ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الجيش المغربي يستفيد من التجارب الدولية في تكوين الجيل العسكري الجديد    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الوهاب المسيري.. مفكر القرن الخالد
نشر في التجديد يوم 03 - 07 - 2009


تمثل الذكرى الأولى لرحيل المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري رحمه الله، لحظة للتذكر والتفكر ولحظة للمعرفة والإرادة والتأمل، يبدأ منها جيل تلاميذه في استكمال مساره التجديدي وتحمل المسؤولية الفكرية، لاستئناف جهود المسيري في إبداع نماذج تحليلية وتفسيرية جديدة تنفتح على الأفق الإنساني، وتتطلع إلى تجديد المنهجية المعرفية العربية الإسلامية. شكل المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري حالة متميزة وفريدة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حالة ترتقي إلى حد الاستثنائية، ليس فقط بالنظر إلى شمولية اهتماماته المعرفية في مجالات الأدب والنقد وفلسفة التاريخ والعمل الموسوعي والترجمة، ولكن بالنظر أساسا إلى أصالته الإبداعية في مجال التنظير الأكاديمي والاجتهاد المنهجي والنحت الاصطلاحي والمفاهيمي. كما يعد المسيري أحد أبرز المهتمين بالقضايا المعرفية والمنهجية، حيث طور دراسة النماذج المعرفية وتعمق في دراسة الفكر الغربي والحضارة الغربية، من خلال بناء معالم منهجية إبستيمية في التعامل مع التراث الإنساني عموما والتراث الغربي خصوصا، تعاملا علميا ونقديا يستوعب إيجابياته ويتجاوز قصوره وسلبياته، وإعمال آلية النقد من الداخل، بما يمنح القدرة على تحسين الأداء النظري والتفسيري في محاولة إدراك الواقع بشكل أكثر تركيبا، دون الاستنامة للمقولات الاختزالية والجاهزة. الظاهرة المسيرية الخالدة: يمكن اعتبار الحالة التي يمثلها المسيري رحمه الله ظاهرة بحد ذاتها، لا يمكن فك رموزها إلا من خلال تطبيق ما أنتجه من مفاهيم ومنهجيات عليها، تلك التي صاغها حول النموذج المعرفي وتطبيقه في دراسة الظواهر الإنسانية، من أجل دراسة وبحث الظاهرة المسيرية. لقد جسدت مسيرة عبد الوهاب المسيري مسار الباحث المهموم بشؤون العلم والمعرفة والمحترق بنار الأسئلة القلقة والإشكالات المركبة؛ حيث عرفت رحلته الفكرية منعطفات مفصلية وتحولات عميقة، ابتدأت بالمسيري التقليداني والمحافظ إلى المسيري القومي الساذج، مرورا بالانتماء إلى الإخوان المسلمين ثم تبني الماركسية لتتوج بالارتباط بالإسلام المتحرر والمنفتح، واعتماده أرضية للاجتهاد والنهضة الحضارية؛ والغريب في ذلك أن الرجل وهو يتحول إيديولوجيا لم يتحول سلوكيا وقيميا، فقد ظل شخصا مستقيما، بل حتى فترة شيوعيته اعتبرها المسيري ماركسية على سنة الله ورسوله. يقول المسيري في ذلك:(...) بدأت مسيرة الإلحاد، ورغم أنني في ذلك الوقت لم أكن أؤمن بالله، إلا أنني كنت أؤمن بالقيم المطلقة للإنسان والقيم المطلقة للأخلاق، وكان هذا الإيمان بالمطلقات يتنافى مع الإلحاد الكامل، وهو إيمان بثوابت ومنطلقات لا يمكن أن تستند إلى عالم المادة وعالم الطبيعة، ولكنها تستند إلى الله، ويمكن القول إن هذه الفترة هي مرحلة التساؤل العميقة 1(...) لقد التحقت في بداية حياتي لفترة قصيرة بـالإخوان المسلمين في مرحلة الصبا، ثم اتجهت إلى الماركسية، وعشت مرحلة من الشك ولكن مع الالتزام بالقيم المطلقة مثل الحق والخير والجمال والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي وضرورة إقامة العدل في الأرض، وبالتدريج وعلى مدى رحلة فكرية استغرقت أكثر من ثلاثين عاما عدت مرة أخرى إلى الإسلام لا كعقيدة دينية وحسب ولا كشعائر، وإنما كرؤية للكون وللحياة وكأيديولوجية، فرغم التحولات التي مررت بها، فإن مكونات رؤيتي وعناصرها الأساسية لم تتغير، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية، ورغم تغير المنهج. فجوهر رؤيتي للعالم أن الإنسان كائن فريد وليس كائنا ماديا.2 ويضيف المسيري:إن الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية؛ إنها سيرة إنسان يلتقي في فضاء حياته الخاص بالعام.3 الأبعاد المنهجية في مشروع المسيري: اكتسب المسيري خصائص لا تكاد تجتمع لأحد وقلما تتوفر للكثيرين واحدة منها، تتمثل أهم هذه الخصائص في كونه مفكرا منهجيا بامتياز، طور النماذج التفسيرية والتحليلية سواء في أبحاثه في الصهيونية أو أبحاثه في العلمانية أو دراسته في النقد الأدبي، حيث تميزت المدرسة الفكرية المسيرية على غيرها من المدارس بإعادة التفكير في طرق التفكير السائدة بهدف تطوير الأداء التنظيري والتفسيري الذي يمكن من إدراك الواقع بشكل أكثر تركيبا، حسب ما جاء في موسوعته، التي قدم فيها سلاحا معرفيا فاعلا في الصراع مع الصهيونية. وتتجلى هذه الأبعاد المنهجية عنده في قدرته على توظيف النماذج التفسيرية كأدوات تحليلية، وهي إضافة منهجية ونوعية أنتجت عملا فكريا متكاملا في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وفي أعمال أخرى تتوزع على حقول معرفية مختلفة ومترابطة في الآن نفسه، فهو يربط بين دوائر فكره المختلفة ربطا مركبا عبر نماذج تحليلية، مما جعله يتميز بالترابط المنهجي بين مجالات بحثه المتباعدة نظريا، فمدخله إلى الصهيونية كان دراسته الأدبية، ومن الصهيونية وصل إلى العلمانية ثم إلى ظاهرة التحيز. إذ لا يرى المتتبع لمشروعه تناقضا في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر والحداثة، ويكتب في العلمانية كنموذج معرفي، وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ، وفي الخطاب الإسلامي الجديد بل وحتى في قصص الأطفال، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة، وبهذا تحول النموذج التفسيري لدى المسيري إلى كائن معرفي حي، يتفاعل مع الظاهرة معرفيا، وينمو معها فهما وتفسيرا وتنبؤا. بل يلاحظ المتتبع لأعماله الإصرار على نقد المنهج وبناء المنهج، في حركة دافعة إلى الأمام عرضا للأفكار، ونزولا إلى الجذور، وغوصا في الأعماق، وتأسيسا واعيا لمفهوم التحيز، الذي لن ننهض بدونه، فالتحيز عنده مسألة حتمية في الخطاب الإنساني، مرتبط ببنية العقل الإنساني ذاتها، فالعقل الإنساني لا يدرك الواقع مباشرة وإنما يدركه من خلال نموذج معرفي محمل بالأشواق والأوهام والذكريات والأساطير والمصالح، ولذلك تأتي أهمية كتابات المسيري محاولة واعية لفهم الآخر ونقد الذات في فهمها للآخر، ثم الارتقاء إلى مرحلة الوعي للنماذج الإدراكية وبناء تلك النماذج وتأثيرها في الواقع، وبيان موقعها في شبكة الإدراك وصلة ذلك كله بالسلوك الإنساني. ومن ناحية أخرى، تكمن أهمية ما يقدمه في تأسيس نقده للخطاب الغربي على أدوات تحليلية مقاومة ومؤسسة لمسار جديد في الخطاب المعرفي الإسلامي المعاصر، يضمن للمناهج العلمية استقلالا من القفص الحديدي الأكاديمي الغربي وتحررا منه؛ وهذا لا يعني قطيعة معرفية مطلقة مع ما أنتجته الحضارة الغربية، بل يُعَدُّ من قبيل الاستيعاب والتجاوز. لقد قدم لنا مشروع مدرسة حضارية تؤمن بقدرة العقل الإنساني على إنتاج وإبداع المعرفة، فلم تكن الخريطة المعرفية المسِيِرِيِة خريطة فوتوغرَافِية، ترى الواقع في وقائعه الـمتَنَاثرة ولا تَتَجاوزه وتتخطاهُ، إلى رؤية هذه الوقائع من خلال لَمِّ شَعَثِ محركاتها عبرنماذج مجردَة، وما ذلك إلا لأنَه يرى في العقل قدرة خلاقة ومبدعة وليس صفحة بيضاء، تتدحرج علَيها الصور الفوتوغرَافِية بجمود، بلَ شاكس لدحض هذه العَقلية الاختزالِية التي أصبحت سائدة بشكل مرضي في الأكاديميات العربية وَالإسلامية عموما، من خلال امتلاك القدرة على التفكير المختلف، المتسم بالروح التجديدية البعيد عن الوقوع في فخ النمطية أو التقليدية. المثقف العضوي والمناضل الصلب لم يكن الراحل موسوعيا فقط، فإلى جانب إسهاماته الفكرية لم ينس دوره الكفاحي والنضالي، فأصبح مهموما بقضايا أمته ومهووسا بقضايا وطنه، حيث شارك بصلابة في النضال السياسي، ليمثل بذلك نموذجا للمثقف الذي يخرج من برجه العاجي ليتقدم المظاهرات الاحتجاجية، وليقود حركة التمرد السلمي في الشارع، ويجسد نموذج المثقف الذي لا يريد البقاء منعزلا عن هموم مجتمعه، وقد وصل نضاله مداه من مواجهة الصهيونية مرورا بمواجهة العولمة وانتهاء بالانخراط في الحركة المصرية للإصلاح والتغيير (كفاية) وتزعمها، فبالرغم من صعوبة المرض الذي ألم به، ظلت روحه المتألقة والشفافة الأقوى إرادة والأصلب عودا لسنوات، تحمل معها عناء الألم، وألم المضايقات الأمنية وهمجيتها، حيث أعطى المسيري وأنتج للأمة ولكنه ناضل بين أحضان الوطن. كانت آخر كلمات المسيري قبل رحيله - حسب زوجته- معبرة عن أمنياته بأن يرى تداولا للسلطة في مصر، ودعوته المصريين للالتفاف حول حركة كفاية وغيرها من حركات المعارضة الداعية للتغيير والإصلاح في مصر، هكذا هو المعنى عند الدكتور عبد الوهاب المسيري ولادًا متجددًا دائمًا متدفقا، محطما الحدود بين النضال الأكاديمي والنضال السياسي على أرض الواقع، ولاحما بذلك البعد الأكاديمي بالبعد النضالي، ومكسرا المسافات بين عالم العواطف وعالم الأفكار، بين الذاتي والموضوعي. لقد ترك لنا المسيري دروسا بالغة، لعل أهمها درس الإبداع والتجديد عوض التقليد والجمود، ودرس الانحياز للتركيب بدل التبسيط والتجزيء، وحتمية التَّحيُّز لفكرة النموذج على حساب النزعة المعلوماتية، كما أعاد ربط المعرفة بالقيم من خلال طرح الأسئلة الكلية والنهائية، وكافح بشراسة من أجل الرؤية الإنسانية المتجاوزة على حساب الرؤية المادية/الطبيعية، مدافعا بذلك عن الإنسان ومقاوما كل محاولات مسخه وتفكيكه وتسليعه عبر علمنته الشاملة، فيما دافع عن رحابة التراحم في المجتمع رافضا اختراق الآليات التعاقدية لبنيته، كما علمنا المسيري أنه لا قيمة للفكر إذا لم يتحول إلى فعل حي ملهم للجماهير ومعبر عن آمالها وتطلعاتها، ومنحاز لهمومها وقضاياها، يسهم في تمليكهم وعي اللحظة والإحساس بالتحديات ومواجهتها. بكل جدارة، يعتبر المسيري صاحب مفاهيم نظرية كلية جديدة في الخطاب العربي المعاصر، من قبيل: العلمانية الشاملة والجزئية، النزعة الجنينية والنزعة الربانية، الحلولية الكمونية، الواحدية، التحوسل، التحيز المعرفي...والتي كانت ولادتها جزءا من جهد نظري خاص، يجعل إدراك المسيري للظواهر والتحولات والتحديات والمآلات في الفعل السياسي والنضالي إدراكا أكاديميا عميقا ذا خلفية معرفية متعددة ومركبة الأبعاد. خلف المسيري وراءه تراثا فكريا وأكاديميا ونضاليا، تحتاج الأجيال الجديدة إلى استلهامه والاهتمام به وتطويره، وتحويله إلى مشروع علمي نضالي إصلاحي، وتجاوز حالة تقصير العقل الإسلامي المعاصر عن الاستفادة من جهوده واستثمارها في تطوير استراتيجيات وبرامج عملية، والاسترشاد المؤسسي بها في بناء نظريات للتغيير والإصلاح والتجديد، واستكمال الرسالة التي حملها الرجل على عاتقه، من خلال تأسيس فضاءات لتجميع الجهود العلمية والمنهجية لدراسة وتطوير المشروع الفكري للمسيري، تنطلق منه ولا تقتصر عليه، تنفتح على عطاءاته في دراسة الفكر الإنساني والتراث المعرفي، لكن تنتقده وتتجاوزه نحو آفاق أرحب في التجديد والمعرفة، وهذه مسؤولية المؤسسات البحثية والأكاديمية والمجتمعية في احتضان الطاقات الشابة ورعايتها لإنتاج مسيريات جدد في الأمة الإسلامية. سلمان بونعمان باحث في العلوم السياسية üüüüüü 1 حوار مع عبد الوهاب المسيري، مجلة مراجعات، العدد,2 شتنبر2000 2 عبد الوهاب المسيري، في آخر حواراته المنشورة على موقع إسلام أولاين. 3 عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور و الثمر، دار الشروق، الطبعة الثانية2006 ص 14 المسيري: البذور والجذور والثمر الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري، مفكر عربي إسلامي وأستاذ غير متفرغ بكلية البنات جامعة عين شمس. وُلد في دمنهور 1938 وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي (مرحلة التكوين أو البذور). التحق عام 1955 بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الأسكندرية وعُين معيدًا فيها عند تخرجه، وسافر إلى الولايات المتحدة عام 1963 حيث حصل على درجة الماجستير عام 1964 (من جامعة كولومبيا) ثم على درجة الدكتوراة عام 1969 (من جامعة رَتْجَرز زُِّّهمَّْ) (مرحلة الجذور). وعند عودته إلى مصر قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها جامعة الملك سعود (1983 ـ 1988)، كما عمل أستاذا زائرًا في أكاديمية ناصر العسكرية، وجامعة ماليزيا الإسلامية، وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام (1970 خ 1975)، ومستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك (1975 خ 1979). وهو الآن عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بليسبرج، بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في ماليزيا وإيران والولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا (مرحلة الثمر). قدَّم الدكتور المسيري سيرته الفكرية في كتاب بعنوان رحلتي الفكرية ـ في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية (2001) حيث يعطي القارئ صورة مفصلة عن كيف ولدت أفكاره وتكونت والمنهج التفسيري الذي يستخدمه، خاصة مفهوم النموذج المعرفي التفسيري. وفي نهاية الرحلة يعطي عرضًا لأهم أفكاره. وسيصدر هذا العام كتاب من تحرير الأستاذة سوزان حرفي، الإعلامية المصرية، تحت عنوان حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيرى، وهو يغطي كل الموضوعات التي تناولها الدكتور المسيرى في كتاباته ابتداءً من رؤيته في المجاز ونهاية التاريخ وانتهاءً بأفكاره عن الصهيونية. يذكر الدكتور المسيري في هذه الرحلة بداية اهتمامه بالموضوع اليهودي والصهيوني، فكانت أول كتبه هو نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني (1972)، وصدر بعدها موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية (1975)، كما صدر له عام 1981 كتاب من جزأين بعنوان الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة (1981). وفي هذه الفترة صدرت له عدة دراسات باللغة الإنجليزية من أهمها كتاب أرض الوعد: نقد الصهيونية السياسية (1977). وقد قرر الدكتور المسيري أن يُحدِّث موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية وتصور أن عملية التحديث قد تستغرق عامًا أو عامين، ولكنه اكتشف أن رؤيته في هذه الموسوعة كانت تفكيكية، وأن المطلوب رؤية تأسيسية تطرح بديلاً. فكانت الثمرة أنه بعد حوالي ربع قرن نشر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد (1999) وهي من ثمانية مجلدات. وقد صدر له أثناء ذلك الوقت وبعده عدة كتب في نفس الموضوع من أهمها البروتوكولات واليهودية والصهيونية (2003). في الخطاب والمصطلح الصهيوني (2005 2003). من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟ أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية (2008). وسيصدر هذا العام كتابين: الأول بعنوان تاريخ الفكر الصهيوني: جذوره ومساره وأزمته والثاني بعنوان أزمة الصهيونية ونهاية إسرائيل. واهتمامات الدكتور المسيري الفكرية تتجاوز الموضوع الصهيوني، بل انه يعتبر موسوعته مجرد دراسة حالة، في إطار مشروعه النظري. فقد صدر له كتاب من جزأين بعنوان إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (1993)، والعالم من منظور غربي (2001)، والفلسفة المادية وتفكيك الإنسان (2002)، والحداثة وما بعد الحداثة (2003)، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2002)، ورؤية معرفية في الحداثة الغربية (2006). وسيصدر له خلال هذا العام كتاب من عدة مجلدات يضم أعمال مؤتمر حوار الحضارات والمسارات المتنوعة للمعرفة- المؤتمر الثاني للتحيز الذي عُقد في فبراير 2007 بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة. وقد ظل الموضوع الأدبي (حبي الأول كما يقول الدكتور المسيري في رحلته الفكرية) ضمن اهتماماته الأساسية. فصدر له كتاب مختارات من الشعر الرومانتيكي الإنجليزي: بعض الدراسات التاريخية والنقدية (1979) وعدة كتب بالعربية والإنجليزية في أدب المقاومة الفلسطينية، واللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود (2002). وللدكتور المسيري ديوان شعر بعنوان أغاني الخبرة والبراءة: سيرة شبه ذاتية شبه موضوعية (2003) وصدر للدكتور المسيري ديوان شعر وعدة قصص للأطفال. وقد صدر له عام 2007 عدة كتب فى النقد الأدبى: الملاح القديم للشاعر صمويل تايلور كوليردج: طبعة مصورة مزدوجة اللغة (عربى-إنجليزى) مع دراسة نقدية، ودراسات فى الشعر وفى الأدب والفكر. تُرجمت بعض أعمال الدكتور المسيري إلى الإنجليزية والفارسية والتركية والبرتغالية. وسيصدر هذا العام إن شاء الله الترجمة الفرنسية والإنجليزية لسيرته الغير ذاتية والغير موضوعية، رحلتي الفكرية. كما سيصدر كتاب باللغة العربية والإنجليزية والعبرية بعنوان دراسات في الصهيونية.وقد نال الدكتور المسيرى عدة جوائز من بينها جائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام (2000) عن موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ثم عام (2001) عن كتاب رحلتي الفكرية، وجائزة العويس عام (2002) عن مجمل إنتاجه الفكري. كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام (2004). وقد نال عدة جوائز محلية وعالمية عن قصصه وعن ديوان الشعر للأطفال.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.