تسحر الكرة الناس، وأحيانا تفتنهم أكثر من اللازم، لذلك تنشب المعارك وتندلع الحروب ويسقط الكثير من الضحايا بسبب قطعة جلد منفوخة بالهواء، لكنها في الحقيقة غير منفوخة بالهواء فقط، بل بكثير من المال والمصالح والاقتصاد والسياسة والأحقاد والمشاعر الوطنية. قبل أيام، وفي مساء مباراة المنتخب الجزائري ضد المنتخب الألماني، كان واضحا أن الناس الذين ولجوا المساجد لأداء صلاة التراويح كانوا أقل من المعتاد. هنا التقى الدين بالكرة فربحت الكرة، بل إن عددا من علماء الدين الجزائريين أفتوا بجواز تأجيل صلاة العشاء إلى ما بعد المباراة، وتبعهم في ذلك العالم العلامة والشيخ الفهامة عبد الباري بن الصديق، لأن مباراة الجزائر كانت مباراة مغربية أيضا، والناس انتظروا صفارة انطلاق المباراة أكثر مما انتظروا آذان المغرب. مونديال البرازيل، كغيره من المونديالات السابقة واللاحقة، لم يعد مجرد فرجة واستمتاع، بل هو سوق عالمي عملاق يدر أرقاما خرافية من المال على المتحكمين فيه. وتلك الكرة الصغيرة المنفوخة بالهواء داخل الملعب ليست إلا جبل الجليد الظاهر، بينما اللعبة الحقيقية مدفونة تحت الملعب ولا يكاد يراها أحد. قبيل مونديال البرازيل اكتشف الناس أن البرازيليين ليسوا كلهم مجنونين بالكرة كما كان يُعتقد، بل هو بلد فيه الكثير من الفقر والبؤس والجريمة والمخدرات والمشاكل الاجتماعية. لذلك تشبه الكرة ذلك السور العالي الذي يحيط بمدن القصدير حتى لا يراها الآخرون، ولذلك يسمع الناس كثيرا عن بلد البرازيل السعيد، الغارق في رقصة «السامبا» ومتعة الكرة، ولذلك أيضا خرج ملايين البرازيليين إلى الشوارع يهتفون بسقوط المونديال. في مونديال البرازيل أو غيره من المونديالات يختلط كل شيء. فعندما ظهر أن لاعب منتخب الأورغواي، لويس سواريث، يهوى عض أكتاف اللاعبين، وكأنه دراكولا حقيقي، انتفض رئيس الأورغواي بنفسه ووجه شتائم نابية لأعضاء الفيفا بسبب العقوبة التي طالت سواريث. هكذا تصبح الكرة عنوان الكرامة الوطنية، خصوصا في أمريكا اللاتينية، حيث نشبت حرب طاحنة بين الهندوراس والسلفادور سنة 1969 بسبب مباراة في الكرة. العرب، من جانبهم، ورغم أنهم بقوا متخلفين في الكرة وفي كل مجالات الحياة، فقد وظفوا الكرة في السياسة والمال أكثر مما فعله غيرهم. وها هي فضيحة مونديال قطر تزكم الأنوف، ففي كل يوم تظهر معطيات جديدة تقول إن القطريين دفعوا الكثير من أموالهم وسمعتهم من أجل تنظيم مونديال لا يقدم ولا يؤخر، مع أن الواقع يقول إن القطريين ليسوا وحدهم من فعل ذلك، لكن لا أحد يفهم لماذا يبدو ضروريا أن يستضيف بلد مثل قطر أو غيرها مونديالا كبيرا، في وقت تبقى الملاعب القطرية في المباريات العادية فارغة على عروشها، مع أن الدوري القطري يمتلئ بكل أنواع اللاعبين المشاهير، الذين توقفت آلتهم عن الدوران في ملاعب الكرة الشهيرة، فجاؤوا إلى قطر بحثا عن تقاعد مريح. وقبل أن تنجح قطر في كسب تنظيم مونديال كان يبدو مستحيلا، كان المغرب قد سبقها مرارا إلى هذا الحلم، وكان الملك الراحل، الحسن الثاني، مختصا في طلب الكؤوس لشعبه، كؤوس المونديال، حتى يدوخ أكثر، وفي النهاية لم يأت المونديال أبدا، وبقي المغرب هو المغرب، غارقا في مثالب الفقر والأمية والتخلف من كل لون. العرب يتشابهون كثيرا في تعاملهم مع المونديال. فعندما حلم منتخب الجزائر بالتغلب على المنتخب الألماني مساء الاثنين الماضي، تذكر المغاربة الذين كانوا يتابعون المباراة تلك المباراة الحاسمة، التي جمعت المنتخب المغربي والمنتخب الألماني في مونديال 1986، والتي عاند فيها المغاربة طويلا، ووقف فيها الحارس، بادو الزاكي، مثل صخرة مرعبة أمام الهجوم الألماني، لكن في النهاية لا بد أن يحدث شيء ما، لذلك دخلت كرة غبية مرمى الزاكي وانتهى كل شيء. وفي مباراة الجزائروألمانيا حدث نفس الشيء، إذ عاند الجزائريون طويلا، ووقف الحارس، رايس مبولحي، صخرة حقيقية في وجه المهاجمين الألمان، ثم كان لا بد أن يحدث شيء ما، وانتصرت ألمانيا في النهاية. منذ أن ظهرت منافسات كأس العالم لم تحدث أي معجزة، لا للعرب ولا للأفارقة، فدائما تصل الفرق المتوقعة إلى النهاية، ودائما ينهزم العرب والأفارقة لسبب ما، وحتى عندما فازت الجزائر على ألمانيا في مونديال 1982، فإن ألمانيا هي التي تأهلت بعد مؤامرة مباراة ألمانيا والنمسا. المونديال، مثل كل الملتقيات الكبرى في العالم، ولد للأقوياء فقط، وعلى الآخرين أن يؤثثوا المكان، تماما كما هو حال الأممالمتحدة ومجموعة الثمانية وكل المنتديات الاقتصادية العظمى. المونديال هو أكبر بكثير من لعبة كرة.. إنه لعبة أمم.