برتراند راسل...علم المنطق اللغوي وبداية اللسنيات كان "برتراند راسل" مهتما، خلال فترة شبابه،بمواضيع الجنس والدين والرياضيات، كل ذلك على المستوى الفكري. لكن، في نهايات حياته الطويلة ( مات سنة 1970 بعد عمر ناهز 97 عاما) انتهى به المطاف إلى أن أصبح مجادلا بالنسبة للأول،ومهاجما للثاني، فيما قدم مساهمات مهمة بالنسبة للثالث. كان "راسل" ارستقراطيا من حيث النشأة، ينحدر من عائلة متميزة جدا، ترى طبيعته الارستقراطية من خلال النظر إليه. صوته يحيل على انتمائه للطبقات العليا. حين الاستماع لتسجيلاته يعطي الانطباع بأنه شيء قادم من قرن آخر، وكذلك كان: لقد ازداد سنة 1872. لقد كان جده من جهة أبيه وزيرا أول لانكلترا. كانت لراسل، على غرار جون ستيوارت ميل، طفولة غير عادية. مات أبواه وهو ما زال يافعا، أما جدته التي رعته فكانت صارمة وجافة بعض الشيء. تلقن تعليمه على يد مدرسين خواص، كما اهتم بدراسته أيما اهتمام إلى أن أصبح رياضيا لامعا، الأمر الذي أدى به إلى أن صار أستاذا محاضرا في جامعة كامبريدج. غير أن ما أبهره كثيرا هو التساؤل عما جعل الرياضيات علما حقا. لماذا تكون 2 + 2 = 4 حقيقة. نحن نعرف أن هذا صحيح. لكن لماذا هي صحيحة؟ لقد قاد هذا التساؤل برتراند راسل إلى الفلسفة. انشغل راسل، كفيلسوف، كثيرا بالمنطق، وهو موضوع يقع في الحدود بين الفلسفة والرياضيات. المناطقة يدرسون بنية البرهان، وهم يستعملون عادة الرموز للتعبير عن أفكارهم. انجذب راسل إلى شعبة في الرياضيات والمنطق تسمى " نظرية المجموعات" set theory. هذه النظرية تبدو أنها تمكننا من طريقة لشرح بنيات البرهنة التي نقوم بها. لكن "راسل" توصل إلى إشكالية كبيرة: إنها تقود إلى مفارقة paradox. فالطريقة التي أبرز بها هذا الأمر كانت عبارة عن مفارقة شهيرة سميت باسمه فيما بعد. إليكم مثالا من أمثلة راسل: تخيل قرية يوجد بها حلاق شغله هو حلق شعر جميع الناس الذين لا يحلقون بأنفسهم، وفقط هؤلاء. بالنسبة إلي، فإذا كنت أعيش هناك فسأحلق دقني بنفسي على الأرجح. إذ لا أظن أنني سأكون منظما بشكل كاف لأذهب عند الحلاق يوميا. ثم إني سأحلق لنفسي بشكل ممتاز، مع اني ساوفر على نفسي مصاريف إضافية. لكن، إذا قررت ألا أحلق ذقني بنفسي فسيكون الحلاق هو من سيفعل ذلك،وبالتالي فلا إشكالية هنا. لنر الآن كيف سيكون أمر الحلاق. هو مسموح له بحلق ذقون الأشخاص الذين لايحلقون بأنفسهم، وفقط هؤلاء. وفق هذه القاعدة، فلن يستطيع أن يحلق لنفسه. ومادام لا يستطيع أن يحلق لنفسه ، فإن الحلاق، أي هو نفسه، من يحلق للأشخاص الذين لا يحلقون لأنفسهم. لكنه لا يستطيع ذلك وإلا لكان شخصا يحلق لنفسه. هذه وضعية يبدو أنها تقود إلى مفارقة مباشرة، القول بشيء صحيح وخاطئ في الوقت ذاته. إن ما اكتشفه راسل هو أنه عندما نحيل مجموعة (set) على نفسها يبرز هذا النوع من المفارقات. لنأخذ مثالا آخر لهذه المفارقة: " هذه الجملة خاطئة". إذا كانت الكلمات " هذه الجملة خاطئة" تعني ما يبدو أنها تعنيه ( وهذا صحيح)، فإن الجملة خاطئة، إذن، وهو ما يعني أن ما تقوله صحيح. وبالتالي، فهذا يشير إلى أن الجملة صحيحة وخاطئة في نفس الوقت. وبما أن الجملة لا يمكن أن تكون صحيحة وخاطئة في نفس الوقت، واستنادا إلى القاعدة الأساسية للمنطق، فهذه، إذن، مفارقة. ما قام به راسل هو الكشف على أن بعض الفرضيات الأساسية التي استعملها المناطقة في كل أرجاء العالم في نظرية المجموعات كانت خاطئة. لقد اهتم راسل أيضا بالاسئلة المجردة التي تختفي وراء تفكيرنا. وقد ركزت معظم أعماله على تفسير البنية المنطقية الكامنة في أقوالنا. كان يشعر بأن لغتنا أقل دقة.عادة ما تحتاج اللغة إلى التحليل لاستخراج الشكل المنطقي الكامن فيها. وكان راسل مقتنعا بأن مفتاح تقدم كل مجالات الفلسفة يكمن في التحليل المنطقي للغة، ما يعني ترجمتها إلى عبارات أكثر دقة. لنأخذ الجملة التالية،مثلا: " الجبل الذهبي غير موجود". فأي واحد سيتفق على أن هذه الجملة صحيحة. ذلك لأنه لا وجود لجبل مصنوع من الذهب في أية منطقة من العالم. فالجملة تبدو كأنها تتحدث عن شيء لا وجود له. إن عبارة" الجبل الذهبي" تبدو كما لو تحيل على شيء حقيقي، لكننا نعرف أنه غير موجود. وهذا لغز بالنسبة للمناطقة. كيف يمكن أن يكون ثمة معنى لكلامنا عن شيء لا يوجد؟ لماذا لا تكون الجملة بأكملها بدون معنى؟هناك جواب قدمه عالم المنطق الاسترالي" أليكسيوس مينونغ" يقول فيه أن أي شيء نتكلم عنه أو نفكر فيه فهو موجود. فالجبل الذهبي يجب أن يوجد، برأيه، لكن بطريقة خاصة بدل الوجود subsistence . فهو يعتقد أن ثور الوحش أو رقم 27 يتواجدان بهذه الصيغة. غير أن راسل لم يكن يتفق مع هذه الطريقة في التفكير. فهي تعني أن العالم مليئ بالأشياء التي توجد بمعنى ما وليس بمعنى آخر. لقد ابتكر راسل طريقة بسيطة لتفسير كيف أن ما نقوله يخص ما هو موجود، وهي تعرف بنظرية التشخيص. لنأخذ جملة غريبة مثل" ملك فرنسا الحالي أصلع". حتى في أوائل القرن العشرين، عندما كان راسل يكتب، لم يكن هناك ملك لفرنسا. لقد تخلصت فرنسا من ملوكها وملكاتها إبان الثورة الفرنسية. إذن، كيف يمكن أن نعطي معنى لهذه الجملة؟ كان جواب راسل هو أنها، وعلى غرار أغلب الجمل في لغتنا، لم تكن بالضبط كما كانت تبدو. وهنا الإشكالية إذن. فإذا أردنا القول بأن الجملة " ملك فرنسا الحالي أصلع" خاطئة فهذا يبدو أنه يورطنا في القول بوجود ملك لفرنسا غير أصلع. لكن، ليس هذا حقا هو ما عنيناه بقولنا ذاك. نحن لا نعتقد بوجود ملك لفرنسا حاليا. لقد كان تحليل راسل كالتالي: إن تصريحا مثل " ملك فرنسا الحالي أصلح" هو،في الواقع، نوع من التشخيص الخفي. فعندما نتكلم عن " الملك الحالي لفرنسا"فإن النموذج المنطقي الكامن في فكرتنا هو: إن شيئا هو الملك الحالي لفرنسا موجود. هناك شيء واحد فقط هو الملك الحالي لفرنسا. ليس هناك أي شيء من قبيل ملك فرنسا الحالي أصلع. هذه الطريقة المعقدة في نطق الأشياء سمحت لراسل بإبراز أن جملة " ملك فرنسا الحالي أصلع" يمكنها أن تفيد بعض المعنى رغم عدم وجود أي ملك حالي لفرنسا. هي تفيد معنى لكنها خاطئة. وعلى خلاف "مينونغ"، لم يكن راسل بحاجة إلى تخيل وجود ملك لفرنسا بشكل من الأشكال من أجل أن نتكلم عنه أو نفكر فيه. بالنسبة لراسل فالجملة" ملك فرنسا الحالي أصلع" خاطئة لأن الملك الحالي لفرنسا لا وجود له. والجملة تفيد بأنه موجود. بالتالي، فالجملة خاطئة رغم كونها صحيحة. أما " الملك الحالي لفرنسا ليس أصلعا" فهي بدورها خاطئة للأسباب ذاتها. لقد بدأ راسل ما يدعى ب" المنعطف اللسني" في الفلسفة، وهي حركة أطلق الفلاسفة من خلالها تفكيرا عميقا حول اللغة وشكل المنطق الكامن فيها. لقد كان الفيلسوف "آيير" واحدا ضمن هذه الحركة.