لا اختلاف في الأوساط الإفريقية، السياسية منها والإعلامية، في كون روابط الصداقة وحتى مشاعر الثقة بين فرنسا والقارة الإفريقية آخذة في التصدع والاهتزاز منذ تولي إيامويل ماكرون الرئاسة، ومعه أصبح الفتور والاحتراس السمتان الغالبتان في علاقاتهما بسبب الضبابية التي تلف أداء الدبلوماسية الفرنسية منذ السنتين الأخيرتين، وأيضا نتيجة سياسة “الاستعلاء” والتغول التي يتقنها الرئيس الفرنسي في تعامله مع القادة الأفارقة، ونظرته الدونية للفرد الإفريقي بشكل عام.. وأبرز سمات التعالي والحط من قدر نظرائه الأفارقة، تجلت قي دعوته يوم 4 دجنبر الجاري خلال قمة الناتو، رؤساء دول الساحل الإفريقي بصيغة الآمر، وبلهجة استعلائية تدعو إلى التقزز والاشمئزاز، إلى اجتماع “توضيحي” يوم 16 دجنبر بفرنسا، أو بالأحرى اجتماع استنطاقي بخصوص موقفهم من التواجد الفرنسي بالمنطقة، ومما أسماها ب”مشاعر العداء الإفريقي لفرنسا”. الدعوة “الاستعلائية” التي قرأ فيها الكثيرون إصرارا مقصودا من ماكرون على تقزيم إفريقيا وتحجيم مكانتها، ليست ردا انفعاليا عن سؤال محرج أو فلتة لسان عابرة يتم تصحيحها على التو، بل هو خطاب أعده بعناية للقمة العشرينية، واعتبره المتتبعون نزعة تفوقية في غير محلها. ثم إن استنطاق الأفارقة بشأن موقفهم من التواجد الفرنسي بالمنطقة، ومن مشاعر العداء الإفريقي لبلاده، هو محاولة من قاطن الإليزيه لتجريم إفريقيا أمام القمة العشرينية، وتلميع صورة بلاده التي فقدت في عهده الكثير من بريقها، متجاهلا عن قصد أو غيره بأن النفور الإفريقي من التواجد الفرنسي يرتكز اليوم على حقائق عدة لا لبس فيها، تتمثل الأولى في كون مثل هذا التواجد عسكريا كان أو سياسيا واقتصاديا، يقوي الشعور لدى الإنسان الإفريقي بأن فرنسا، كقوة استعمارية سابقة، لا تتحرك سوى لدعم الموالين لها من فئات المستبدين وحمايتهم تحت ذرائع مختلفة. وتعني الحقيقة الثانية أن التمرد والسخط الإفريقيين مردهما أيضا إلى سياسة النهب التي تمارسها فرنسا لثروات إفريقيا، وتحويلها إلى مواد مصنعة تبيعها بعد ذلك بأضعاف قيمتها إلى أصحابها الأصليين، لتساهم بشكل منهجي في “عملية لصوصية تستنزف القارة وسكانها”، كما قال فرانسوا بايرو، زعيم حزب “الحركة الديمقراطية” في تعليق له على الجولة الإفريقية التي قام بها ماكرون بعد ستة أشهر من توليه الرئاسة (نونبر 2017) والتي جعلت من ثروات إفريقيا عنوانها الأبرز. وترتبط الحقيقة الثالثة بنظرة فرنسا إلى إفريقيا كمجال طبيعي لنفوذها تتداخل فيه الأبعاد العسكرية بأخرى سياسية واقتصادية، ويتيح لها التحكم في مصيرها وإبقائها ضمن فلكها حتى لو كان المنافسون من حجم الصين والولايات المتحدة والهند وقوى أخرى ناشئة ترى في القارة السمراء أرضا حبلى بالفرص الاستثمارية، علما أن التنمية الحقيقية لإفريقيا لابد أن تأتي من داخلها ومن التعاون بين بلدانها. وقد لا تُسعد ماكرون الرؤية الاقتصادية المغربية الجديدة لإفريقيا والقائمة على إرساء البعد التضامني بين البلدان الإفريقية من خلال شراكة أفقية عادلة مبنية على قاعدة رابح رابح، وليس على منطق الربح الأحادي والاستغلال المفرط لثروات القارة كما تفعل فرنسا. ومن بواعث السخط الإفريقي أيضا، سياسة الهجرة “الماكرونية” التي تضع أبناء إفريقيا في خانة “البشر الدونيين”، حيث الترحيلات المجحفة حطمت أرقاما قياسية منذ تولي ماكرون الرئاسة، دون اعتبار لصوت الجمعيات الحقوقية والمنظمات الإنسانية التي ترى في تهجير الأفارقة والتنكيل بهم، تدنيس للكرامة البشرية واغتصاب للشرف، فضلا عن كونه وصمة عار في جبين هذا البلد الذي مات من أجله الأفارقة ليعيش حرا مستقلا.. حقائق أخرى عديدة لا يتسع المجال لذكرها أسهمت، في ظل السياسة المرتجلة والاستعلائية للرئيس ماكرون، في توسيع هوة الشقاق بين الجانبين، وزادت من تلطيخ سمعة فرنسا التي هي بصدد فقدان الكثير من إشعاعها إفريقيا ومغاربيا وحتى عربيا.. إشعاع انطفأت شعلته حتى على الصعيد الداخلي حيث متاعب الرئيس الفرنسي لا تتوقف عند عتبات الأزمة الاجتماعية التي لم تفلح مداخلاته التلفزيونية المتكررة في التخفيف من حدتها، فهي تبدأ بتراجع الثقة في إجراءاته المالية لصد تأثيرات التراجع الاقتصادي، لتنتهي بنوع من التذمر الاجتماعي الذي بلغ اليوم ذروته من خلال التظاهرات الغاضبة ضد مشروع إصلاح نظام التقاعد والتي حشدت لها النقابات تعبئة غيرمسبوقة.