بعيدا عن بلده الأم إنجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات... في بداية حكمه وفي ذروة سعادته بالجلوس على العرش، بدا مولاي عبد الحفيظ ملكا شغوفا بخدمه بلده، ولقد أبدى اهتماما واضحا بتربية الحيوانات الضارية في قصره. إنها أهم هواية يفضلها الملوك رغم أنها قد قاربت على الزوال وانحصرت فقط في دول المشرق بعد أن كان جميع الملوك يمارسونها. كان ضيوف قصر ويندسور يندهشون من رؤية وحيد القرن مارا أمامهم في حفلات الاستقبال داخل الحديقة الرسمية للقصر، وهو نفس الإحساس الذي ينتاب زوار قصر «لاشابيل سانت جورج» بفرنسا لدى مرور ضبع أليف بجانبهم، وهو مشهد لم تشهده القصور المغربية من قبل. كان مولاي الحسن، والد مولاي عبد الحفيظ، يسمح للفهود بالتجول في جناح الضيوف، لكن مولاي حفيظ ذا الطبيعة الخجولة، كان يحبس هذه الحيوانات داخل أقفاص حديدية، ويعوض وجودها في الجناح بخنازير قادمة من الهند، وهو ما أفقد المشهد جزءا من سحره وعبر الضيوف عن ارتياحهم لرؤية الفهود في الأقفاص. للحصول على حيوانات أخرى، أرسل مولاي عبد الحفيظ طبيب الأسنان الاسباني إلى مدينة هامبورغ الألمانية لكي يتوسط له في شراء حيوانات متوحشة من بلدة هاجينبيك. ارتكب الطبيب الإسباني خطأ كبيرا لأنه تأخر في الحصول على صفقة الحيوانات لعدة أشهر، ولدى عودته بعد ذلك إلى فاس، فقدت هواية تربية الحيوانات الاهتمام الذي كانت تتمتع به في السابق، واقتصر الاحتفال فقط على الأسد الذي لم يدفع السلطان ثمنه للطبيب. اكتشف مولاي حفيظ أن فاتورة العناية بحيوانات تقتات على لحوم الخرفان باهظة للغاية، ولم تكن القبائل مستعدة لإشعال الثورة ورفض إرسال خرافها إلى القصر مطالبة بالمقابل المالي. ورغم هذه المطالب، نجح مسؤولو القصر في احتواء الخلاف، ليعلن السلطان مرة أخرى عن رغبته في الحصول على كرسي عرش يشبه الأريكة الميكانيكية التي يستخدمها طبيب أسنانه في عيادته الصغيرة. لم تصل شحنة كرسي العرش الميكانيكي أبدا إلى المغرب، مما أجج الصراع بين سلطات الإقامة ومولاي حفيظ الذي أكد للفرنسيين أن فاتورة الأسد قد تم دفعها لأنها فاتورة خاصة بالدولة، وأصر بالمقابل على الترخيص بتسلم كرسي العرش الجديد. ظلت القضية معلقة إلى أن انتهى العقد الذي يربط طبيب الأسنان الإسباني بالقصر، ورفض مولاي عبد الحفيظ تجديد العقد معه. كان الطبيب يقيم وقتها داخل فيلا ملحقة بأملاك السلطان في طنجة، ولم يوافق على مغادرتها وساندته السلطات الإسبانية في موقفه الرافض باعتباره مواطنا اسبانيا يقيم داخل دولة أخرى. أرسل مولاي حفيظ مجموعة من العبيد لإجبار الإسباني على الخروج من مسكنه، ليكشتفوا أن الفيلا محاصرة بالجنود الإسبان الذين لم يترددوا في إطلاق الرصاص عليهم لكي يتراجعوا إلى الخلف. تعقدت القضية أكثر بسبب هذا الهجوم واكتست طابعا دوليا بسبب السلطان والسلطات الفرنسية والطبيب الإسباني والعبيد ومواطن بريطاني وأسد ألماني، كل هؤلاء هددوا السلام بين الحكومات الأوروبية في حالة تم استعمال السلاح لإنهاء النزاع. تدخلت لتهدئة الأمور وانتزاع فتيل الأزمة من أجل المصالحة بين الطرفين. وبعد تدخلات الوساطة التي قمت بها نجحت أخيرا في حل المشكلة بين السلطان وطبيب الأسنان. بين سنتي 1912 و1913، كان مولاي عبد الحفيظ يقيم رفقة حاشيته كبيرة العدد في القصبة القديمة بطنجة، في انتظار الانتهاء من تشييد قصره الممتد على عشرات الهكتارات. كانت القصبة عبارة عن حصن قديم واسع يحتاج إلى عمليات الترميم، ويفتقد للتصميم الهندسي الذي يتناسب مع المقومات الأساسية للسكن واستيعاب أزيد من مائة وثمانية وستين شخصا بين جدرانه المتصدعة، وأغلب هؤلاء المقيمين أمراء من العائلة الملكية، مما يعني أنهم يحتاجون إلى مساحات أوسع تكفيهم وتكفي حاشيتهم الخاصة، وهو ما لم يجدوه داخل أسوار هذه القصبة. تنشب النزاعات دائما بين النساء في القصر بسبب الغيرة وإذا حصلت إحداهن على الاهتمام والهدايا عكس الأخريات، فإن الأمور تسوء بينهن وتنشب النزاعات والفوضى، وتفيد الشائعات أن «العريفات» وهن السيدات المكلفات بحفظ النظام داخل القصر، لا يترددن أحيانا في استعمال العصا لمعاقبة النساء المشاغبات. استحوذت الأميرات على جميع الغرف المريحة في القصبة، فيما فضل السلطان الإقامة داخل غرفتين واسعتين محاذيتين لمدخل القصبة، وظل يستقبل فيهما ضيوفه القادمين لزيارته في انتظار شراء الحديقة التي سيبني عليها قصره الجديد. كان يسكن داخل فيلا بهذه الحديقة يهودي غني عمل لسنوات طويلة نائبا لقنصل بلجيكا، ولم يتم هدمها لأن تصميمها الهندسي كان ينم عن ذوق رفيع في فنون العمارة..