدة «العلم» عن أعداد ضحايا تلك الأحداث المؤلمة، بل وأحالوا ملفه على المحكمة الجنحية الابتدائية في الرباط. ومن موقعي، آنئذ، كأحد وجوه قادة المعارضة البرلمانية، اشتغلت في السر والعلن، في الكواليس ومن أعلى منصة البرلمان، للتوضيح والتنديد، حتى لا يُزَجّ بالأستاذ غلاب في السجن، ظلما وعدوانا. وبسبب ذلك الموقع، لمست مأساة القضاء في بلادنا وكيف يُسخَّر لخدمة أهداف سياسية ومآرب أنانية دنيئة ويتلقى التعليمات وينفذها، بدون حياء أو خجل، لا أقلها ما يعرفه الجميع اليوم.. ذلك أن القاضي الذي عُيِّن للحكم على «المتهم» غلاب، مدير «العلم» حضر الجلسة وأعلن تأجيل الملف دون أن يطلب منه أحدٌ ذلك، وما يزال هذا الملف، منذ ذلك التاريخ، مؤجلا إلى الآن!... لقد «زهدت» في المهنة وفقدت كل ثقة في عدالة بلادي، التي كنت أعتبرها الوطن الحقيقي لكل مواطن معتز بمواطنته، وتحفظت، أحيانا كثيرة، عن ارتداء الجبة السوداء للدفاع عن كل من يدافع عن المستقبل الأفضل والأروع لهذا الوطن، لقناعتي بالحجة والبرهان وما لمسته في مختلف المستويات العليا في الدولة، وأنا أشرح الاستهداف والظلم الذي يتعرض له الأستاذ غلاب، أن قضاء هذا الوطن يسير، بكل حزن وأسف، بالتعليمات والتوجيهات، بل ولا أتردد في القول: بالوعود والإغراءات... واليوم، بعد مرور عقدين من الزمن، بكل ما عرفه المغرب من زخم في النضال الديمقراطي وتبني الخيار الديمقراطي، ثابتا من ثوابت الأمة، وقيام التناوب التوافقي وإعلان الكثير من المبادئ والتوجيهات نحو بناء مغرب حر ديمقراطي لكل أبنائه، وبعد كل المياه الجارفة والهادئة التي انسابت تحت الجسور، أجد نفسي متحللا من عقدة اللا جدوى في المرافعة والدفاع، بسبب أن قوى الظلام تقتحم ضمائر القضاة وتفرض الأحكام التي تريدها، مرتديا جبتي لأقف إلى جانب الأستاذ رشيد نيني في محنته، لمؤازرته لعلي أسهم في رفع الظلم الذي لحق به في كل لحظة من لحظات الزمن، التي يقضيها في غياهب السجن، منذ استدعته الشرطة للبحث وإلى أن يسترجع حريته. عقدان كاملان سال فيهما مداد كثير حول القضاء واستقلاله.. أُلقيت عشرات الخطب ونُظِّمت مئات الندوات وعُقدت المؤتمرات العديدة وخرجت مئات التوصيات في المؤتمرات المهنية والسياسية والجمعوية، كلها تجعل من القضاء الركن الركين لبناء دولة الحق والقانون والمساواة وقاطرة الوطن لتحقيق التنمية الشمولية للبلاد... ويأتي اعتقال الأستاذ رشيد نيني، في خضم كل ذلك، وفي غمرة كل الآمال الكبيرة وبوابات الإصلاح التي فتحها خطاب جلالة الملك ليوم 9 مارس، لنقف جميعا أمام عدالة بلادنا، لنرى إلى أي حد كان لكل هذا الزخم أثر على سير القضاء وعلى ضمائر القضاة؟... رشيد نيني «ظاهرة» مغربية بامتياز: حضور دائم، قلم سيّال، فكر ناضج، شجاعة أدبية حد «الانتحار»!.. لا أعرفه شخصيا، ولكني أشعر بجديته وبأنه وهب نفسه لمهنة المتاعب، بدون حدود، فلهذا كنت أقول لصديقنا المشترك: إن شجاعة الرجل قد تؤدي به إلى النهاية وإلى تفريق دمه بين القبائل، ولهذا اعتبرت أن الزج به في السجن، حتى لو لم يكن ظلما، هو أهون من شر مستطير أكبر!... رشيد نيني.. وهو متابع بنصوص القانون الجنائي في جرائم تتعلق بالنشر، وليس بقانون الصحافة، يعتبر ضحيةَ تعسف قانوني يجب رفعه قبل كل نقاش، وهذا سر التعاطف الجماعي معه، رغم أن الجميع يعلنون، في نفس الوقت، أنه معه حتى ولو كانوا لا يشاطرونه الرأي في ما ينشره!... شخصيا، أختلف معه أحيانا، وكلية، بخصوص ما ينشره في عموده، سواء تعلق الأمر بالأشخاص العاديين أو الاعتباريين أو بالمؤسسات، ولاسيما عندما يهاجم أمواتا، لا حول لهم ولا قوة، ولكنّ هذا لا يمنعني من الوقوف إلى جانبه، لنصرة حرية الرأي وحرية الصحافة وفرض احترام القانون. هناك إشارة قوية على الجميع أن يضعها في الحسبان، سواء الذي أصدر الأمر بفتح التحقيق أو الذي أمر بمتابعته وبالزج به في السجن أو بالنائب الذي سيرافع في الجلسة أو بالقاضي الذي سيصدر الحكم.. هذه «الإشارة» هي هذا التضامن الواسع مع رشيد نيني: وزيرا دولة في الحكومة ندِّدا بالاعتقال.. صيحات فاتح ماي دوّت في كل الأرجاء، منددة بالاعتقال.. زملاؤه الصحافيون، على اختلاف مشاربهم وعلاقاتهم، الحسنة أو الرديئة، به نددوا بالاعتقال، كأفراد وفي إطار نقاباتهم... حقوقيون وسياسيون وفاعلون جمعويون استنكروا الاعتقال.. حملات تضامنية عمّت المغرب، من أقصاه إلى أقصاه، تندد بالاعتقال... هل كل هذا التوجه الشعبي العام يعتبر غلطا في غلط، والصواب فقط هو المتابعة والاعتقال؟!. والنتيجة الحتمية لذلك: المحاكمة غير العادلة!... القضاء، باستقلاليته وبانتمائه إلى مجتمعه، وبوظيفته الأسمى التي وُجِد من أجلها، وهي إقامة العدل بين الناس، مساءَل اليوم: مساءَل مساءلة كاملة عن ترسيخ قيم العدالة وسيادة القانون. قضية مثل هذه في الدول الديمقراطية الحقيقية، ولنقل في الملكيات الأوربية على سبيل القياس، لا يمكن أن تعرض على القضاء بمثل هذه المسطرة ولا يقبل القضاة التصرف في حرية أي إنسان، أي مواطن بفظاعة الاعتقال، فبالأحرى إذا كان الأمر يتعلق بحرية النشر في إطار العمل الصحافي!... هذا هو التحدي الحقيقي اليوم لقياس درجة استقلالية قضائنا وقضاتنا عند فتح المساطر أو عند صدور الأحكام. مغرب اليوم.. مغرب محمد السادس، ليس هو مغرب الأمس، بكل تأكيد: كل شيء يتغير، الكل ينشد التغيير، ما من شك أن هناك جيوب مقاومة، لكن إرادة ملك وشعب، حتما، تنتصر، في النهاية. وعلى قضائنا في هذا الظرف بالذات ألا يكون «عبدا» لنصوص القانون الجامدة، بل لروح الأمل، التي تغمر جميع المغاربة، والقضاة في مقدمتهم.. عليه أن يشيد في حنايا المجتمع بالتفسير والتعليل لنصوص القانون وجسور الطمأنينة والثقة في العدالة، قبل كل شيء. ليس هناك أحد فوق المساءلة القضائية، مهما كان كبُر شأنه أو صغُر، ولكن على العدالة أن تكون بالفعل «وطن الإنسان». تقتضي المحاكمة العادلة لرشيد نيني متابعة في إطار قانون الصحافة وليس في إطار القانون الجنائي. وإلا لا معنى لوجود قانون للصحافة، أصلا. المحاكمة العادلة لرشيد نيني تقتضي محاكمته حرا طليقا، لكونه يتوفر على الضمانات القانونية في الحضور، ولأن شروط التلبس غير متوفرة في ما يتابع من أجله، إلا إذا كانت متابعته تستهدف «إقبار» مشروعه الإعلامي، الناجح نهائيا. معلمنا الأكبر علال الفاسي، الذي طالما هاجمه السيد رشيد نيني في عموده، ظلما وبهتانا، علّمنا أن نضحي بحريتنا في سبيل حرية الآخر وعلّمنا أن ندافع عن حرية أي جريدة، حتى لو كان لا يقرؤها إلا صاحبها وحده. واعتزازا بسمو هذه القيم الخالدة على كل خلاف في الرأي، أقف اليوم في صف الدفاع عن حماية الصحافيين وحرية الصحافة وسيادة القانون، ومهما كان موقف القضاء بالنسبة إلى احترام الشكل قبل الخوض في الجوهر، لأن الشكل والحرية صنوان، فإن دروس تاريخ النضال تؤكد لنا، على الدوام، أن عالم السدود والقيود يلجه حمَلة الأقلام بأسمائهم العادية المجردة، ويغادرونه، مهما طالما الزمان، بألقاب مستحقة تضفي على أشخاصهم الاحترام والاعتبار، وتبقى أوسمة فخر لهم إلى الأبد نظير مواقفهم وتضحياتهم.