بنسعيد يقدم شروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة ويعلن رفع تمثيلية "الناشرين"    أصيلة تحتضن الدورة الخامسة للأكاديمية المتوسّطية للشباب من 11 إلى 19 يوليوز    "طفل بومية" لم يتعرض لاعتداء جنسي أو جسدي والوفاة ناتجة عن اختناق باستخدام حبل    بورصة البيضاء .. تداولات الافتتاح على وقع الأحمر    المغرب يستقبل الجميع بحفاوة والجزائر ترد بالتجاهل والمراهقة الدبلوماسية في كان السيدات    بقيادة حكيمي .. باريس سان جيرمان يقارع ريال مدريد في نصف نهائي مثير    نجل أنشيلوتي يتولى تدريب بوتافوغو البرازيلي    توحيد نظام التأمين الصحي يحصل على الضوء الأخضر من مجلس المستشارين بأغلبية الأصوات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة محليا بهبات رياح وتساقط البرد اليوم الأربعاء بعدد من مناطق المملكة    وزير التجهيز والماء: أشغال سد الرتبة بتاونات بلغت 30 بالمائة من نسبة الإنجاز    إسرائيل تعلن اغتيال مسؤول عسكري في حزب الله جنوب لبنان    الصين تعتزم توسيع شبكة السكك الحديدية فائقة السرعة لتصل إلى 50 ألف كيلومتر بنهاية 2025    تجدد الدعوات لمقاطعة المنتدى العالمي لعلم الاجتماع بالرباط بسبب مشاركة إسرائيل    بينهم أطفال.. مقتل 26 فلسطينيا بغارات إسرائيلية على قطاع غزة    فتى يقتل طفلا ويصيب بجروح طفلة ومعلمة داخل مدرسة في البرازيل    سيرغي لافروف يزور كوريا الشمالية    المطارات المحلية الأمريكية تتخلص من خلع الأحذية أثناء التفتيش    علاقة الدولة بالمجتمع وسوء الفهم الكبير.. محاولة للفهم    أجندات انفصالية تُبعد ثلاثة إسبان موالين لجبهة البوليساريو من العيون    استثمار تجربة هيئة أخلاقيات الصحافة وحرية التعبير    سايس يعود إلى التداريب بعد غياب دام لأربعة أشهر بسبب الإصابة    رياض: "أبذل قصارى جهدي للعودة للميادين وهدفي هو المشاركة في "الكان"    أَسيرُ حرب: السَّرد الجريح    38,2 مليون حساب بنكي بنهاية 2024    أسعار النفط تتراجع وسط تقييم اقتصادي لتأثير الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة    دراسة: التغير المناخي زاد وفيات الحر 3 مرات في المدن الأوروبية    ضبط أقراص مهلوسة بميناء الناظور    عندما ينقلب "الحياد الأكسيولوجي" إلى سلسلة ثنائيات شاردة!    كاظم جهاد: جاك ديريدا والمسألة الفلسطينية    ظاهرة "طوطو" هل نُربي جيلاً لتمجيد الصعلكة!؟    أكثر من مليون متابع لفرقة تولّد موسيقاها بالذكاء الاصطناعي    الجديدة: أزقة سيدي بوزيد تسائل جماعة مولاي عبد الله وعمالة الإقليم    الدوري الإنجليزي لكرة القدم.. سندرلاند يضم الظهير الأيسر رينيلدو ماندافا قادما من أتلتيكو مدريد الإسباني    مجلس المستشارين يصادق في قراءة ثانية على مشروع قانون المسطرة المدنية    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. تشلسي يحجز بطاقة النهائي بتغلبه على فلوميننسي (2-0)    كيوسك الأربعاء | إجراءات جديدة بميناء طنجة المتوسط لتسهيل عبور الجالية    فرص أكثر للشباب والنساء .. التشغيل يتصدر أجندة حكومة أخنوش    من أين جاءت هذه الصور الجديدة؟ .. الجواب داخل واتساب    الشاعر حسن نجمي يفوز بجائزة ابن عربي الدولية للأدب العربي    تورونتو تحتفي بعبق السوق المغربي    تحقيقات أمنية في حادث رشق بالحجارة بحي مغوغة تسفر عن استدعاء أطراف مشتبَه فيها    الطالبة ماجدة بن علي تنال شهادة الدكتوراه في الكيمياء بميزة مشرف جدا        أداء الثلاثاء إيجابي في بورصة البيضاء    مجلس ‬المنافسة ‬يكشف ‬عن ‬هوامش ‬الربح ‬في ‬المواد ‬الغذائية ‬وعن ‬الأسواق ‬المتحكمة ‬فيها    قطاع الإسمنت بالمغرب يسجّل أداء إيجابيا في النصف الأول من 2025    جواد الزيات يعود لرئاسة الرجاء الرياضي لكرة القدم    ممارسة الرياضة بانتظام تقلل الشعور بالاكتئاب والتوتر لدى الأطفال    حين تصعد وردية من رمادها وتمشي فوق الخشبة    دراسة ألمانية: فيروس التهاب الكبد "E" يهاجم الكلى ويقاوم العلاج التقليدي    التوصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الجيوب الأنفية دون الحاجة للأدوية    دراسة: ليس التدخين فقط.. تلوث الهواء قد يكون سببا في الإصابة بسرطان الرئة    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنص بالصقور.. ولع قبيلة القواسم الذي يقاوم الانقراض
نشر في المساء يوم 05 - 06 - 2015

الصقارة هنا لا علاقة لها بثراء ممالك الخليج. فالصقارون فلاحون بسطاء رسم الزمن الصعب على وجوههم المدبوغة بالشمس تجاعيد تحدث الناظر بأن دوار السماعلة بحد أولاد افرج بإقليم الجديدة الذي ينتمون إليه، لا يختلف في شيء عن باقي قرى المغرب العميق التي تتشابه في الفقر، لكنهم أتوا بنسائهم وأطفالهم وصقورهم إلى مهرجان أصبح موعدا سنويا يجمع عشاق الجوارح من داخل المغرب وخارجه . وانعقدت دورته الثالثة يومي 29 و31 ماي الماضي.
صطفى واعراب
البيزرة أو الصِّقارة تراث إنساني لا مادي، يتمثل في فن تدجين الجوارح، وتسمى في المغرب «بيازة» نسبة إلى الباز أو «الطِّير الحر» كما يسميه القواسم. وقد صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) في نونبر 2010 ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي للإنسانية، وشمل الإعلان 11 بلدا يضم بالإضافة إلى المغرب، بلجيكا وجمهورية التشيك وفرنسا وكوريا ومنغوليا وقطر والمملكة العربية السعودية وإسبانيا وسورية والإمارات العربية المتحدة. وتعتبر قبيلة القواسم في عمق دكالة، وخاصة دوار السماعلة بحد أولاد افرج بإقليم الجديدة، ومنطقة أولاد عمران بإقليم سيدي بنور، المعقل الرئيسي والأخير لتربية الصقور في المغرب.
تاريخيا، تعود أقدم الإشارات حول علاقة المغاربة بالجوارح إلى عصر الوندال، أي إلى المراحل السابقة لدخول الفتح الإسلامي. وخلال الفترات التاريخية التي عاشها المغرب منذ ذلك العهد ظلت تربية الصقور وممارسة القنص بها هواية الملوك والنبلاء، فاستفاد المغاربة من موقع بلدهم فأخذوا من معارف الشرق وأوروبا في ترويض الجوارح الصيادة حتى برعوا فأبدعوا حول نبلها وقوتها الأمثال والأشعار، ورسموها في الوشوم على جلود أجسامهم.
في ضيافة «القواسم»
الصقارة هنا لا علاقة لها بثراء ممالك الخليج. فالصقارون فلاحون بسطاء رسم الزمن الصعب على وجوههم المدبوغة بالشمس تجاعيد تحدث الناظر بأن دوار السماعلة بحد أولاد افرج بإقليم الجديدة الذي ينتمون إليه، لا يختلف في شيء عن باقي قرى المغرب العميق التي تتشابه في الفقر، لكنهم أتوا بنسائهم وأطفالهم وصقورهم إلى مهرجان أصبح موعدا سنويا يجمع عشاق الجوارح من داخل المغرب وخارجه. وانعقدت دورته الثالثة يومي 29 و31 ماي الماضي.
عندما تجالسهم تستأنس سريعا بطيبوبتهم الفطرية وتقرأ في نظرات كل واحد منهم فخرا عجيبا بصقره. سألت ممازحا أحد الصقارين كان يجلس إلى جانبي في الصفوف الخلفية، كم يساوي صقره بلغة المال. بدا السؤال غير متوقع، فرد بجدية بأن صقره ليس للبيع، تماما مثل أبنائه. ومع الإلحاح في السؤال تطوع صقار آخر للرد بأن ثمة صقورا تبلغ أسعارها مليون [سنتيم] كحد أدنى، واسترسل في الأمثلة والأسعار فقال بأن ثريا عربيا اشترى صقرا من صاحبه بعشرين مليون. لكنه كرر كلام صاحبه بأن الصقور التي يحملها صقارو القواسم في ثاني أيام المهرجان ذاك ليست للبيع، بل للاستعراض فقط.
داخل الخيام وخارجها، كان معبرا جدا إقبال أفراد من أسر الصقارين على الاستفادة من فحوص طبية مجانية ونظارات، وزعتها إحدى الجمعيات الأجنبية. أكثر الصقارين فقراء نعم، لكن الولع بتربية الصقور الذي هو في العادة هواية الملوك والأثرياء متمكن منهم حد الهوس. وهو ولع أصبح تحديا ويعاركون ضنك العيش بصعوبة للاستمرار تحمل إكراهاته.
تقع (زاوية القواسم) التي التأمت فعاليات المهرجان من حولها على مسافة 120 كيلومترا على جناح الطير، إلى الجنوب من الدار البيضاء. وهي ليست زاوية بالمعنى الصوفي المتداول للكلمة، بل مجرد مدرسة تقليدية عتيقة لتعليم القرآن. فلا يتلى فيها لا وِرْد ولا ذِكر صوفي كما يحدث في باقي الزوايا؛ إذ المعروف أن الولي مولاي الطاهر القاسمي لم يخلف لذريته طريقة صوفية. وحتى صلة هذا السلف بالصقارة غير واضحة.
أما الولي الصالح الآخر الذي يصرح القواسم بالانتساب إليه فهو سيدي علي بلقاسم، الذي يقع ضريحه بعيدا عن عشيرة القواسم وتحديدا خلف مسجد الكتبية في مدينة مراكش.
ويعتبر القواسم أنفسهم شرفاء ينحدرون من بعض القبائل العربية في المشرق. وقد نالوا رعاية السلاطين خلال العصر الذهبي للصقارة المغربية، الذي انتهى قبل أزيد من قرن، فرعوهم وشجعوهم للحفاظ على تلك التقاليد العريقة، تشهد على ذلك «ظهائر التوقير والاحترام» الصادرة عن سلاطين المغرب والتي يحتفظ بها القواسم في خزانة زاويتهم إلى اليوم. وتوصي الظهائر الحكام المحليين [القياد] بأن «يوقروا» القواسم ويعفونهم من أداء الضرائب. ورغم تفرق أبناء القبيلة عبر مناطق المغرب، إلا أن حب «الطير الحر» ما زال يسري مع الدم في عروقهم..حتى أنني التقيت أحدهم ويعمل خياطا فقيرا ومغمورا في مدينة الجديدة التي توجد على بعد 90 كيلومترا عن «الزاوية»، ومع ذلك يربي في بيته المتواضع صقرا جميلا يطعمه لحما أبناؤه أحوج إليه قبل الجارح!
وما يؤكد استمرار أواصر ولههم الغريب بالجارح أنهم مستمرون في «كسب» الصقور رغم أنهم لم يعودوا يستعملونها في القنص. فالطرائد أصبحت قليلة بسبب انتشار المبيدات الزراعية وندرة المراعي البرية التي تسكنها الطيور والزواحف التي يتغذى على لحمها الصقر. وانعكست الآية بحيث أصبح القاسمي يغذي صقره، لا العكس.
الصقر أقرب إلى القاسمي من أهله!
«كان الآباء والأجداد يحصلون على صقورهم قبل أن تصل سن البلوغ، من خلال صيدها من الأجراف البحرية الواقعة جنوب أسفي وحتى أكادير. وكانت لهم في ذلك طقوس خاصة ووعي بيئي فطري، اكتسبوه بطول الممارسة»، يقول الصقار سعيد طويل الذي يرأس «جمعية القواسم للصيد بالصقور». كانوا يراقبونها طويلا قبل أن يقرروا ما سوف يصيدونه منها. ثم يدربونها بعد عودتهم بطول صبر، حتى إذا صارت قادرة على القنص لا يحتفظون بها أكثر من أربع سنين، إذ يعيدونها إلى حياتها البرية بعد ذلك، لأنها تصير بالغة، كي تتزاوج وتتكاثر. «أما اليوم فلا أحد يفعل ذلك. الصقارون يحتفظون بصقورهم إلى أن تستنفد عمرها وتنفق، ثم يبحثون عن أخرى»، يضيف طويل بحسرة.
ويتم صيد الصقر بعد التعرف على أماكن وجوده في أعقاب فترة طويلة من الترصد لأثره، من طرف صيادين ماهرين، ويستعملون لذلك إما شبكة أو باستدراج الجارح إلى فخ عن طريق حمامة مربوطة بخيط. وبمجرد أسر الصياد للصقر يضع على رأسه برقعا يمنعه من الرؤية ويقيد قدميه، ثم يسلمه إلى الصقار الذي له تجربة طويلة في تدجين الجوارح البرية. وخلال الأربعين يوما التي يستغرقها تدريب الصقر، تنشأ علاقة حميمة بين الصقار وصاحبه، تقوم على مودة وثقة حيث يكتشف كل منهما طباع الآخر؛ إذ تختلف الطبائع من صقر لآخر كما يقول العارفون، مثلما تختلف بين إنسان وآخر. ويأخذ الصقار جارحه خلال مرحلة التدريب إلى رحلات صيد حقيقية لاكتشاف وتجريب قدراته ومهاراته في قنص الطرائد الحية، وتطويعه على الخضوع. والعادة جرت أن يترك الصقار صقره يقتات على الطريدة التي يقنصها. بيد أن الأمور تغيرت كثيرا في السنين الأخيرة، لتقلص أماكن صيد الطرائد التي تنفع في تغذية الصقور على نحو دفع القواسم إلى الاقتصار على تربية الصقور، دون استعمالها في القنص.
وتفيد الملاحظة الميدانية بأن القواسم يشترون من الأسواق القروية الأسبوعية طيور حمام لصقورهم لتتغذى عليها، بعد أن انحسر مجال الصيد على نحو لم يعد يسمح باعتماد الجوارح على الطرائد البرية لغذائها. يفحصون الحمائم جيدا حتى لا تكون مريضة أو بها علة تهدد صحة الصقر الذي سوف يقتات عليها. ويحتفظون بالحمام في أقفاص كبيرة، فيطعمونها له إذ يقدمونها طعاما حيا بمعدل طائر حمام لكل صقر في اليوم. وتتم العملية بالشكل التالي: يخرج القاسمي صقره مرة في اليوم إلى الحقل (في الصباح عادة ) في محاكاة لرحلة صيد، ويجعله يصطاد طير الحمام المربوط إلى خيط كما يفترض به أن يفعل في البرية. وتأتي أهمية هذه الطريقة من كونها تلبي الحاجة الغريزية للصقر إلى الطيران والقنص.
«إن الصقر بالنسبة إلى الواحد منا في مقام أحد أبنائه»، عبارة تسمعها تتكرر في أحاديث كل صقاري القواسم دون حرج. لكن عندما تقترب من تفاصيل حياتهم اليومية تكتشف بأن الصقر أقرب إلى الصقار من أهله جميعا، بدليل أن كثيرا من مربي الصقور الفقراء يقدمون اللحم لتغذية الصقر ولا يقدمونه لأسرهم!.
التهجين يهدد الصِّقارة
أصبح الولع بتربية الجوارح هواية صعبة بعد أن أصبحت الصقور مهددة بالانقراض في المغرب، مثل الكثير من أصناف الحيوان الأخرى المحمية بقوة القانون، الذي يمنع صيدها ويقنن تداولها. وفي هذا الاتجاه تحولت جزر الصويرة إلى محمية طبيعية لأصناف من الصقور البحرية التي منها المتوطن ومنها المهاجر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصقور الجبلية في الأطلس. لكن الحماية تظل غالبا نصوصا على الورق، إذ تكفي جولة عابرة بين محلات بيع طيور الزينة مثلا، لاكتشاف أن بعضها يعرض للبيع صقورا إلى جانب حيوانات أخرى مشمولة بالحماية. وحسب مصدر مطلع فإن أغلب تلك الجوارح يتم الحصول عليها من خلال عمليات التفقيس الاصطناعي.
ويهدد ذلك بتلويث الصقور التي تعيش في البرية. «لقد أصبح الحصول على صقر يسيرا مع انتشار أجهزة التفقيس، يشرح الصقار سعيد طويل، والمشكل أن بعضهم عندما يهرب منه صقره أو يتخلص هو من صقره فإن هذا الأخير يتيه في البرية فاقدا بوصلة العيش في الطبيعة لأنه نتاج للتفقيس الاصطناعي وليس الطبيعي. والخوف أن يتزاوج هذا النوع من الصقور غير الطبيعية مع تلك التي تعيش في الطبيعية فتنتج عن ذلك أصناف مهجنة، تغزو مواطن الصقر البري».
كما أن مخاطر كثيرة أخرى تتهدد الصقور سواء البرية منها أو المدجنة، ومنها تهور بعض القناصين الذين يطلقون عليها النار إما بالخطأ أو بالقصد، بمبرر أنها تزاحمهم على الطرائد.. فضلا عن مخاطر انتشار المبيدات الزراعية التي تسمم الطيور والفرائس التي تقتات عليها الصقور، فتتعرض بدورها للتسمم والنفوق.
لقد استكانت الصقور المدجنة إلى راحة قسرية أعفتها طويلا من القنص الذي هو غريزة متأصلة فيها، بحيث أصبحت جزءا من الفولكلور المحلي. ومن نتائج ذلك أن الإقبال على اقتناء الصقور وتدجينها لم يعد يغري كثيرا الأجيال الجديدة من القواسم، كما كان عليه الأمر سابقا. وينعكس ذلك بجلاء من خلال أعمار الصقارين الذين حجوا إلى فعاليات المهرجان، كمتفرجين في الغالب لا كصقارين. ولعل ذلك يمثل أكبر تهديد بانقراض الصقارة عند القواسم، ومن المغرب في مستقبل الأيام.

أصل الولع بالصقر أسطورة
في ماضي الزمان، عندما كانت البيازة [الصقارة] مهنة قائمة الذات يزاولها كثير من الناس في مناطق متفرقة من المغرب، كان البيازون في المغرب قاطبة يعتبرون الولي سيدي علي بلقاسم ولِيَّهم الشفيع، فيتوسلون بركته ويزورون ضريحه. غير أن مصنفات المناقب لا تسمح بإلقاء كثير من الضوء على الشخصية التاريخية لهذا الولي، بحيث لا يملك عنه الباحث سوى نزر يسير مما لم يعد يذكره بعض شيوخ القواسم أنفسهم. ومنه أن وفاته كانت حسب البعض في العام 946 ه/ 1539 م أو 951ه/ 1544 م، حسب البعض الآخر. أما عن علاقة السلف البعيد سيدي بلقاسم بالصقارة فلم يعد القواسم يذكرون شيئا. بيد أن أسطورة قاسمية قديمة تمنح العلاقة بعدا غرائبيا إذ تقول:
«كانت لجد الشرفاء القواسم سيدي علي بلقاسم جنية اسمها (أحا) تخدمه، فكان كلما رغب في الخروج للقنص ينادي عليها لتجمع له جميع صقور الغاب كي يصيد بها. وجرت العادة أن يأكل كل صقر الطرائد التي يقوم بصيدها عند ختام رحلة القنص، ولم يكن سيدي علي بلقاسم يحتفظ منها بشيء لنفسه.
هكذا جرت العادة، إلى أن شعر الولي بدُنُوِّ أجله وخشي أن لا تطيع الصقور أبناءه وحفدته من بعده، فطلب من الجنية أن تجمع له صقور الغاب للمرة الأخيرة. ولما اجتمعت بين يديه، قام سيدي علي بربط كل الصقور من قوائمها، ما أثار لديها حالا من الاستغراب. فسألته الصقور لم فعل بها ذلك.. ورد عليها سيدي علي بأنه اضطر إلى تقييدها لخوفه من أن لا تطيع ذريته بعد وفاته. وهنا تدخل صقر حكيم ليقترح على الولي حلاًّ وسطاً، فقال له: (غطّي لنا عِينِينا، لا عينْ شافْت ولا قلب وْجَع!)
وهكذا تم اختراع غمَّاء الصقور الذي صار أحفاد سيدي علي بلقاسم يغطُّون به عيَنيْ الصقر ويسمونه (الكبِّيل)، بدل تقييد قائمتيه، فلا يزيحونه عنهما إلا لحظة إطلاقه للقنص.
ثم اتفق سيدي علي بلقاسم مع حكيم الصقور على الطريقة التي عليها أن تتفاعل بها مع ذريته، قائلا: (غُوتَة واحدة تْرَدُّو [يقصد الصقر]، ولو كان في جُوفْ السّْما).
عقب ذلك الاجتماع مات سيدي علي بلقاسم وهو مرتاح البال إلى أن بَرَكته، التي سوف تتداول بالتواتر بين أبنائه وحفدته من بعده، سوف تضمن لهم ولاء الصقور إلى أن تقوم القيامة».
ولقد نسج الصقارون القدامى حول حماية بَرَكة الولي سيدي علي بلقاسم لهم حكايات وأساطير تترجم في العمق مدى قوة ارتباطهم الروحي به وبزاويته، لكن أغلبها ضاع بضياع الذاكرة الحية. وخلال العصر الذهبي للصقارة المغربية، كانت قبيلة القواسم توفر لسلاطين المغرب بَيّازين حذقين وصقورا جيدة. وفي المقابل كان القواسم يحصلون من السلاطين على رسائل سلطانية (ظهائر التوقير والاحترام) تعفيهم من التجنيد في الجندية ومن الضرائب ويحصلون بموجبها على هبات.
لكن بانتهاء العصر الذهبي، وخلال السنين الأخيرة من القرن التاسع عشر، حدث أن قطع الصدر الأعظم أحمد بن موسى (الذي اشتهر بلقب «بّا احْماد») عن الصقارين المرتبطين بالقصر المساعدات البسيطة التي كانوا يحصلون عليها من دار المخزن (قصر السلطان)، وفرض عليهم أداء الضريبة التي كانت الأعراف السلطانية تعفيهم منها. وكان مبرر الصدر الأعظم في ذلك أن السلطان لم يعد يمارس هواية القنص بالصقور، وبالتالي لا موجب للعناية بصقّاريه الذين انتهت مهمتهم.
لكن ذلك الوزير القوي تراجع عن قراره بعد أن رأى في المنام الولي سيدي علي بلقاسم، يهدده بالانتقام إن هو تمادى في إساءة معاملة الصقارين الذين يقعون تحت حمايته. فتراجع لذلك وأعفى الصقارين من أداء الضريبة وأعاد صرف ما كانوا يحصلون عليه من بيت المال من مساعدات، ونحر ثلاثة عشر ثورا إكراما للولي الحامي للصقارين.
هكذا روى أحد الصقارين المتضررين من قرار بّا احماد لشاهد أوروبي زار المغرب في بدايات القرن العشرين..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.