قبل مدة، سمعت حوارا جميلا في إذاعة طنجة أجراه الزميل عبد اللطيف بنيحيى مع رجل بدوي يتكلم من دون عقد. كان ذلك الرجل البدوي مغرما بالحيوانات، وكان يربي كائنات كثيرة، بدءا بالقطط حتى القردة. سأله بنيحيى إن كان لا يزال يربي في منزله ذلك القرد الذي أمضى معه سنوات، فأجابه الرجل بطلاقة لسان وفلسفة عميقة: لا، لقد أطلقته وذهب لحال سبيله لأن العيش مع القرد يختلف مع العيش مع باقي الحيوانات، يعني أن الإنسان يكون أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يُقنع القرد لكي يتحول إلى بشر، أو أن القرد يجب أن يُقنع الإنسان بالتحول إلى حيوان، لذلك أحسست أن القرد بدأ يتغلب علي، وأنه في طريقه لكي يجعلني قردا مثله، لذلك تخليت عنه لأني خفت على نفسي. هذا كلام عميق جدا قاله رجل من الممكن أنه لم يدخل المدرسة، وعلى كل واحد منا أن يتأمله ويفسره بالطريقة التي يراها مناسبة. القرد مكانه الطبيعي في الغابة، مثله مثل باقي الحيوانات، وإذا اقترب من البشر فإنه لا يتخلى أبدا عن حيوانيته، وعلى البشر أن يقرروا، إما أن يروضوه تماما.. أو يبتعدوا عنه. نحن، ومنذ حوالي ستة عقود، نعيش مع قرد اسمه الفساد، هذا القرد كان صغيرا جدا ثم أعطيناه الكثير من الحليب وال«بنان» وكبر شيئا فشيئا فصار عبارة عن شامبانزي، فواصلنا إطعامه والسكوت على حماقاته فكبر أكثر وتحول إلى غوريلا وبات يهددنا في صميم حياتنا. مرت السنوات تلو السنوات وواصلنا تدليل قرد الغوريلا وإطعامه فكبر حجمه كثيرا حتى صار قردا عملاقا يشبه تماما ذلك القرد الهائل الذي ظهر في فيلم «كينغ كونغ». هكذا صارت الأشياء خارج السيطرة، والقرد الذي ربيناه صغيرا وصمتنا عن حماقاته صرنا عبيدا له. الفساد الذي نواجهه اليوم هو ذلك القرد العملاق الذي يدمر أي شيء يقف في طريقه، ولكي يتحدانا أكثر ينظر جيدا في عيوننا ويصرخ وهو يضرب على صدره ويتوعد أي أحد يتحداه، وحتى في حال حصول مواجهة مباشرة معه فإن الخسائر تكون جسيمة، لأن الشعب الذي يجمع الكثير من أزباله تحت الحصير لا بد أن يأتي يوم سيواجه فيه رائحة قاتلة. الفساد يشبه شيئا آخر، إنه يشبه موجة، موجة صغيرة ووديعة تتكسر على الشاطئ بصمت ولا نكاد ننتبه إليها. بعد ذلك تكبر الموجة وتزرع في نفوسنا بعض الخوف، لكننا نستمر في التعايش معها، وأحيانا نستمتع بها ونعتقد أن الموجة لن تكبر أكثر. لكن تلك الموجة الصغيرة تكبر بعيدا عن أعيننا حتى تصيرا «تسونامي» عملاقا وتدمر في طريقها كل شيء وتحصد الناس وهم نيام في منازلهم وتطوح بهم بعيدا. اليوم، إذا أردنا أن نحارب الفساد فعلا، فيجب أن نؤدي ضريبة صمتنا وتخاذلنا لكل السنوات والعقود التي مرت. لقد صمتنا عن فاسدين بدؤوا فسادهم بقبض 20 درهما خارج القانون فصاروا اليوم يقبضون 20 مليارا ثم «يخرّجون» عيونهم فينا وكأننا نحن المذنبون. كثير من المغاربة يعتقدون أنهم غير معنيين بالفساد، تماما مثل الذين يعتقدون أنهم غير معنيين بأمواج تسونامي، لكن الموجة حين تأتي فإنها تحصد الجميع، الذين يعتبرون أنفسهم معنيين بها والذين لا يعتبرون أنفسهم كذلك. الفساد، إذن، مثل كارثة طبيعية لا تفرق بين عجوز ورضيع، بين امرأة حامل وأخرى عاقر، بين الصالح والطالح. خلال هذه المدة التي عشناها في كنف غوريلا الفساد، توقفنا عن إرضاعه لأنه لم يعد بحاجة لحليبنا وأضحى مفترسا، وعوض ذلك تكلف هو بإرضاعنا من حليبه لكي نُطبّع معه ونتحول جميعا إلى نسخة شبيهة بفيلم «كوكب القردة». خلال كل هذه السنوات التي عشنا وتعايشنا فيها مع الفساد، لم تكن المشكلة فقط في كل هذه الثروات التي تم نهبها والميزانيات التي ذابت والمشاريع التي تبخرت والرشاوى التي ازدهرت، بل هناك مشكلة أخرى عويصة، مشكلة نفسية خطيرة جدا، فقد بدأ الكثير من الناس الشرفاء يتساءلون مع أنفسهم: ما جدوى أن أبقى نزيها وحدي، وما فائدة أن أكون وحدي شريفا بينما الفاسدون لا يدخلون السجون، بل هم محط تقدير واحترام الناس؟ ذلك الرجل البدوي قال إنه عاش مع القرد بضع سنوات فقط ثم قرر التخلص منه لأنه أحس بالهزيمة مبكرا. أما نحن فنعيش مع «القرد» منذ حوالي 60 عاما ولا نزال نعتقد أننا آدميون.