1. الرئيسية 2. المغرب إنعاش قطاع يحتضر.. الحكومة تعلن خطة "استيراد" الكفاءات الطبية لوقف انهيار المنظومة الصحية الصحيفة من الرباط الأحد 1 يونيو 2025 - 9:00 في مواجهة خصاص صارخ طالما أنهك منظومة الصحة العمومية بالمغرب، خرجت الحكومة بخطة متعددة الأبعاد، تسعى من خلالها إلى تدارك النقص البنيوي في عدد الأطباء والممرضين، الذي تُرجعه تقارير رسمية إلى ضعف جاذبية القطاع العام، والتوزيع الجغرافي غير العادل للموارد الطبية، خاصة في المناطق القروية والنائية، غير أن هذه المقاربة التي تزاوج بين التوظيف الخارجي، وتوسيع التكوين، والتحفيزات المالية، والإصلاح الإداري، تثير العديد من التساؤلات حول نجاعة التدبير الحكومي ومدى استجابته لأزمة معقدة تتجاوز مجرد الأرقام. في واحدة من لحظات الاعتراف النادرة بطبيعة الأزمة، أقرّ وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أمين التهراوي، بأن ضعف جاذبية القطاع العام، وَحِدَّة المنافسة الدولية على الكفاءات الطبية يشكّلان أحد أخطر التحديات البنيوية التي تواجه المنظومة الصحية الوطنية، خاصة في ظل نزيف غير مسبوق لهجرة الأطر المغربية إلى الخارج. وقدّم التهراوي، في ردّه على سؤال برلماني، تصور الحكومة للخروج من هذا المأزق، معلنا عن خطة متكاملة تقوم على أربع ركائز، هي تعزيز التكوين، تحفيز الموارد البشرية، استقطاب الكفاءات الأجنبية، وتوسيع مناصب التوظيف، في محاولة لتدارك العجز المزمن في الموارد البشرية الصحية، خاصة في المناطق القروية والنائية التي ظلت لسنوات طويلة خارج خريطة العدالة الصحية. القانون 33.21... الانفتاح على الأطباء الأجانب لسد العجز في التخصصات الحيوية من بين أبرز نقاط التحول في هذه الخطة، تفعيل القانون رقم 33.21، الذي دخل حيز التنفيذ رسميا، ويُعد نقلة نوعية في مقاربة التوظيف الصحي، إذ يفتح الباب أمام الأطباء الأجانب لمزاولة المهنة داخل المغرب، وفق حزمة من الإجراءات التحفيزية التي تسعى إلى جذب الكفاءات من الخارج لتعويض النقص الحاد في عدد من التخصصات الطبية. وبحسب ما كشفه التهراوي، يشتغل اليوم داخل المنظومة الصحية المغربية حوالي 580 طبيبا أجنبيا، جرى استقطابهم في إطار هذه المبادرة، لكن هذا الخيار، وإن كان يبدو عمليا على المدى القصير، لا يخلو من إشكالات مهنية وتنظيمية وقانونية، تتعلق بمعادلة الشواهد، مراقبة الجودة، وضمان تكافؤ المعايير، ناهيك عن كونه اعترافا ضمنيا بعجز داخلي عن إنتاج ما يكفي من الأطر أو الاحتفاظ بها داخل المنظومة الوطنية. طبيب واحد من بين كل ثلاثة خارج البلاد في المقابل، تزداد الصورة قتامة مع تنامي ظاهرة هجرة الأطباء والممرضين نحو أوروبا ودول الخليج، بحثًا عن ظروف عمل أفضل، فحسب تقرير سابق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، يتراوح عدد الأطباء المغاربة العاملين بالخارج بين 10 آلاف و14 ألف طبيب، ما يعني أن ثلث الكفاءات الطبية المغربية تمارس خارج أرض الوطن. واقع مأساوي، يضاعف من حدة الخصاص الداخلي، حيث تشير المعطيات الرسمية إلى أن البلاد بحاجة إلى ما لا يقل عن 32 ألف طبيب إضافي لسد العجز القائم، في وقت لا يتجاوز فيه عدد الأطباء العاملين حاليًا 23 ألفًا، يتوزعون على 9,021 طبيبًا في القطاع العام، و14,622 طبيبًا في القطاع الخاص. وكردّ على هذا النزيف، أعلنت وزارة الصحة عن رفع تدريجي لمناصب التوظيف في القطاع، حيث انتقل عدد المناصب المخصصة للأطر الصحية من 4,000 سنة 2019 إلى 6,500 منصب متوقعة في سنة 2025، ما يُمثل زيادة بنسبة 62.5% خلال ست سنوات، ولأول مرة، تم تفويض تنظيم مباريات التوظيف للجهات، في إطار تجسيد الجهوية الصحية وتوزيع العروض حسب الحاجيات الترابية. واعتمدت الوزارة منذ أواخر 2020، أي مع الحكومة السابقة مبدأ اللامركزية في مباريات التوظيف، عبر تفويض الوزير السابق خالد أيت الطالب، صلاحيات التنظيم للمديريات الجهوية، ما يسمح بأخذ خصوصيات كل جهة بعين الاعتبار، خاصة تلك التي تعاني من عزوف مزمن للأطباء العامين والمتخصصين. اتفاقية ثلاثية بأكثر من 3 مليارات درهم: الاستثمار في الكوادر قبل البنايات في سياق مواكبة هذه الدينامية، تم التوقيع سنة 2022 على اتفاقية إطار جمعت بين وزارات الصحة والتعليم العالي والمالية، وتهدف إلى تعزيز كثافة مهنيي الصحة في أفق 2030، عبر استثمار يفوق 3 مليارات درهم. وتشمل الاتفاقية إجراءات طموحة، من قبيل الرفع من عدد المقاعد البيداغوجية في كليات الطب ومعاهد التمريض، وإحداث مختبرات بحث وفرق علمية متخصصة، بما يضمن تكوينا أكاديميا وعلميا أكثر عمقا وجودة. وفي محاولة لوقف هجرة الأدمغة من المصدر، أعلنت الوزارة عن تدابير لتحسين الوضع الإداري والمالي للأطباء والممرضين، شملت منح الرقم الاستدلالي 509 للأطباء الجدد منذ بداية مسارهم المهني، الرفع من قيمة التعويض عن الأخطار المهنية، دخول نظام الوظيفة الصحية حيز التنفيذ، يتضمن أجرًا متغيرًا وتعويضات خاصة بالعمل في المناطق النائية. وتهدف هذه الإجراءات، بحسب الوزير، إلى خلق بيئة عمل أكثر استقرارا وجاذبية، بما ينسجم مع التوجيهات الملكية السامية الرامية إلى إصلاح عميق للمنظومة الصحية الوطنية، وتعميم التغطية الصحية الشاملة، وتحقيق العدالة المجالية في توزيع الأطر والخدمات. من جهة ثانية، فرغم تعدد المبادرات الرسمية، يرى مراقبون وخبراء في المجال أنه لا يعدو أن يكون الامر استجابة تقنية لأعراض أزمة بنيوية أعمق لم تَمسّ بعد عمق الخلل في الحكامة، وتعدد المتدخلين، وسوء توزيع الموارد والمهام، ولعلّ الجواب يوجد في أحد أكثر المؤشرات وضوحا، فكل طبيب يغادر المغرب اليوم، يكلف الدولة سنوات من التكوين وعشرات الملايين من الدراهم... ويُفرّغ المنظومة من نخبتها الأكثر تأهيلا. في هذا السياق، قدّم الدكتور عبد الجليل خراز، أستاذ السياسات الصحية والباحث في النظم الصحية، ل "الصحيفة" قراءة عميقة وموسعة للمشهد الحالي، قال فيها، إن "ما يجري اليوم لا يُمكن التعامل معه باعتباره مجرد نقص في عدد الأطباء أو أزمة توظيف، بل هو انعكاس لانهيار منظومة تفقد تدريجيا قدرتها على إنتاج الثقة والفاعلية دون أن تتمكن الحكومة الحالية أو حتى سابقاتها تحقيق إصلاح مهم". وأردف المتحدث: "حين يختار الطبيب المغربي أن يهاجر بعد سنوات طويلة من التكوين، فهو لا يغادر فقط من أجل راتب أعلى، بل لأنه لم يعُد يجد داخل النظام الصحي ما يشجعه على الانتماء إليه.. غياب الاعتراف، غموض المسار المهني، التهميش الإداري، وتحول المؤسسات الصحية إلى فضاءات بيروقراطية مُرهِقة، كلها عوامل تدفع الكفاءات للمغادرة". واعتبر الخبير أن خطوة فتح باب الممارسة أمام الأطباء الأجانب قد يكون حلا استثنائيا مرحليا، لكنه لا يجب أن يتحول إلى بديل عن إصلاح المنظومة الوطنية، ولا يمكن الحديث عن سيادة صحية دون اكتفاء ذاتي في الكفاءات، كما أن ضخ الملايير دون تغيير نمط الحوكمة يجعلنا نُكرر إنتاج العطب نفسه، وإن بأدوات جديدة. المطلوب حاليا، وفق خراز، هو تغيير جذري في فلسفة الصحة العمومية، "يربط الحق في العلاج بالكرامة المهنية، ويجعل من الطبيب والممرضة شريكين في صياغة القرار، لا مجرد أدوات تنفيذية تحت الضغط". ووضع خراز إصبعه على جوهر الأزمة، مشددا على أن السياسة الصحية لا يجب أن تُختزل في مناصب وأرقام، بل في بنية ثقة مفقودة بين الدولة ومهنييها، وبين المواطن والمؤسسة العمومية، موردا: "فإصلاح الصحة، في نظره، لا يبدأ من المراسيم الوزارية، بل من تصور جديد يعتبر الحق في العلاج أولوية وطنية، لا بندًا تقنيًا في ميزانية الدولة". المحصلة أن خطة الحكومة، حسب الخبير "رغم مؤشرات الانفتاح والتحفيز التي تحملها، لن تُكتب لها الفاعلية إن لم تُدرج ضمن تصور متكامل للعدالة الاجتماعية، والإنصاف المجالي، والحكامة التشاركية.. فالصحة، في نهاية المطاف، ليست ورشا إداريا، بل رهانا استراتيجيا على الاستقرار المجتمعي وكرامة الإنسان المغربي".