إن أوجز ما نقوله عن الإمام أبي حنيفة النعمان أنه بحر العلوم الذي لا تكدره الدلاء، فبالعلم اشتهر وبإقرائه وتقرير دقيق مسائله وجليلها عرف بين الناس. هو إمام المذهب الحنفي وواضع أصوله، وهو فوق ذلك رجل المبادئ والمواقف، لا يتزحزح عن رأي يرى صحته حتى لو سلطوا السيوف على رقبته، ولو شئنا الاستفاضة في الحديث عن علم الرجل لحاد بنا ذلك عن القصد- إذ الغاية هي الوقوف عند موقفه من الظلم والاستبداد- لكن سنكتفي بنقل قول الشافعي فيه، ففيه بيان لفضله وقدره. يقول الشافعي: «من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة». عاش أبو حنيفة اثنين وخمسين عاما في ظل الحكم الأموي وثمانية عشر عاما في ظل الحكم العباسي، وقد كان في الدولتين معا مثالا يحتذى للفقيه المستقل، يحلل القضايا المعروضة عليه انطلاقا من زاده العلمي والمنهجي لا من زاوية مصلحة خليفة أو أمير أو صاحب سلطان، وقد جر عليه ذلك الكثير من المتاعب. لم يكن أبو حنيفة راضيا عن جور بعض سلاطين بني أمية، وقد عاصر الدعوة العباسية في بدايتها ولعله مال ككثير من الناس إلى العباسيين فتمنى ككل الذين ضاقوا ذرعا بظلم الأمويين أن يتحقق على أيديهم الخلاص، غير أن خيبة أمله فيهم ستكون كبيرة. ولأن وظيفة العالم أرقى وأسمى من وظائف أمراء الثورات وأولئك الذين يحرضون عليها ويتعصبون لها في سيئاتها وحسناتها، فإن أبا حنيفة لم يساند العباسيين حين رآهم يحملون الناس على بيعتهم قسرا، ولم يساندهم في بطشهم بمخالفيهم، إذ استعاد دوره في تقويم أخطائهم ونقد الانحرافات التي اعترت مسارهم كاملا غير منقوص. وكان أبو حنيفة إذا سئل عن موقفه من العباسيين في زمن أبي جعفر المنصور أجاب: «والله لو طلبوا مني عد آجر مسجد هموا ببنائه ما فعلت». وقد بلغت مقالته الملك فأسرها في نفسه وراح يبحث عن طريقة يخرس بها صوت أبي حنيفة، فهو يعلم أكثر من غيره أن ألسنة العلماء الغضاب أعظم أثرا من السيوف العضاب. لم يلجأ المنصور إلى أسلوب الترهيب مع أبي حنيفة فهو يعرف قدره ومكانته، بل لجأ إلى أسلوب أخطر من الترهيب في بداية الأمر، إذ أرسل إليه عشرة آلاف درهم وجارية، لكنه رفضهما. وحاول الوزير عبد الملك بن حميد ثنيه عن موقفه وتنبيهه إلى غاية الملك من تلك الهدية فقال له: «أنشدك الله إن أمير المؤمنين يطلب عليك علة، فإن لم تقبل صدق على نفسك ما ظن بك». لقد كان خيارا صعبا فالملك دفعه إلى أحد أمرين: أن يقبل الهدية فيسقط في نظر العامة وتسقط هيبته في النفوس، أو أن يرفضها فيظهر بمظهر الرجل الذي يقابل الإحسان بالإساءة. لكن أبا حنيفة كان له رأي آخر. إذ رأى أن يلتزم بما يراه صوابا وأن يؤدي وظيفة العالم بأمانة، فاستمر على جرأته في مواقفه ينتقد جور قضاة العباسيين ويبين موقف الشرع من ظلم ولاتهم. وقد حاول الملك إحراجه مرة أخرى فأرسل إليه سائلا: «لماذا لا تقبل أعطياتي؟» فكان جواب أبي حنيفة: «ما وصلني أمير المؤمنين في ماله بشيء فرفضته، ولو وصلني بذلك لقبلته. إنما وصلني أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين ولا حق لي في بيت مالهم». هنا سيلجأ المنصور إلى أسلوب آخر أكثر دهاء. فإن كان أبو حنيفة قد اعترض على أقضية ابن أبي ليلى غير ما مرة، وبين أنها تخالف نصوص الشرع فليس غيره أكفأ لمنصب القضاء، وعلماء الأمة وعامتها يشهدون بذلك، فإن قبل حسم الخلاف وصار ركنا من أركان الدولة، وإن رفض نقمت عليه العامة وانتقده العلماء. لكن أبا حنيفة سيمتنع مرة أخرى، وسيكون مبرر امتناعه أنه «لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نفس يحكم بها عليك وعلى ولدك وقوادك، وليست تلك النفس لي. وإنك لتدعوني فما ترجع نفسي حتى أفارقك». بهذا الكلام رد أبو حنيفة طلب الملك، فلم يقبل الملك عذره، وصاح في وجهه: «كذبت إنك تصلح»، فكان رد أبي حنيفة: «قد حكمت على نفسك. كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك كذابا؟» هنا ستبدأ محنة أبي حنيفة. يقول داوود بن راشد الواسطي: «كنت شاهدا حين عذب الإمام ... كان يخرج كل مرة فيضرب عشرة أسواط حتى ضرب عشرة ومائة سوط. وكان يقال له اقبل القضاء فيقول لا أصلح. فلما أبى دسوا عليه السم فقتلوه». هذه الرواية التي نقلها صاحب «تاريخ بغداد» (الخطيب البغدادي) توضح أن الإمام مات مسموما، وأن الملك أوعز إلى أعوانه أن يضعوا حدا لحياته بطريقة لا تثير أي ضجة وسط العامة وطلبة العلم الذين كانوا ينهلون من معارف أبي حنيفة. ومهما يكن من شأن ضعف هذه الرواية أو صحتها فإن معظم الروايات الأخرى ذهبت إلى أن الملك أمر أبا حنيفة بلزوم بيته بعد محنته، وأنه منعه من الفتوى والجلوس إلى الناس والتدريس، فكانت تلك حالته إلى أن توفي. فسواء دسوا له السم أو وضعوه في الإقامة الجبرية إلى أن مات فقد أخرسوا صوته مباشرة بعد رفضه منصب القضاء، مما يؤكد أن المنصب الذي عرض عليه لم يكن غير وسيلة أخرى لتكميم فمه. يوسف الحلوي