عرفت السياسة تقريبا في اللحظة التي فتحت فيها عيني على الحياة في يوليوز 1945. ففي السنة الرابعة أو الخامسة من العمر تعرض والدي للملاحقة من طرف الفرنسيين بوصفه مناضلا من أجل الاستقلال. كان بيتنا، الواقع في مدينة قرمبالية، قد استخدم مخبأ للأسلحة، وكانت عادتي أن ألعب بالمسدسات الموجودة به. ومرة دخلت علي والدتي مرعوبة وأنا أهم بوضع رصاصة داخل واحد منها، من دون أن أنجح في ذلك لحسن الحظ، فتم نقل الأسلحة إلى مخبأ آخر. أتذكر أيضا، وأنا في السابعة أو الثامنة من العمر، أن والدي أرسلني لشراء السجائر له، فخرجت أسير بين دبابات الجنود الفرنسيين المنتشرين في الشارع. بعد الاستقلال، عام 1957، غادر والدي الذي كان مقربا من صالح يوسف زعيم الحركة الوطنية التونسية الذي أصبح منافسا لبورقيبة البلاد. لقد اشتعلت المعارك بين الأصدقاء وأعلنت الحرب بين «البورقيبيين» و«اليوسفيين»، وكان صالح بن يوسف قد اغتيل قبل ذلك عام1961. وذات مساء قرر والدي الهرب من تونس عبر الجزائر التي كانت تمزقها الحرب ولجأ إلى المغرب، حيث بقي هناك إلى حين وفاته عام 1988. في اليوم التالي لفراره جاء رجال الأمن إلى بيتنا واستجوبوني. كان عمري وقتها إحدى عشرة سنة وكان ذلك أول استجواب لي من طرف الأمن، ولم أكن أعرف بأن ذلك الاستجواب سيكون الأول وسط سلسلة طويلة من الاستجوابات. بقيت أعيش في بيتنا الذي كان يسمى «بيت الخائن» حتى الخامسة عشر من عمري. ففي أعين البعض كان والدي خائنا، بينما حارب طيلة حياته من أجل الاستقلال، البندقية في كف والقلم في كف آخر. وفي عام 1961 اضطرت العائلة جميعها إلى الهجرة خارج تونس، لأننا لم نعد نملك ما نعول به أنفسنا. كنا عشر أخوات وإخوة ولم يكن والدي يملك ما يكفي من المال لكي يرسل لنا. وكان أعمامي يساعدوننا لكن ذلك لم يكن ليستمر طويلا. غير أننا ما كدنا نصل إلى المغرب حتى تحسنت حالتنا، فقد نجح والدي في الحصول على عمل في سلك المحاماة فارتقت وضعيتنا المادية بشكل جيد. كان والدي ينحدر من مدينة دوز في جنوبتونس، تلك المدينة التي لم تكن في الخمسينيات سوى بلدة بائسة تعيش في أحضان القرون الوسطى، بدون ماء ولا كهرباء، ومحاطة بكثبان من الرمل(أصبحت فيما بعد مدينة صغيرة تعيش في رخاء بفضل السياحة والزراعة). وقد استطاع والدي مغادرة تلك البلدة للدراسة في جامع الزيتونة، تلك الجامعة التقليدية، وتخرج منها وبصحبته شهادة تسمح له بالعمل وكيلا، وهو نوع من المحاماة يخول لصاحبه العمل أمام المحاكم الشرعية في قضايا الزواج والطلاق والإراثة، وكان هذا الصنف من المحاكم قد تم إلغاؤه في تونس بعد الاستقلال عام 1956، لكن المغرب ظل يحتفظ بازدواجية القضاء، الديني والمدني، وهكذا استطاع والدي العمل في المغرب كعدل، وقد توفي رجلا ثريا، لكنه أيضا توفي محبطا، لأن ما كان يريده دائما ولم يحصل عليه هو أن يعود إلى تونس. عند وصولنا إلى المغرب سجلني والدي في الثانوية الفرنسية بطنجة. وقد كنت تلميذا مجدا واستطعت الحصول على المرتبة الأولى في الامتحانات العامة سنة 1963، وكان ذلك أول سفر لي إلى باريس لنيل الجائزة التي كانت مرفقة أيضا بمنحة تسمح لي بإمكانية متابعة دروسي في فرنسا. كان والدي يريدني أن أصبح طبيبا، ولكن وفاة شقيقتي هو الذي شجعني أكثر على المضي في هذا الطريق. في مدينة دوز لم يكن هناك أي اختصاصي في عمليات التوليد، لذلك كان يجب على أي امرأة تريد الوضع أن تنتقل إلى غابس، على بعد 120 كيلومترا. وعندما أرادت أختي أن تضع ووجدوا أن العملية صعبة أرادوا نقلها إلى غابس على متن سيارة شحن، لأنه لم يكن هناك حتى سيارة إسعاف، وخلال الطريق نزفت كثيرا وتوفيت قبل وصولها إلى المستشفى. في ذلك اليوم قررت أن أصبح طبيبا.