يعتبر أمر اعتقال رشيد نيني خرقا سافرا ليس ل«حقوق الإنسان» فحسب، بل «لحقوق اللسان» أيضا.. و«اللسان» هو «الناطق الرسمي» باسم «دولة الأفكار»، حتى لا نقول باسم «دولة جسم الإنسان». فإن كانت الدول الديمقراطية، ذات النمط البورجوازي أو الليبرالي المتوحش، تتشدّق بحقوق الإنسان وتحاول، في الوقت نفسه، تشييء الإنسان ضمن نمط إنتاج معيّن، فإن الدول العربية -إلى جانب حركيتها الاجتماعية ومطالبها الشعبية- وفي محاولة منها إنتاج «نص مؤسس» لحقوق الإنسان، حتى لا نقول «دسترته»، تحاول، في الوقت نفسه، ترسيخ تقليد مسكوت عنه، ألا وهو «حقوق اللسان». وإذا كان الخطاب الرسمي قد أعرب أن المغرب كان مهددا ب«سكتة قلبية»، فهل نقول إن الأمر استفحل لنصبح أمام تهديد من نوع آخر وهو «سكتة لسانية»، تتقطع فيها الحبال الصوتية، ما دام «السكوت» واردا، فحتى في هذه الحالة (وكما قال ابن عينية)، يعد «الصمت منام العلم والنطق يقظته، ولا منام إلا بتيقظ ولا يقظة إلا بمنام».. وقد قال أحد الحكماء: «إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت، فتكلّمْ». فحرية التعبير وحرية الصحافة مطلبان أساسيان و»علامة» يرتبط دالها بمدلولها. وإذا كانت الفلسفة الإغريقية، قبل بحثها في «الهيولى»، قد أرجعت مصدر الوجود إلى عناصر أساسية في تشكل العالم هي «النار -الهواء -الماء -التراب»، فإن الصحافة، لكي توجد وتتقدم، لا بد لها من: «حرية تعبير –ديموقراطية -كرامة»، فأين نحن من هذه الأقانيم التي أتينا على ذكرها؟ لكل ذلك، يُشكّل اعتقال «رشيد نيني» ضربا لمستوى الاسم، حينما يتحول داخل هذا المحور «رشيد» إلى «راشد» في عموده، وحينما تنتصب «ياء» الاسم - من «رشيد»- «ألفا» في وجه الجلاد... فإن سوط الجلاد -في المقابل- يعلو على صوت «الرشد»، وبين»السوط» و»الصوت» تتفرغ تخصصات أخرى على المستوى المعجمي والصوتي الفونيتيكي والمستوى التركيبي. فإذا كان الشاعر قد قال : لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فإننا نقول: لسان الفتى نصف ونصف حصاته فلم يبق إلا صورة الحبر والورق بالنسبة للمحور الثاني : «شوف تشوف»: الأذن ترى، والعين تسمع، والعقل يرى، ويسمع، ويفكر، واللسان يتكلم. في لغة المجاذيب : الشواف يشوف من قاع القصعة والغربال نشوفو منو أفعال الناس ياك الناس، كاع ناس شي شاد هراوة، شي شاد فاس باش يحفر لذاك اللي ما عندو ناس المصبط ما درا بالحافي والزاهي يضحك على الهموم.. واللي ناعس على القطيعة دافي والعريان، كيف يجيه النوم ؟! في اللغة الواصفة : (Métalangage) شوف : انظر. تشوف : لكي تنظر أكثر، أي تصل إلى مرحلة الكشف والتجلي والحلول والإشراق بتعبير المراتب الصوفية ورؤياها، لأن الاستئناس في كلام العرب «النظر»، والنظر في كلام الناس «البصر» والاطلاع : النظر. قال الأزهري : وأصل الإنس والإنسي والإنسان من الإيناس وهو «الإبصار» والبصر في نظر كبار العارفين «البصيرة». في اللغة المخزنية : شوف تشوف؟ وسبحان من يرى إلى العمود بعين جلاده، بمعنى : إلى شتي غادي تشوف؟ وها نحن نرى، ولكن حينما يحاول ما هو سائد استنساخ الرؤية وتعميمها على الكل انطلاقا من فرض «نظارات» على المقاس تحت شعارات مختلفة وأوامر متعددة من قبيل «أريدك أن ترى ما أراه... وأن ترى ما أريناه إياك... فإياك أن ترى ما لا نراه، أو أن تسمع ما سمعه النمل «من حوافر خيل جيش سليمان، وجنده. .. وهلم رؤية...لأنه قد تتسع الرؤية وتضيق العبارة. في ظل هذا الوضع تحول الإجهاز على «شوف تشوف» من طرف الجهاز إلى «تشوافت» من خلال المطالبة بالإعلان عن «مصادر الخبر» ومصادر «الرؤية»، وهو أمر يتجاوز حاسة واحدة ليطال جميع حواس الإنسان، ويقترن برؤيته ويصادر حلمه. ولنا في ما قاله «رهين المحبسين» ومضة من ومضات تنير طرقنا المدلهمة : رأيت في النوم ما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر تركيب : بنية المشاهدة : يعتبر اعتقال «رشيد نيني» اختبارا لحرية الرأي والصحافة، لأنهم يريدون القيام بتحليل لعينات «دم» جسم الصحافة.. ولكن هذا الجسم غير مريض لكي يحتاج إلى تحليل، بل إن اعتقال رشيد في حد ذاته من يحتاج إلى «تعليل». هل يحدث هذا بالفعل في المغرب، لكننا لا نستغرب ما دام الأبشيهي قد قدم في «المستطرف في كل فن مستظرف» وصية لقمان لولده قائلا: «يا بني، إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك، يقول اللسان كل «صباح» وكل «مساء» (بدون (أل)) للجوارح كيف أنتن؟ فيقلن، بخير، إن تركتنا. قال الشاعر : احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق» وفي رواية أخرى ترجع مناسبة قول هذا البيت المختلف نوعا ما بين «لا تقول» و»أن تقول» (نهيا عن القول للضرورة الشعرية). إلى ما ورد في التراث أن أحدهم قال وهو في مجلس: ألا فاسقنيها قبل جيش أبي بكر لعل المنايا حائمات ولا ندري وما هي إلا لحظة حتى هجم جيش أبي بكر المذكور، ولذلك قيل : احفظ لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق. فما بال جوارح الجسم المغربي قد تحركت، طالبة أن يتركها اللسان بخير؟ وما بال الحواس الأخرى قد اجتمعت وأرادت كبح جماح اللسان؟ إن الصحافة المسموعة (الأذن) لا تريد حاسة (اللمس)، أو المس، والمرئية والمقروءة (العين) تحتاج إلى حاسة (الذوق) (اللسان)، «وهذا اللي شميناه في السما» بأنف شامخ شموخ الأطلس، لأن الأنف يرتبط بالكرامة والعزة في زمن«البوعزيزي العربي» الذي أصبح مادة قابلة للاشتعال اللهم إذا أرادوا أن يطبقوا علينا الحكمة الهندية القديمة لأيقونة القرود الثلاثة: «لا أرى – لا أسمع –لا أتكلم» إننا نرى مثلما رأى، ونسمع مثلما يسمع كل الشعب. .. فمن حقنا أن نتكلم أو نسكت عن الكلام غير المباح ! ! فهذه حاسة واحدة أردتم مصادرتها.. فما بالكم بالحواس الخمس... ذلك بأن شرط الممارسة الديموقراطية هي التلاحم بين القول والفعل... ولا تفعلوا مثلما تفعله «الجزيرة» التي تستطيع الوصول إلى القمر، لكنها لن تصل أبدا إلى «قطر»! فالمغرب من بين الدول العربية التي تحاول تأسيس «نص مؤسس»... لكن. .. ما يجري... يدل على أننا في «مسرح»، والمشكل أن المسرح ينبني على أنك «تشوف العرض» و»شوف تشوف» كي غادي يجيك العرض؟ وشكون اللي كاتب النص؟، وهل تتقاسم أبوته عدة جهات؟ وشكون التقنيين؟ وشكون المخرج أو المدخل؟.. فالرؤية والتعبير والحق في الرأي مثل غابة بلا طيور، لكن لا نريد أن تتضمن الأشجار من الطيور أكثر مما تتضمنه أغصانها من أوراق. فهذه ورقة من أوراق شهر أبريل (الشهر الضاحك الباكي)... وما نعيشه في الواقع هو ضحك كالبكا... سلام على الدنيا إذا لم يكن بها ** صديق صدوق يصدق الوعد إن صدق.