أخنوش: ما يحدث في غ زة مأس اة إنسانية والمغرب يرفض محاولات التهجير القسري    شركة إسبانية لصناعة الطائرات تستقر بالدار البيضاء    صندوق الإيداع والتدبير يصرف المعاشات بشكل مسبق بمناسبة عيد الأضحى    المغرب يرحب باعتماد مجلس الأمن قرار وقف إطلاق النار في غزة ويعتبره خطوة إيجابية    بعد الإعلان عن انتخابات برلمانية مبكرة.. تأجيل مرتقب لزيارة رئيس وزراء فرنسا إلى المغرب    مصرع نائب رئيس مالاوي في حادث تحطم طائرة على غرار الرئيس الإيراني    أخبار الساحة    الملك محمد السادس يصل إلى تطوان حيث يقضي عطلة الصيف في المضيق    سلوفينيا تنضم لأزيد من مائة دولة تدعم مبادرة المغرب للحكم الذاتي بالصحراء    أبرزهم أيت منا.. 5 أسماء تتنافس على رئاسة نادي الوداد الرياضي (صور)    أخنوش: العيش في غزة جحيم لا يطاق.. وما يحدث مأساة حقيقية منقطعة النظير    رفيقي يكتب: أي أساس فقهي وقانوني لإلزام نزلاء المؤسسات السياحية بالإدلاء بعقود الزواج؟ (2/3)    توقعات أحوال الطقس غدا الأربعاء    يورو 2024.. الإنجليز يخوضون المنافسة بطموح تحقيق أول لقب    شركة "آبل" تطلق نظاما جديدا للتشغيل في أجهزتها قائما على الذكاء الاصطناعي التوليدي    وزارة العدل تتهيأ لتطبيق برنامج رقمي يساعد القضاة على تحرير الأحكام في سياق وصل الذكاء الاصطناعي بالمحاكم    من إصدارات دار الشعر بمراكش الديوان الخامس من سلسلة "إشراقات شعرية" للشعراء المتوجين بجائزة "أحسن قصيدة"    القناة الثقافية تحاور الناقدة والروائية المصرية شيرين أبو النجا    الموت يحزن سعد لمجرد    الفنانة التشكيلية كوثر بوسحابي.. : أميرة تحكي قصة الإبداع من خلال لوحاتها    بوطازوت وداداس يجتمعان من جديد في المسلسل المغربي "أنا وياك"    الفنان عادل شهير يطرح كليب «دابزنا» من فرنسا    مكتب السكك الحديدية يرفع عدد مقاعد "البراق" لمواكبة اسفار عيد الاضحى    السعودية تحظر العمل تحت أشعة الشمس اعتبارا من السبت القادم    جثة هامدة تستنفر أمن طنجة    انتحار فتاة بسبب "الباك" يسائل دور المدرسة والأسرة في المواكبة النفسية للتلاميذ    المغرب يلتزم بإدماج التقنيات النووية السليمة في مختلف القطاعات    الحكومة تكشف خطتها لتسريع الإقلاع الاقتصادي وخلق فرص شغل قارة للمغاربة    وهبي يقترح "وساطة مستقلة" لإبعاد نزاعات الزواج والشغل عن القضاء    "شغيلة التلفزة" تنادي بزيادة في الأجور    بمعنويات عالية.. أسود الأطلس يواجهون الكونغو وهدفهم تحقيق النقاط الثلاث    تصفيات المونديال.. المغرب يواجه الكونغو اليوم الثلاثاء وعينه على تعزيز صدارة المجموعة الخامسة    " فخورون، معلقون وعنيدون بعض الشيء"، عن منطقة كتامة والحشيش وأشياء أخرى..فيلم بالمسابقة الرسمية لفيدادوك    مؤسسة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش تنظم ورشة لتلقين مبادئ النقد السينمائي وتجويده، لفائدة الصحفيين    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    أطباء: مليون ونصف مصاب بالسكري لا تصلهم علاجات وزارة الصحة والتغطية الصحية لا تزال ضعيفة    ارتفاع درجات الحرارة من أكبر التحديات في موسم حج هذا العام (وزارة الصحة السعودية)    ميناء طنجة المتوسط يترقب رقما قياسيا جديدا بمعالجة 9 ملايين حاوية في 2024    "نقاش نووي" يجمع المغرب وأمريكا    خبراء يوصون باستخدام دواء "دونانيماب" ضد ألزهايمر    العصبة تعلن عن برنامج الجولة الأخيرة من بطولة القسم الثاني    كيوسك الثلاثاء | ثلث الشباب المغاربة يفكرون في الهجرة    الداكي: النيابات العامة استقبلت خلال سنة 2023 ما مجموعه 35 ألف و355 طفلا    اجتماع يُنهي أزمة فريق المغرب التطواني    دراسة علمية أمريكية: النوم بشكل أفضل يقلل الشعور بالوحدة    أسعار النفط ترتفع بدعم من آمال زيادة الطلب على الوقود خلال الصيف    الحكومة التركية تدرس ضريبة جديدة    الرسم البياني والتكرار الميداني لضبط الشعور في الإسلام    اسعار الاضاحي تفسد فرحة العيد وأسر تفكر في الاستغناء عن شعيرة الاضحية    الركراكي يتقدم بطلب خاص للصحافة قبل مواجهة الكونغو    الحج ب "التهريب": "اضطررنا إلى التحايل لأداء الفريضة"    مديرية الحموشي توضح بشأن فيديو "ابتزاز شرطي لمبحوث عنه"    ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي للأحداث    سيدة أعمال تعلن ترشحها لانتخابات الرئاسة الجزائرية    «شهادة أداء مناسك الحج» ثانية للحجاج المغاربة، وحواجز ومداهمات وعقوبات على المخالفين    الوفد الرسمي المغربي للحج يحط بجدة    أزيد من 300 حاج مغربي استفادوا من مبادرة "طريق مكة" إلى غاية 9 يونيو الجاري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا استفاد هؤلاء من «كعكة الاستقلال»
من بينهم الأمير مولاي الحسن وحزب الاستقلال بتياريه وبعض قادة جيش التحرير
نشر في المساء يوم 01 - 02 - 2015

لا يزال استقلال المغرب، رغم كل هذه السنوات التي تراكمت، يثير شهية النبش في سيرته بالنظر إلى أن عددا من حلقات هذا الاستقلال، وقبله، لا تزال مفقودة. ولا غرابة أن تكشف المعطيات كيف استفادت عدة أطراف من استقلال، سيعترف الكثيرون أنه كان ناقصا وغير مكتمل بالنظر لما حملته معاهدة اكس ليبان، التي قادها بعض زعماء حزب الاستقلال بتوافق مع السلطان محمد الخامس، من شروط كانت تعني أن المغرب وقع على رفع الحماية دون أن يستفيد كلية من الاستقلال النهائي. بدليل أن مناطق عدة من البلد ظلت تحت سلطة المستعمر خصوصا في الشمال والجنوب. وهي المناطق التي لا يزال مغرب اليوم يصارع من أجل استعادتها.
من استفاد من كعكة الاستقلال؟
هذا هو السؤال الذي يقض المضاجع. لكن ليس سرا اليوم أن نجد أن من بين أولئك المستفيدين يوجد حزب الاستقلال، بتياريه التقليدي والعصري. ويوجد الأمير مولاي الحسن، الذي ظل يتطلع للحكم حتى على عهد والده. ويوجد بعض أعضاء جيش التحرير، سواء أولئك الذين قبلوا بحل هذه المنظمة، أو الذين رفضوا ذلك. والحصيلة، هي أن الكعكة التي ظلت توزع بين أطراف عدة، هي التي ضيعت على مغرب الاستقلال الكثير من الوقت والجهد.
لكن قبل ذلك، لا بد أن نذكر أن التوقيع على عهد الحماية الفرنسية كان هو الآخر لأسباب مباشرة، كانت في مقدمتها ما عرف ب»البيعة الحفيظية»، التي لم يلتزم المولى عبد الحفيظ بشروطها، والتي كان من بينها عدم الخضوع لما فرضه مؤتمر الجزيرة الخضراء في 1906، والذي اتخذ عدة قرارات منها المساواة الاقتصادية بين الدول العربية في المغرب، وإنشاء شرطة فرنسية وإسبانية في الموانئ المغربية، وإحداث بنك مخزني تحت إشراف دولي. والحصيلة هي أن علماء فاس سيقررون عزل السلطان قبل أن يوقع في الثلاثين من مارس من سنة 1912 على عقد الحماية. حيث تردد أنه باع عرشه ببضعة آلاف. لذلك فالمستفيدون من كعكة الاستقلال، ساروا على نهج المستفيدين من كعكة الحماية أيضا.
لقد كتب العلامة ابن عبد الله السليماني في كتابه «اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب» عن هذه البيعة أنه لما «بويع بالخلافة هذا السلطان» المولى عبد الحفيظ» وهو بمدينة مراكش، والأحوال غاية في الاضطراب، وقد أحاط بالمغرب من المصائب العجب العجاب، وبيت المال أنقى من الكف والمشاكل السياسية زاحفة على الوطن بالصف، والتدخل الأورباوي بلغ حد النصاب وإنما يتذكر أولوا الألباب.»
أما الزعيم الاستقلالي علال الفاسي، فيعتبر أن البيعة الحفيظية التي كتبها بفاس وطنيون ممتازون، ووضع صيغتها السيد أحمد بن المواز، أحد رجال الفكر إذ ذاك، ميثاقا قوميا ودستوريا من الطراز الأول. حيث اشترط علماء فاس على السلطان الجديد جملة من الشروط منها أن يعمل جهده في استرجاع الجهات المقتطعة من الحدود المغربية، وأن يبادر بطرد الجنس المحتل من الأماكن التي احتلها، وأن يسعى جهده لإلغاء معاهدة الجزيرة لأنه لم يرجع فيها إلى الشعب. كما عليه أن يعمل على إلغاء الامتيازات الأجنبية، وألا يستشير الأجانب في شؤون الأمة، وألا يبرم مع الأجانب عقودا سلمية أو تجارية إلا بعد استشارة الأمة. ويعلق علال الفاسي على هذه الشروط بالقول: «وتعتبر هذه البيعة عقدا بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية إلى ملكية مقيدة دستورية».
لقد بلغت الأزمة ذروتها مع العصيان القبلي سنة 1911، حيث كثفت القبائل التي ساءت علاقتها بالمخزن من اجتماعاتها، وخاصة القبائل المجاورة لفاس ومكناس، ولعل أهم اجتماع هو ذلك الذي انعقد في 22 فبراير 1911، بقرية أكوراي، وقد ضم وفودا من بني مطير وجروان وأزمور وبني مجيد وزعير، وقبائل أخرى من الغرب مثل الشراردة وبني حسن وبعض الشرفاء.
وقد اتفقت هذه القبائل على مواجهة المخزن، وقتل الباشا الكلاوي واختطاف السلطان، خلال احتفالات المولد النبوي. لم يقو السلطان على الوفاء بما تعهد به، بعد أن تراجعت فرنسا عن الكثير من المطالب التي كانت موضوع لائحة تقدم بها مولاي الحفيظ، بناء على مفاوضات. لكن الدولة الفرنسية ضمنت للسلطان، بعد مفاوضات طويلة وعسيرة، وضعية لائقة بشخصه، حيث وضعت تحت تصرفه 500 ألف فرنك، وهو المقدار المالي الذي اعتبره البعض في حينه بمثابة الشيك الذي دفع لسلطان الجهاد مقابل توقيعه على عقد الحماية، الشيء الذي نفاه المدافعون عنه حينما وضحوا أن المبلغ يدخل ضمن تنفيذ ما اتفق عليه من «إعطاء تسهيلات للسلطان لأداء ما تحمله جنابه بالخصوص من صوائر المحلات السعيدة أثناء الثورة».
وفي نفس الآن فوتت له الدولة الفرنسية بعض الأملاك في مراكش كالمامونية، أوغاطيم، وفي فاس عين الشيخ. بالإضافة إلى مجموعة من الشروط التي اشترط على أن تدون في عقد مكتوب، وتضمن مستقبل عائلته وفروعه، بما فيها ضمان معاش مناسب له، وحقه في التنازل عن العرش وتعيين وريث له.
«إن الذي يملك القوة يريد في الغالب أن يمارس السلطة من دون أن يقتسمها مع غيره». هذا ما كتبه مولاي عبد الحفيظ في «نفائح الأزهار في أطايب الأشعار» وهو يتنازل عن العرش، في سابقة من نوعها في تاريخ السلاطين العلويين، فقد قال لأحد الصحافيين الذين سألوه بعد التوقيع على وثيقة الحماية عن الأسباب التي جعلته يتخذ هذا القرار: «إنني لم أكن ولن أكون سلطان الحماية، إن الأمر سيكون مخالفا لسيرتي ولحاجتي للحرية والاستقلال. إنني لا أستطيع أن أنسى، وشعبي كذلك يتذكر أنني لم أتول العرش، ولم أبق فيه إلا لكوني قمت في مراكش مدافعا عن بلدي ضد كل تدخل أجنبي. إنني لا أستطيع أن أقبل العمل ضد ضميري، وألتمس بنفسي وضع القيد الذي ثرت ضده في رجلي». في هذا الخاص تذكير ببعض الأحداث السياسية التي رافقت الإعلان عن الاستقلال، وكيف استفاد الكثيرون من كعكته.
الأمير مولاي الحسن يتطلع إلى الحكم مباشرة بعد الاستقلال
لم يكن يعتبر نفسه مجرد ولي للعهد بل نائبا للملك له رؤيته في تدبير شأن الاستقلال والاستفادة من خيراته
لم يكن الأمير مولاي الحسن يعتبر نفسه مجرد ولي للعهد. لقد ظل يشتغل إلى جانب والده سواء في المنفى أو بعد الحصول على الاستقلال، على أساس أنه هو نائب الملك الذي يجب أن تكون له رؤيته في تدبير شأن الاستقلال والاستفادة من خيراته، لذلك لم يكن متحمسا لحكومة عبد الله إبراهيم، التي وجد أنها لن تخدم مصالحه ولن تسهل مهمته في الوصول إلى الحكم، حيث سيقود حربا شرسة لإسقاطها دون أن تكمل سنتين من عمرها.
لقد حكى أحمد رضى اكديرة، مستشار الملك الراحل وصديقه، في كتاب «مغرب الحسن الثاني» بأن الأمير مولاي الحسن اعتبر تأسيس حكومة يسار برئاسة عبد الله إبراهيم تولى فيها بوعبيد منصب نائب رئيس الوزراء، خطرا».
وفي منتصف سنوات الثمانينيات سيزيد صديق الملك الراحل ومدير ديوانه في الشرح أن «الخطر كان يكمن في حكومة عبد الله إبراهيم»، على اعتبار أن الأمر يتعلق بحدث من أحداث عالم الخمسينيات والستينيات الذي كان خاضعا بقوة لتيار اليسار. «وبسرعة أظهرت التدابير الأولى لحكومة اليسار، على الصعيد الاقتصادي وكذا السياسي، نوايا أصحاب هذه التدابير وحوافزهم، مما جعل ولي العهد الأمير مولاي الحسن يشكل مجموعة قوية حوله، تتكون من الشخصيات الأكثر تمثيلية، وهي عناصر منتمية أو غير منتمية للأحزاب الأخرى. هكذا نظمت معارضة حقيقية أدت إلى سقوط حكومة عبد الله إبراهيم».
فما كان يعتبره اكديرة قرارات خطيرة على مستوى التدبير الاقتصادي والمالي لحكومة عبد الله إبراهيم، هو ما قاله عنه محمد الخامس في خطاب تدشين بنك المغرب يوم الخميس 2 يوليوز1959 «ويطيب لنا بهذه المناسبة أن ننوه بوزير اقتصادنا عبد الرحيم بوعبيد الذي ما فتئ يبرهن على كفاءته ومقدرته منذ أن أوليناه ثقتنا وأسندنا إليه تدبير ماليتنا، وتسيير سياستنا الاقتصادية». لذلك لم تكن الخلفيات التي حركت الأمير مولاي الحسن لدفع والده لقرار إعفاء عبد الله ابراهيم وإسقاط حكومته، غير طموح أميري بمعية بطانته لتولي شؤون البلاد.
وموازاة هذا الشق الاقتصادي لحكومة المرحوم عبد الله إبراهيم، كان هناك شق سياسي يشرحه احمد رضا اكديرة في نفس المؤلف حيث يقول، «إن التيار اليساري بالذات لم يكن إلا شكلا من أشكال رد الفعل ضد الامبريالية.. لذلك لم يختف التيار اليساري بما له من قوة ضاربة وبما كان عليه من تنظيم سياسي، وبما له من أنصار جد متمركزين وجد منظمين».
لقد نجح الأمير وهو يعد العدة لإسقاط الحكومة، بعد أن اعتمد في حربه على عدد من المقربين منه خصوصا من داخل حزب الإستقلال الذي وجد الفرصة مواتية لرد دين سابق. ولم يكن غريبا أن صحافة حزب الاستقلال هي التي تولت أمر الهجوم على كل ما كانت تحمله الحكومة من مشاريع. وشكلت أسبوعية «ليفار» التي أسسها أحمد رضا اكديرة ثم أسبوعية «الأيام» ما سيطلق عليه سياسيا بأدوات «حكومة الطابور الخامس» إلى درجة أن علال الفاسي الزعيم، ظل يكتب افتتاحيات «الأيام»، التي ستغلق صفحاتها مباشرة بعد أن سقطت حكومة عبد الله ابراهيم..
لقد نجحت حكومة «الطابور الخامس» في مهمتها، وهي التي كانت تتكون أساسا من الأمير مولاي الحسن، وصديقه أحمد رضا اكديرة، وأحمد الغزاوي، وإدريس المحمدي، وامحمد باحنيني وأحمد العلوي، والجنرال الكتاوي، والكولونيل أوفقير آنذاك وغيرهم كثير.
ومما سهل مأمورية الحكومة الموازية أن ولي العهد الأمير مولاي الحسن، كان يشرف على القوات المسلحة الملكية ومختلف أجهزة الأمن والمخابرات. وقد كانت علاقاته متينة مع أغلب المتحكمين في الإدارة، إذ اخترقت صلاته كل دواليب الدولة، في حين لم يكن يحظى عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة إلا بدعم نسبي جدا من طرف حزب الاستقلال والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
كما لم ينس الأمير أن حكومة عبد الله ابراهيم، وفي مقدمتها وزير الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد، كانت قد رفضت أداء بعض الديون التي كانت قد تراكمت على الأمير وهو في باريس، حيث كان قد فتح مكتبا استشاريا لدعم القضية الوطنية خلال فترة المفاوضات حول الاستقلال.
فقد ظل ولي العهد الأمير مولاي الحسن يعتبر نفسه مهندس العودة من المنفى، ما جعل والده ينظر إليه نظرة أخرى. لذلك راح الأمير، بعد هذه الصفقة، يطالب بالرفع من مصروفه وهو وقتها في باريس بعد أن فتح في العاصمة الفرنسية مكتبا كان يجري من خلاله اتصالاته مع الجهات النافذة. وهو المكتب الذي كان عليه أن يؤدي أجور تلك الشخصيات السياسية والإعلامية والأمنية التي اشتغلت إلى جانب الملف المغربي.
لقد طلب محمد الخامس من وزراء حكومته أن يصرف للأمير مولاي الحسن ما يحتاجه لكي يستمر هذا المكتب في أداء مهامه، وإلا فسدت كل الأشياء التي كسبها المغرب. غير أن بعض الوزراء تحفظوا على الأمر حينما اكتشفوا أن ديون الأمير لم تكن، فقط بسبب هذا المكتب وأجور الأمن والمخابرات التي اخترقها، ولكن لأن الأمير الحسن دخل في جملة من الصفقات والامتيازات لفائدة شركات فرنسية وأمريكية. بالإضافة إلى أنه ظل يدعو من يشاء إلى المغرب من خلال رحلات نظمت لفائدة أصدقائه من النساء والرجال، ما رفع الكلفة عاليا. والحصيلة هي أن حكومة بداية الاستقلال ستكتشف أن ذلك «الصندوق الأسود» الذي ستصرف منه ديون ولي العهد، لم يكن يتوفر إلا على ثلاثين ألف دولار، وتلك كانت مجرد قطرة في بحر ديون الأمير.
معاهدة إكس ليبان تفتح شهية المستفيدين من الاستقلال
حينما اشتدت ضربات المقاومة المسلحة في مغرب، كان ملكه يعيش في المنفى، وبعد أن فشلت الإدارة الفرنسية في تنصيب ملك بديل حينما اختارت لهذا الدور محمد بن عرفة، كان لا بد من البحث عن صيغة لإنهاء هذا الاحتقان. لذلك كان الحل هو الترتيب لمعاهدة «إيكس ليبان»، والتي حضرها من الجانب المغربي ممثلون عن حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، وممثلون عن السلطان، وبعض قواد الاستعمار.
لقد دامت المفاوضات ثلاثة أيام حيث تم الاتفاق خلالها على رجوع محمد الخامس من منفاه بمدغشقر، وإعلان «نية» فرنسا منح المغرب «استقلالا» في 2 نونبر1955، على أن تكون تفاصيله محددة فيما بعد من الإعلان المشترك، والبروتوكول الملحق به في 2 مارس 1956. وبهذا الاتفاق، سيتم التنازل من طرف الإدارة الفرنسية عن قسط صغير من الثروات لصالح البورجوازية التي نشأت في حضنها بالبلد كي تستطيع تأمين الجزء الأكبر، وستسهر على بناء نظام سياسي على مقاسها.
ولعل النجاح الفرنسي في هذه المهمة، هو الذي شجع الاستعمار الإسباني على توقيع اتفاق 2 أبريل 1956 مع محمد الخامس.
وتضمن الإعلان المشترك في ديباجته أنه موقع بين حكومة جمهورية فرنسا وسلطان المغرب محمد الخامس. وهذا كان له انعكاس مباشر في بنية النظام السياسي من البداية، بحيث سينص هذا الإعلان في أول نقطة على أن السلطة التشريعية يمارسها السلطان. غير أنه لم يكن استجابة كلية لمطلب الاستقلال، بل تجديد الاعتراف المتبادل بين السلطان والاستعمار. فإذا كانت معاهدة 30مارس1912 قد جاءت بطلب من السلطان بن يوسف العلوي بعدما حاصرته القبائل المجاورة لفاس، وأصبحت معظم مناطق البلاد خارج سيطرته، فإن إعلان 2 مارس 1956 نص على أن الفترة الفاصلة بين التاريخين، مرحلة أنجز من خلالها المغرب تقدما لم تعد المعاهدة المذكورة بعده صالحة لتنظيم العلاقات الفرنسية المغربية. هذا التقدم لا يعني في الواقع بالنسبة للطرفين سوى تدمير القوة العسكرية للقبائل المغربية ومقاومتها. وغياب التهديد الفعلي الذي كان قائما بالنسبة للنظام المركزي. ولا يعني سوى انتزاع أجود الأراضي المغربية بالقوة من طرف المعمرين والقواد الذين يدينون بالولاء للسلطان وللاستعمار في نفس الوقت. هذه الأراضي التي كانت تشكل مصدر قوة اقتصادية، حيث سيتملكها المعمرون بعد صدور قانون التحفيظ العقاري سنة 1913. هذا التقدم لا يعني كذلك سوى بناء الطرق المعبدة والسكك الحديدية التي تصل الموانئ بمختلف مواقع استخراج الفوسفاط وباقي المعادن الطبيعية. ومواقع استغلال الثروة الغابوية لتأمين استنزاف هذه الثروات لصالح المستعمر. لهذا فوثيقة تعترف بشرعية معاهدة استعمارية لا يمكن أن تجلب الاستقلال. فهذا الإعلان المشترك لا يعدو كونه وثيقة استعمارية جديدة، مهدت لاتفاقات جديدة لاستغلال البلد. وكما جاء في نص الإعلان المشترك، فإن مفاوضات ستجمع في باريس بين المغرب وفرنسا هدفها توقيع اتفاقيات جديدة لتنظيم العلاقات بين البلدين في مجالات المصلحة المشتركة أساسا كالدفاع، والعلاقات الخارجية، والاقتصادية، والثقافية. والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا.
لذلك فحينما ستأتي حكومة عبد الله ابراهيم، ستتضح الصورة أكثر حيث شكلت هذه المعاهدة وما تضمنته من إجراءات، بداية استفادة البعض من كعكتها. ولذلك ستضع هذه الحكومة ضمن أولى الأولويات إعادة النظر في الكثير من شروط هذه المعاهدة.
وزاد نص الإعلان المشترك أنه خلال الفترة الانتقالية، وفي انتظار توقيع الاتفاقيات الجديدة بين الطرفين وبناء المؤسسات الجديدة، لن يتم المس بوضعية الجيش الفرنسي، وأن الجيش الذي سيتوفر عليه سلطان المغرب سيتم تشكيله برعاية فرنسية. أما الفقرة الأولى من البروتوكول الملحق، ففرض من خلالها الاطلاع على جميع مشاريع الظهائر والمراسيم من طرف ممثل فرنسا بالمغرب لأجل وضع ملاحظاته على النصوص لما يتعلق الأمر بالمس بمصالح فرنسا والفرنسيين أو الأجانب خلال الفترة الانتقالية.
في نفس الوقت الذي وقع فيه الطرفان الفرنسي والمغربي على الإعلان المشترك والبرتوكول الملحق، سترفع حكومة مبارك البكاري الأولى أربع رسائل تحمل طلبات لنظيرتها الفرنسية. كانت الرسالة الأولى تطلب من الحكومة الاستعمارية الفرنسية الاستمرار في تسيير العلاقات الخارجية للمغرب، وتمثيل وحماية المواطنين المغاربة ومصالحهم في الخارج، في انتظار الاتفاق على إجراءات جديدة.
وتفعيلا لبنود «اكس ليبان»، ستواصل فرنسا تنظيمها لجلسات المحاكمة لأعضاء المقاومة وجيش التحرير الذين رفضوا تسليم السلاح. وستبني المخافر السرية والعلنية كدار بريشة، ودار المقري، لإعدامهم ودفنهم. لذلك يعتبر الكثيرون أن ما جاءت به معاهدة «إكس ليبان» كان بمثابة بداية استفادة أولئك الذين حضروا أشغالها، وصادقوا بعد ذلك على كل الشروط التي جاءت بها الإدارة الفرنسية.
علال الفاسي يسقط حكومة الوطنيين للاستفادة من خيرات الاستقلال
في بحر سنة 1958، سيترأس الملك محمد الخامس بالقصر الملكي مراسيم تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم، والتي لم تعمرغير سنة وخمسة أشهر. قبل أن تتم إقالتها يوم الخميس 19 ماي 1960 .
لكن قبل هذا الموعد، كانت أزمة حكومة بلافريج قد وضعت البلاد الخارجة على التو من محنة الحماية، في المحك. لذلك سعى محمد الخامس إلى إيجاد حل سريع ونهائي.
فقد حاول أن يعجل بحل الأزمة الوزارية حينما استدعى الزعيم الاستقلالي علال الفاسي ليكلفه بتشكيل حكومة بديلة لحكومة بلا فريج. وفي الوقت الذي راح علال الفاسي يعد لائحة وزرائه، تحرك بعض الاستقلاليين ليقولوا للملك ما مفاده إن «حكومة علال لا يوافق عليها كل الاستقلاليين».
لم يستسغ علال الفاسي هذا الأمر، وهو الذي كان يعد العدة ليتولى رئاسة الحكومة. لذلك سيختار الاستقرار في طنجة، فيما يشبه المنفى الاختياري. فعهد محمد الخامس إلى شيخ الإسلام بمهمة الاتصال بالمرحوم عبد الله إبراهيم، والفقيه البصري والمحجوب بن الصديق. فيما تولى نفس المهمة كل من الفقيه عواد وعبد الرحمن بن عبد العالي، لإقناع عبد الرحيم بوعبيد.
قبل عبد الله ابراهيم بالمهمة حينما ظلت جملة الملك محمد الخامس ترن في أذنه وهو يخاطبه فيما يشبه التهديد «إما أن تقبل بتشكيل الحكومة، وإما أن أغادر نهائيا نحو مكة أو المدينة لأمكث هناك مبتعدا إلى أن يقبض الله روحي».
ظل عبد الله ابراهيم متشبثا بضرورة بقاء عبد الرحيم بوعبيد وزيرا في حكومته، بالإضافة إلى المهدي بن بركة، الذي كان هو الآخر مرشحا لرئاستها، قبل أن تقترح عليه وزارة التعليم العمومي، في محاولة لإبعاد قادة حزب الاستقلال الذين ينتمون لتياره التقليدي.
غير أن الأمير مولاي الحسن سيرفض أن يتولى بن بركة هذه المهمة. ليتم إسنادها في آخر ساعة لعبد الكريم بن جلون، وهو الذي كان يتولى وزارة العدل في حكومة مبارك البكاي الأولى والثانية، وظل في نفس المنصب في حكومة بلافريج. إلا أنه رفض البقاء في وزارة العدل مع حكومة عبد الله إبراهيم. كما رفض عبد الرحمن اليوسفي هو الآخر حقيبة وزارة العدل، ليتم إسنادها إلى الحاج امحمد باحنيني مع احتفاظه بمنصب أمين عام للحكومة.
في ظل هذه الأجواء تم تنصيب الحكومة التي ترأسها في النهاية عبد الله إبراهيم، خصوصا وأن ثلاثة من زعماء الجناح اليساري في حزب الاستقلال كانوا مرشحين لتولي رئاستها. فإلى جانب عبد الله إبراهيم، كان عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة مرشحين لهذا المنصب. ولكن الأمير مولاي الحسن اتفق مع المحجوب بن الصديق على التعجيل بطرح اسم عبد الله إبراهيم كرئيس للحكومة وهذا ما حصل في النهاية.
كانت أولى الخطوات التي سارت عليها حكومة عبد الله ابراهيم، هي إصلاح حال الاقتصاد الوطني المتضرر من كل سنوات الحماية. لذلك سيتخذ عبد الرحيم بوعبيد، الذي أصبح نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للإقتصاد والمالية، جملة من القرارات التي اعتبرت شجاعة في حينها ومنها الإعلان عن فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي. كما سيتحول البنك المخزني إلى بنك المغرب. وسيتم إنشاء صندوق الإيداع والتدبير، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي، والمكتب الوطني للري، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومكتب الأبحاث والمساهمات الصناعية. كما وقع الاتفاق مع الإيطاليين لبناء مصنع تكرير البيترول «لاسمير». وغير ذلك من القرارات التي مهدت للإعلان عن إجراءات هدفها التحرير الاقتصادي لبلادنا. وهي الإجراءات التي ستعرف بقرارات 22 أكتوبر1959، وهي قرارات تزامنت مع صدور ظهير شريف أعلن عن تأسيس الدرهم كعملة وطنية غير قابلة للتحويل.
لقد قال عبد الرحيم بوعبيد عن قرارات 22 أكتوبر1959 : «إن عهد الاستقلال يتطلب منا أن نتحرر من التبعية وأن لاننساق وراء عجلة نظام كانت قراراته المهتمة باقتصادنا يتم اتخاذها خارج المغرب، ودونما مراعاة لظروف المغرب النوعية. ولا يمكن لأي تعاون دولي صحيح أن يزدهر ويكتسي مدلوله الحقيقي إلا إذا كان كل من يساهم فيه، يبذل جهوده بوسائله الخاصة قبل كل شيء. وهذا شرط أساسي لقيام علاقات الاحترام المتبادل بين الدول المستقلة. لهذا نحن الآن في سياق سياسة اقتصادية ونقدية مستقلة».
كانت هذه واحدة من الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها حكومة عبد الله إبراهيم في مستهل عملها. لكن يبدو أن ذلك سيغضب بعض النافذين في الدولة الذين رأوا أن أفكار عبد الله ابراهيم ووزيره في الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد يسارية، وفي حاجة لمن يوقفها عند حدها لكي لا يلتف حولها الشعب المغربي ويؤمن بها. كما سيقود علال الفاسي رفقة بعض القادة الاستقلاليين معركة للمساهمة في إسقاط هذه الحكومة بعد أن وجدوا أنهم خارج الحساب، وأنهم لن ينالوا شيئا من كعكة الاستقلال التي ناضلوا من أجلها.
المهدي بن بركة يفضح المستفيدين من «ريع الاستقلال»
ظل المهدي بن بركة يعتبر أن الذين انتفضوا في وجه حكومة الوطنيين التي كانت تشتغل بتوافق مع الملك محمد الخامس، قامت بذلك لكي تستفيد من ريع الاستقلال، ولكي تحمي مصالحها التي راكمتها على عهد الحماية. لذلك سيكشف في تقريره الشهير«الاختيار الثوري» عن ذلك حينما قال «يجب علينا أن نعترف بأننا لم نستطع إيقاف الانقلاب الذي حصل في ماي 1960 والذي صفى ما تبقى من مظاهر المشاركة الشعبية في الحكم. ولو أن هذا الانقلاب كان نتيجة لضغط الجماهير التي فرضت على حكم اتخذ أسلوب القسر والتحكم أن يزيل القناع عن وجهه، وأن يظهر على حقيقته. نعم يمكن أن نجد لهذا الانقلاب جانبا إيجابيا، إذ مكن من توضيح الوضع السياسي في البلاد، ومن إبراز القوى المتقابلة وهي قوى التقدم وقوى الرجعية، أنصار المستقبل المشرق، والمتشبثون بعهود الماضي المظلمة، من جهة القوى الشعبية، ومن جهة أخرى عناصر الإقطاع وفلول القوى التقليدية والأحزاب السياسية المتفسخة، وكذلك السماسرة ذوو المصالح المرتبطة مع الاستعمار».
ويضيف المهدي في نفس هذا التقرير أنه «لم تكن التناقضات الاجتماعية سنة 1955، أي قبيل إعلان الاستقلال السياسي، قد برزت حدتها في شكل صراع طبقي، لكنها ما فتئت بعد ذلك أن تبلورت فأدت إلى تحول في الحركة الوطنية، انتهى سنة 1959 بظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي فصل قيادة حزب الاستقلال الرجعية عن قاعدة التحرير الشعبية. وقد تبع هذا التحول تحول مواز في الحكم بحدوث الانقلاب الرجعي سنة 1960.
فإن البورجوازية الكبرى الفلاحية والتجارية، مع نسبة ضئيلة منها في النشاط الصناعي، قد ربطت مصيرها منذ الاستقلال مع عناصر الاقطاعيين، ومع المؤسسات الاقتصادية الموروثة من عهد الاستعمار. بل إنها وقفت دون ما كان الرأسمال الليبرالي الأجنبي مستعدا لمنحه إياها من مراكز بحكم سياسة الاستعمار الجديد. وكان هذا الموقف المتقاعس للبرجوازية ناشئا عن ضعفها كما وكيفا، وعن خوفها من الحركة العمالية وزحف الجماهير الشعبية».
لكنه يعود ليعترف بأخطاء المرحلة، وكيف ساهم الوطنيون فيما آلت إليه البلاد حينما يتوقف مليا عند «ثلاثة أخطاء رئيسية سوف تكون قاتلة لا محالة، إن لم نتداركها في الظروف الراهنة.
الخطأ الأول يرجع إلى سوء تقديرنا لأنصاف الحلول التي كنا مضطرين للأخذ بها.
ويتعلق الخطأ الثاني، بالإطار المغلق الذي مرت فيه بعض معاركنا، بمعزل من مشاركة الجماهير الشعبية.
أما الخطأ الثالث، فقد نشأ عن عدم الوضوح في مواقفنا الإيديولوجية».
ويتساءل المهدي بن بركة في «اختياره الثوري» الشهير حينما يتحدث عما سماه ب»صراع في نطاق مغلق».
«هل من حاجة إلى التذكير بالمعارك المتعددة التي اضطررنا لخوضها من سنة 1956 إلى 1960 دون أن يعرف الشعب شيئا عنها. وكلها كانت تدور بين جدران منازل أساطين حزب الاستقلال، أو داخل القصور الملكية دون أن ينفذ صداها إلى الخارج
وتعلم بعض إطارات الحزب بالتفاصيل كيف قمنا منذ البداية، ونحن ما زلنا في حزب الاستقلال بالدفاع عن مبدأ أساسي، يضمن لكل حكومة تستحق هذا الاسم أن تباشر السلطة التنفيذية المخولة لها، ذلك المبدأ الذي بدون احترامه تكون الحكومة اسما بلا مسمى، وهو أن تكون بيد الحكومة سائر السلطة، وبالأخص الإشراف على موظفي وزارة الداخلية والمحافظين وكذلك مصالح الجيش والشرطة والدرك التي كان القصر يعمل على احتكارها. وكنا كلما وضعنا مشكلة هذه المناطق المحرومة أو أدرجناها في أعمال أحد المجالس الوزارية، وجدنا نفسنا موضع هجوم مركز من طرف الصحافة الاستعمارية الفرنسية تحت عناوين بارزة ومانشيتات «العرش المغربي في خطر». وفي ذلك منتهى المفارقة لصدوره من أولئك الذين اعتدوا على العرش من قبل ثلاث سنوات.
ولم نقم بواجب التوضيح أمام الرأي العام لهذه المعارك المتجددة على تعاقب الحكومات، من الوزارتين الائتلافيتين الأولى والثانية، إلى حكومتي بلافريج وعبد الله ابراهيم. ولم نقل قط للشعب إننا كنا فاقدين لوسائل تنفيذ برامجنا. فلا غرابة إذن من أن يتهمنا البعض اليوم بأننا كنا نتوفر على سائر السلطات طيلة سنوات 1956 إلى 1960. بينما كنا فاقدين لجوهر السلطة. هذه هي الحقيقة».
هكذا كشف تقرير المهدي بن بركة عن كل خلفيات الصراع بين المستفيدين من ريع الاستقلال، وبين معارضيهم.
مولاي الحسن يقوم بحل جيش التحرير لسحب البساط من تحت زعمائه
ظل الأمير مولاي الحسن يعتقد، في إطار الحرب الباردة التي كانت بينه وبين خصومه السياسيين، أن جيش التحرير كان هو الأداة التي أراد أن يوظفها حزب الاستقلال، والاتحاد الوطني ضد نظام الملك. لذلك سيسارع إلى التخلص من هذه الأداة بالسرعة المطلوبة لكي يسحب من تحت أقدام المهدي ورفاقه، ما اعتبره خطرا محدقا به وبوالده.
لقد بدأت تظهر بعض القناعة لدى بعض زعماء هذا الجيش لمواجهة النظام بالعنف، كما ووجه الاستعمار.
لذلك سيقود الأمير عملية الحل التي حملت اسم «إيكوفيون» لتصفية هذا الجيش، الذي تمركز بالصحراء التي كانت تحت السيطرة الإسبانية، مما فرض عليها التفكير بجدية في القضاء على تلك المقاومة التي كانت سائرة نحو التجذر وسط الجماهير. ولذلك كان تنفيذ العملية في 1958، بعد أن تطلب الأمر اتحاد قوتين استعماريتين هما القوة الفرنسية والإسبانية، اضطرتا لاستعمال سلاحهما الجوي.
لقد لاحظ أعضاء جيش التحرير أن الاستقلال المعلن عنه، كان استقلالا منقوصا ومبثورا ولم يشمل كل الأجزاء المحتلة. لذلك راهنوا على الاستمرار في الجهاد والكفاح بعد أن رفضوا التخلي عن سلاحهم، بعد أن قرروا الاتجاه نحو الجنوب. ومن ثم استهدفت العملية، بالأساس، عناصر جيش التحرير الذين رفضوا التخلي عن السلاح والالتحاق بالجيش الملكي والاندماج فيه.
لقد انطلقت العملية وارتكزت على التمشيط المنهجي قصد تطويق جيش تحرير الجنوب، المكون من صحراويين وأعضاء جيش التحرير الآتين من الشمال والوسط.
وبسبب هذه العملية القمعية التي كانت تهدف إلى تصفية المقاومين، اضطر أكثر من 40 ألف صحراوي للهجرة نحو طانطان وكلميم. وهي العملية التي شاركت فيها وحدة المظليين الفرنسية المرابطة بالمستعمرات.
لقد جمعت فرنسا جيشا قوامه حوالي 10000 جندي مدججين بالسلاح والمدفعية الثقيلة والدبابات والغازات السامة والطائرات الحربية. وكان الهدف المعلن هو القضاء نهائيا على جيش التحرير وسحقه. ومن ثم محاولة اغتصاب المقاومة التي كانت سائرة نحو التجذر وسط الجماهير. وهنا تكمن نقطة الالتقاء بين فرنسا وإسبانيا والنظام المغربي الذي شارك في العملية، حسب الكثير من المراقبين، لسحق عناصر جيش التحرير الذين رفضوا التخلي عن السلاح والالتحاق بالجيش الملكي والاندماج فيه. ومن ثم فقد كانت «إيكوفيون» عملية فرنسية إسبانية مغربية.
لقد كان العسكريون الفرنسيون والإسبان في لاس بالماس ودكار يضعون اللمسات الأخيرة على خطة أوراغون لمواجهة جيش التحرير المغربي. وقد كان الأمر يتعلق بعملية خاطفة على مرحلتين. أولها الساقية الحمراء، لاستعادة السمارة، ثم وادي الذهب. ستأخذ المناورات الإسبانية التي ستعبئ 9000 جندي و60 طائرة اسم أعلى قمة في جزر الكناري ، جبل «تيد». ومن جانب فرنسا التي ستعبئ 5000 جندي و70 طائرة سيطلق على العملية اسما مشفرا « إكوفيون»، التي تعني «الممسحة». وبقصد تفادي الاصطدام بالقوات النظامية المغربية، التي شرعت في مناورات في مناطق جنوب المغرب التي يراقبها جيش التحرير، صدر الأمر بأن تتواصل العملية طيلة أسبوعين وتستهدف توجيه ضربات مباغتة وعنيفة للمقاتلين. كانت القيادة العامة للجيش الفرنسي بيد الجنرال «بوركوند». أما من الجانب الإسباني، فقد كانت بيد القبطان العام لجزر كناريا، المقدم «لوبيز فالونسيا»، والحاكم العام الجديد في الصحراء الإسبانية، الجنرال «هيكتور فاسكيز» .
أما لإعطاء العملية بعض المصداقية من قبل الأمير مولاي الحسن، مهندسها، وضدا على رغبة الحكومة، الذي كانت قوات الأمن والجيش والمخابرات خارج سلطاته، فقد تم عقد مؤتمر لجيش التحرير بالجنوب، وتحديدا بمدينة إنزكان قيل إنه ينظم من أجل تدارس الوضع داخل جيش التحرير.
وحينما حضر الكثير من أعضاء جيش التحرير إلى عين المكان، ستكون المفاجئة أن فيلقا من الجيش الملكي، تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة الملكية وقتها ولي العهد الأمير مولاي الحسن، سيرغمهم على التخلي عن أسلحتهم.
لقد روج مخططو هذه العملية أن الرافضين لحل جيش التحرير، بالإضافة إلى اتهامه بالتحول إلى جيش لحزب الاستقلال، مقولة أن زعماء هذا التنظيم سعوا لتحقيق مكاسب من الاستقلال. لذلك تحدث الكثيرون على أن نسبة من هؤلاء أضحوا بعد التوقيع على وثيقة الاستقلال رجال أمن وقياد ينتمون لوزارة الداخلية. أما الذين لم تكتب لهم الاستفادة، فهم من قاد العصيان، ورابط في الجنوب، ورفض حل جيش التحرير. لذلك يمكن القول إن من بين أعضاء جيش التحرير من استفاد من كعكة الاستقلال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.