سيكون من الضروري اعتبار البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، بخصوص تدبير مجال السياسة الخارجية في الرد على بيان الأمانة العامة لحزب عبد الإله بنكيران، في عمقه، تأطيرا ملكيا لمقاربة العلاقات الدولية الحالية للمملكة. وإذا كان البلاغ من طينة البلاغات التي تضع النقط على الحروف في المجال الديبلوماسي، حسب الاحترام الدقيق لمقتضيات الدستور فهو في الوقت ذاته تذكير بالثوابت الأساسية للمملكة في إحدى أشد القضايا حساسية بالنسبة للمغرب والمغاربة ألا وهي القضية الفلسطينية. وحري بالمتتبع أن يعود أولا إلى بلاغ الأمانة العامة، والذي كان وراء التذكير بالثوابت، وهو بلاغ «استهجنت» فيه قيادة البيجيدي «المواقف الأخيرة لوزير الخارجية الذي يبدو فيها وكأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الإفريقية والأوروبية، في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الإجرامي على إخواننا الفلسطينيين ولا سيما في نابلس الفلسطينية».. بطبيعة الحال فهذا الموقف استوجب التنبيهات الثلاث التالية : 1 ثبات موقف المغرب من القضية الفلسطينية باعتباره موقفا «لا رجعة فيه»، تعد فيه القضية «من أولويات السياسة الخارجية لجلالة الملك». 2 السياسة الخارجية اختصاص دستوري حصري لجلالة الملك «يدبره بناء على الثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية» وهو ما يعني التذكير بالمعنى الذي حدد به المغرب زاوية النظر إلى علاقاته كلها، أي باعتبار «قضية الصحراء النظارات التي ينظر بها إلى العالم». ولا تختلف علاقة المغرب مع أمريكا أو اسرائيل أو الكونغو عن بعضها من هذه الزاوية.. 3 التحذير من كون «استغلال السياسة الخارجية للمملكة في أجندة حزبية داخلية يشكل سابقة خطيرة ومرفوضة». وهنا يحسن بالملاحظ الانتباه إلى عدم الإساءة إلى تقدير معنى هذا الرد، حيث لا يختص به حزب العدالة والتنمية لوحده، عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الخارجية للمغرب. ولعل الأمين العام لحزب البيجيدي هو الأكثر قدرة على التقاط هذا المعنى، حيث كان الشخص الذي كلفه ملك البلاد وهو وقتها رئيس الحكومة رفقة ناصر بوريطة وهو وقتها الوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون بالتوجه للقاء الرئيس الموريتاني. وطلب منه جلالة الملك «تبديد كل سوء فهم قد يكون له تأثير سلبي على العلاقات الممتازة القائمة بين المغرب وموريتانيا» وكان ذلك عقب التصريحات الشهيرة لحميد شباط، الأمين العام السابق لحزب الاستقلال في 2016. فقد سبق أن صدر بلاغ في الموضوع، صادر عن الديوان الملكي لوضع النقط على الحروف واتخاذ مسافة لازمة مع تصريحات شباط التي خلقت زوبعة في الشقيقة موريتانيا.. العنصر الآخر الذي لا بد من التقاطه في البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، هو أن الإيحاء المضمر في بيان الأمانة العامة للبيجيدي، والذي قد يفيد بأن هناك موقفين، واحد تعبر عنه قيادة البيجيدي يساند القضية الفلسطينية وموقف ثان يُفهم منه دفاع الخارجية المغربية عن إسرائيل (هذا الإيحاء) مرفوض جملة وتفصيلا، وعليه فإن هذا النزوع المستتر إيدولوجيا ماكرة، كان بلاغ الديوان الملكي قد حسم معها منذ عبارته الأولى... وذلك بالتأكيد على كون القضية الفلسطينية التزام وطني جماعي للمغاربة، تَضْمنه الملكية المناضلة. ومن العناصر التي لا يمكن إغفالها في التحليل، الإشارة في الفقرة الأخيرة إلى إن «استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل تم في ظروف معروفة وفي سياق يعلمه الجميع»، ضمن مقاربة تشاركية انخرطت فيها القوى الحية في البلاد. وقد كان لافتا للانتباه أن بلاغ الديوان الملكي ذكَّر أصحاب الأمانة العامة للبيجيدي بأنهم كانوا جزء من القوى المعنية بهذه الإحالة، ويستفاد من سياق العبارات التالية أن الأمين العام الحالي نفسه، كان على علم باعتبار أنه «تم إخبار القوى الحية للأمة والأحزاب السياسية وبعض الشخصيات القيادية وبعض الهيئات الجمعوية التي تهتم بالقضية الفلسطينية بهذا القرار، حيث عبّرت عن انخراطها والتزامها به». وهو أمر غير قابل للتجاهل.. وخلاصة القول: لقد أرغم البيجيدي نفسه على التنكر لمواقفه السابقة وأراد أن يرغم الرأي العام على نسيان مسؤوليته في التوقيع على الاتفاق، في محاولة هروب غير موفقة، وكان لابد من وضع النقط على الحروف أمام نزوعه في البحث عن تميز تمليه الحسابات العابرة. وفي الأخير: ألم يكن حريًّا بالبيجيدي أن يعيد قراءة تصريحات ومواقف ورسائل الفلسطينيين أنفسهم في الإشادة بالمغرب ورئيس لجنة القدس في الفترة الآخيرة لوحدها، لكي يعرف مواقف أصحاب القضية أولا، وتقديرهم للسياسة الخارجية المغربية حاليا، ثانيا؟