حذرت دراسة حديثة من تلوث يتسلل إلى أكثر الأماكن خصوصية وحساسية في جسم الإنسان، فقد كشف فريق علمي إيطالي عن وجود جسيمات البلاستيك الدقيقة، المعروفة باسم "الميكروبلاستيك"، داخل السائل الجريبي للمبيض البشري، ما يثير مخاوف جديدة حول التأثيرات الصحية للبلاستيك على الخصوبة النسائية. تطرقت الدراسة، التي نُشرت في مجلة "علم السموم البيئية وسلامة البيئة"، إلى تحليل 18 عينة من نساء خضعن لعلاج الخصوبة المساعد، وأظهرت النتائج وجود جزيئات بلاستيكية في 14 حالة منها، مع تركيز وصل في بعض العينات إلى 7181 جسيما لكل مليلتر، بحيث يفتح هذا الاكتشاف فصلا جديدا في ملف التلوث بالبلاستيك، الذي بات يطال أجهزة حيوية وحساسة في جسم الإنسان.
وتعد الدراسة امتدادا لتحذيرات متزايدة من خطر التلوث بالبلاستيك الذي لم يعد مقتصرا على البيئة الطبيعية بل تسلل إلى جسم الإنسان بدرجات مقلقة. فقد أثبت في السنوات الأخيرة وجود جزيئات بلاستيكية في الدم، والمشيمة، والبول، وحتى في السائل المنوي، الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية إلى دق ناقوس الخطر بشأن التأثيرات المحتملة لهذا النوع من التلوث على الصحة العامة، لا سيما على القدرة الإنجابية. وفي هذا السياق، تشكل الدراسة الحالية دليلا جديدا على أن المبيض لم يسلم هو الآخر من هذا التلوث المستتر. اعتمد الباحثون في الدراسة الحديثة على تقنية المجهر الإلكتروني الماسح المزود بكاشف الطاقة SEM-EDX وهي تقنية متقدمة تسمح بالكشف عن الجسيمات متناهية الصغر بدقة. وركّزت الدراسة على جزيئات يقل حجمها عن 10 ميكرومتر، وهي الجزيئات التي يُعتقد أنها الأقدر على اختراق الحواجز الخلوية والوصول إلى أنسجة حساسة كالمبيض. وأظهرت العينات التي تم فحصها معدلا وسطيا بلغ 2191 جسيما في كل مليلتر من السائل الجريبي، ما يعكس درجة انتشار هذه الجسيمات داخل الجسم البشري دون إدراك مباشر من الأشخاص. وفقا للفريق العلمي، ارتبط وجود الميكروبلاستيك في السائل الجريبي بزيادة مستويات الهرمون المنشط للجريب FSH وهو مؤشر قد يعكس اضطرابات في الوظيفة الهرمونية للمبيض، أو يشير إلى علامات أولية لقصور في المخزون المبيضي. وعلى الرغم من عدم وجود علاقة مباشرة واضحة مع مؤشرات مثل عمر المريضة أو مؤشر كتلة الجسم أو هرمون الإستروجين، فإن الارتباط الملاحظ مع FSH يثير تساؤلات حول الآليات البيولوجية التي قد تتأثر بوجود هذه الجسيمات داخل البيئة الميكروية المحيطة بالبويضات. تشير الفرضية العلمية الأكثر ترجيحا إلى أن هذه الجزيئات تدخل الجسم البشري عبر الطعام والماء والهواء، ومن ثم تنتقل عبر الدورة الدموية لتصل إلى مختلف الأعضاء، بما في ذلك المبايض. ويعتقد الباحثون أن الحاجز الدموي الجريبي في المبيض أقل صرامة من الحواجز الأخرى كالحاجز الدموي الدماغي أو الحاجز الدموي الخصوي، ما قد يفسر قدرة الجزيئات الدقيقة على التسلل إلى السائل الجريبي الذي يغذي البويضات أثناء نضوجها. من المعروف أن السائل الجريبي يلعب دورا أساسيا في حماية البويضات وتوفير بيئة ملائمة لنموها، ويُعتقد أن أي تغيير في مكوناته قد يؤثر على جودة البويضات واحتمالات الإخصاب والإنجاب. لذا، فإن وجود الميكروبلاستيك في هذا السائل قد يمثل تهديدا صامتا لصحة المرأة الإنجابية، خاصة أن هذا السائل يعتبر بيئة شديدة الحساسية لأي تغيرات كيميائية أو بيولوجية. لم تكن هذه النتائج مفاجئة تماما في الأوساط العلمية، إذ سبقتها دراسات على الحيوانات أظهرت أن جزيئات البلاستيك الدقيقة يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات هرمونية، وتلف في الخلايا التناسلية، بل وقد تؤثر سلبا على تطور الأجنة. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسات أجريت على إناث الفئران أن التعرض المزمن لهذه الجزيئات يؤدي إلى انخفاض في جودة البويضات، وتراجع معدلات الإخصاب، وتلف في الميتوكوندريا، بل وحتى زيادة في معدلات الإجهاد التأكسدي داخل المبايض. ورغم أن الدراسة الحالية لم تُظهر علاقة مباشرة بين تركيز الميكروبلاستيك وبين نسب الإخصاب أو الحمل أو الإجهاض، فإن الباحثين يرون أن عدد المشاركات في الدراسة لا يزال محدودا للغاية لتأكيد أو نفي هذه العلاقة بشكل حاسم. إلا أن النتائج الأولية كافية لتسليط الضوء على هذه المشكلة الناشئة، وفتح باب البحث العلمي الموسع لفهم آثار هذا التلوث على الخصوبة بشكل أعمق. ما يزيد من خطورة المسألة أن هذه الجزيئات لا تأتي فقط من مصادر صناعية بعيدة، بل تدخل حياتنا اليومية عبر قنوات متعددة؛ من قناني المياه البلاستيكية، إلى مستحضرات التجميل، إلى الأطعمة المعلبة والمغلفة بالبلاستيك. ويشير الباحثون إلى أن معظم النساء اللواتي شاركن في الدراسة أقررن باستخدام مستمر لعبوات المياه والأغذية البلاستيكية، ما يعكس نمط استهلاك شائع عالميا. ولا تتوقف مخاطر الميكروبلاستيك عند حدود الأعضاء التناسلية فحسب، بل تمتد إلى التأثير على الجهاز العصبي، والكبد، والكلى، وحتى على نمو الأجنة، بحسب ما أثبتته دراسات أخرى. بعض الجزيئات ترتبط بمواد كيميائية سامة كالديوكسينات والبيسفينول، وتتصرف كأحصنة طروادة تنقل الملوثات الأخرى إلى داخل الجسم. ووفقا لتقارير علمية، فإن التراكم التراكمي لهذه الجسيمات في الجسم يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات تراكمية على المدى الطويل، بعضها غير قابل للعكس.