من المؤكد أن السيد نوري المالكي، رئيس وزراء العراق، ليس من أتباع المذهب الوهابي الذي يحرم زيارة الأضرحة، فأثناء زيارته لواشنطن قال في تصريحات صحافية إنه شيعي أولا، وعراقي ثانيا، وعربي ثالثا، وعضو في حزب الدعوة رابعا، في إجابة عن سؤال حول كيفية تعريفه لنفسه. يوم السبت، أصدر السيد المالكي فرمانا يمنع زيارة قبر الرئيس الراحل صدام حسين وقبور ولديه عدي وقصي وحفيده مصطفى، المدفونين في مدينة تكريت مسقط رؤوسهم، وأبلغ أفراد عشيرتهم بهذا القرار، وأرسلت حكومته قوات أمن لتطويق الأضرحة، ومنع أي زوار من الوصول إليها. لا نعرف لماذا يخاف السيد المالكي -وهو الذي جاء إلى الحكم لإقامة نظام ديمقراطي يحترم الحريات العامة والشخصية، ومارس على مدى السنوات التسع الماضية عملية اجتثاث شرسة ودموية للنظام السابق وكل منتسبي حزب البعث، الذي كان يحكم باسمه- لا نعرف لماذا يخاف رجل مثله من هياكل عظمية مدفونة تحت الأرض، وهو الذي يملك نصف مليون جندي ورجل أمن ويحظى بدعم أمريكا وإيران معا؟ الرئيس صدام حسين اعدم، ومن وقع قرار تنفيذ إعدامه السيد المالكي نفسه، بعد محاكمة مزورة، وقامت حكومته بتسليم جثمانه إلى شيخ عشيرته من أجل دفنها، فلماذا يمنع ذووه، أو محبوه، من زيارته حتى لو اختلفوا معه في الرأي؟ أليس ألف باء الديمقراطية، التي يتباهى بها العراق الجديد وحكامه، احترام الرأي الآخر ومشاعر قطاع عريض من مواطنيه؟ ثم ماذا يضير السيد المالكي لو زار أفراد من عشيرة صدام أو أقاربه قبره، وهم الذين فعلوا ويفعلون ذلك منذ سنوات، هل ستقوم القيامة أم ستتفجر ثورة في العراق؟ الحاكم القوي العادل، الواثق من نفسه ومن حب الشعب له، لا يخاف من الأضرحة وساكنيها، ولا يخشى أنصارهم وأفراد عشائرهم، ولكن يبدو أن السيد المالكي ليس من طينة هؤلاء، وما زالت تسيطر عليه عقدة الخوف وتتحكم في قراراته، أليس هو من يطارد السيد طارق الهاشمي، نائب الرئيس العراقي، ويسعى إلى اعتقاله؛ أليس هو من أفرغ العملية السياسية من كل معانيها وأبعد وزراء الكتلة العراقية التي يتزعمها خصمه إياد علاوي، وكل من يختلفون معه في طريقة إدارته للبلاد، ومن منطلقات طائفية في معظم الأحيان؟ أمر غريب جدا لا بد من التوقف عنده، وهو أن أمريكا وحلفاءها، الذين ثبتت أركانهم في قمة السلطة بعد أن ضمنت تدفق النفط، يجمعهم قاسم مشترك وينتمون إلى مدرسة الرعب من ضحاياهم نفسها حتى بعد اغتيالهم والتمثيل بجثثهم في معظم الأحيان تحت عناوين الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. فها هي أمريكا، القوة العظمى في التاريخ، تخشى من جثمان الشيخ أسامة بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة»، وتقرر «دفنه» في البحر، تحت ذريعة منع تحول قبره إلى مزار لأنصاره ومعتنقي فكر تنظيمه الإسلامي المتشدد؛ والأكثر من ذلك أنها ما زالت تفرض الاعتقال القسري على زوجاته الثلاث وأبنائه وبناته، وتمنعهم من الحديث إلى أجهزة الإعلام، خشية كشفهم كيفية اغتياله بما يتناقض مع الرواية الأمريكية المفبركة، وحتى لا يعرف الرأي العام الإسلامي الحقيقة كاملة من كل جوانبها؛ فمن المؤسف أن هذه الإدارة التي تتباهى بهذا الإنجاز تدعي أنها تقود العالم الحر، وأن رسالتها نشر الديمقراطية وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان ومعتقداته، وهناك قانون ثابت فيها ينص على حرية انتقال المعلومات دون عوائق وعدم حجبها عمن يطلبها. لم يكن من قبيل الصدفة أن يحذو حذوها (أي أمريكا) حلفاؤها الجدد في ليبيا في الخوف من الموتى، فقد حرصوا على دفن جثمان الزعيم الليبي معمر القذافي وابنه المعتصم ووزير دفاعه أبو بكر يونس جابر في مكان مجهول في قلب الصحراء الليبية، بعد التمثيل بجثثهم والاعتداء عليها، أو على بعضها، جنسيا، وأقسم من نفذوا عملية الدفن في ليلة ظلماء ألا يكشفوا السر مهما كانت الظروف والضغوط، وكأن هذا الكشف سيهدد مستقبل ليبيا وأمنها ووحدتها الترابية. الحكام الجدد الذين تنصّبهم أمريكا، أو يأتون عبر مشاريعها الديمقراطية المدعومة بآلتها العسكرية الجبارة، نتوقع أن يكونوا مختلفين عمن سبقوهم من الديكتاتوريين من حيث العدالة والتسامح والترفع عن النزعات الثأرية، واحترام حرمة الموت والأموات، مهما كانت جرائمهم، حتى يقدموا نموذجا مشرفا يؤكد لنا أنهم يفتحون صفحة جديدة، بل مناقضة، لكل صفحات من سبقوهم من الديكتاتوريين، ولكن ما نراه حاليا مناقض لذلك تماما، نقولها وفي حلوقنا مرارة. تعالوا نلقي نظرة سريعة على أحوال البلدان التي «حررتها» أو غيرت أنظمتها القوات الأمريكية، سواء بشكل مباشر، مثلما حصل في العراق، أو عن طريق حلف الناتو وحاملات طائراته، مثلما حدث في ليبيا أو في أفغانستانالمحتلة منذ عشر سنوات. يوم السبت، أصدرت منظمة «هيومان رايتس ووتش» الأمريكية تقريرا أكدت فيه أن العراق يعود إلى الاستبداد، وفي طريقه للتحول إلى دولة بوليسية إن لم يكن قد تحول فعلا، حيث يقمع النظام الحالي بقسوة حرية التعبير والتجمع، ويمارس الترهيب واحتجاز الناشطين والصحافيين، ويقيم سجونا سرية يمارس فيها التعذيب كسياسة رسمية. ويوم السبت أيضا، خرج علينا المستشار مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي الليبي، بتصريحات حذر فيها من انزلاق بلاده إلى هاوية بلا قاع، بعد أن اقتحم محتجون مقره في بنغازي وحطموه احتجاجا على فشل الحكومة وتدهور الأوضاع الأمنية وعدم توفير العلاج الكريم للجرحى وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية، ولولا تدخل كتائب أمنية بسرعة لما نجا المستشار من غضبة الثوار الجدد على نظام حكمه ومجموعة المتسلقين الانتهازيين الملتفين حوله، حسب توصيفهم، وقبلها بيومين حدث الشيء نفسه لنائبه عبد الحفيظ غوقة في جامعة بنغازي، حيث طرده الطلاب شر طردة. ليبيا غابة بنادق، وأصبحت مرتعا للميليشيات المتقاتلة، والجماعات الإسلامية المتشددة، ويكفي التذكير بأن تنظيم «القاعدة»، الذي حرص أعضاء المجلس الانتقالي على نفي وجوده في بلادهم، قد اختطف محافظا جزائريا في وضح النهار، واقتاده ومرافقيه إلى الأراضي الليبية للمساومة عليه للإفراج عن معتقلين من أنصاره، أي تنظيم القاعدة، في السجون الجزائرية، ولا نعرف تفاصيل الصفقة التي أدت إلى الإفراج عنه. هذا الكلام لن يعجب الكثيرين، أو بالأحرى سيغضبهم في زمن التضليل والتعمية على الحقائق، تماما مثلما لم يعجب غيرَهم كلامٌ مماثل حول خطورة الاحتلال الأمريكي للعراق والنتائج الاستراتيجية الكارثية التي ستترتب عنه، ولكن الحقيقة لا بد أن تقال، إذا أردنا أن ننهض ببلداننا ونقيم أنظمة ديمقراطية حقيقية تقود إلى النهضة الشاملة التي تتطلع إليها شعوب المنطقة، وتحررنا من الاستعباد الأمريكي. من يخاف من القبور وساكنيها لا يمكن أن يؤسس لنظام ديمقراطي يقوم على المساواة والعدالة والحريات بأشكالها كافة، ويحقق لمواطنيه ما يتطلعون إليه من تقدم ورخاء اقتصادي، وتعليم متقدم، ونظام قضائي مستقل، وشفافية مطلقة، ومحاسبة مدعومة بالقانون والبرلمانات الحرة المنتخبة. لسنا من زوار القبور والأضرحة، والاستثناء الوحيد هو قبر الرسول محمد (ص) وصحابته الكرام، ولم نكن يوما، ولن نكون، معجبين بالديكتاتوريين وأنظمتهم القمعية، ولكننا كنا، وسنظل، ضد مشاريع العربدة والهيمنة الأمريكية التي تريد سلب خيرات بلادنا، وتحويلنا إلى سبي للإسرائيليين، ولهذا وقفنا دائما في الخندق المقابل لهذه المشاريع، ومن يتواطأ معها.