ينشغل الكثيرون بالحديث عن أطفال الشوارع وعن أسباب الظاهرة وانتشارها فيما الكثير يتجاهلون وضعيات الكبار المشردين أو رجال الشوارع، هذه الظاهرة التي تنخر جسد المجتمع، حيث تفضي على أن الأشخاص الذين يعيشون بدون مأوى لا يستفيدون من أية رعاية اجتماعية، باستثناء ما يمكن وصفه بالحملات المناسباتية التي تقوم بها السلطات المعنية كلما حل فصل الشتاء، خاصة عندما تكون الأجواء ممطرة والبرد قارس. ولقد عرف المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة خصوصا في بعض المدن الكبرى والمتوسطة ارتفاعا مهولا في عدد من الرجال المشردين الذين لا يأخذون حقهم من الاهتمام والعناية لكونهم تعرضوا لمشاكل عائلية أو تغيب لديهم القدرة في الإنفاق، كما كانوا ينفقون عندما كانوا قادرين على العمل فأصبحوا يعانون من التهميش واللامبالاة من طرف المجتمع ككل. وبناء على ذلك فإن وضعية التشرد تعرضهم للإدانة في غياب من يهتم بأحوالهم ويدافع عن مصالحهم. هؤلاء انفصلوا انفصالا كاملا عن أسرهم. في هذه الظروف الإنسانية وكذلك المناخية القاسية، فلقد رصدت "كاب 24 تيفي" بمدينة أزرو عددا من الأشخاص من دون مأوى ينام كل واحد منهم في مكان إما عند عتبة مقهى أو دكان وسط المدينة أو في مناطق غابوية محيط بها أو حتى في رقع أرضية خلوية وسط المدينة. مناطق أمست مأوى للأشخاص بدون مأوى يقصدونها من كل حدب وصوب، حتى من خارج المدينة، وأن من بينهم أشخاصا يتناولون المخدرات والكحول ومرضى نفسيين… ووايضا منهم المتقي الملازم للصلوات والمساجد. وأفاد احد الفاعلين الجمعويين، أن الحملات التي تقوم بها دوريات المساعدة الاجتماعية للتخفيف من أثر هذه الظاهرة، محدودة الأثر، لصعوبة تحديد أعداد هؤلاء الأشخاص التي تتزايد يوميا. وهي حالة اجتماعية صعبة للغاية لهؤلاء الأشخاص، حيث يعانون الإهمال الشديد، كما يعاني بعضهم مشكلات الإدمان ومخاطر صحية كبيرة، فضلا عن الاضطرابات النفسية. حقيقة المشهد رهيب – يقول المتحدث – لأجساد متكورة تنام مفترشة الكارتون، تلتحف أغطية بالية لا تؤمن أي دفء لصاحبها في هذه الأجواء الباردة. إن المتجول بمديتة أزرو، سيلاحظ أن الأمر مختلف بعض الشيء عن باقي المدن المغربية هنا، إذ لا يقتصر على أطفال بل يتعداه إلى نساء وعجزة يكابدون المحن خلال فصل الشتاء وما ترافقه من قسوة الطقس البارد ليعمق من جراح هذه الشريحة الاجتماعية التي تخوض الصراع على جبهتين، صراع من أجل البقاء الذي يبقى للأقوى في الشارع، وصراع لا يقل عنه مضاضة من أجل العيش وتأمين شيء من الدفء. وقال أحد المهتمين بالشأن الاجتماعي، إن البعض من هؤلاء المشردين يفضلون الحياة في الفضاءات المهجورة، كون المراكز الاجتماعية يمنع فيها استهلاك المخدرات بكل أنواعها، وأن أغلبية المشردين هم مدمنون على المخدرات والكحول بالإضافة إلى مادة السليسيون، ولذلك يفضلون حياة الشارع على الخضوع لأي نظام مؤسساتي، يتحملون البرد القاتل في الخارج الذي حتى السكان في بيوتهم يشتكون منه ومن قلة النوم وحاجتهم إلى الدفء. وسيتذكر معنا القارئ تلك الحالة المسجلة قبل شهرين (19دجنبر2019) بالتمام من هذا اليوم، حين تم العثور على متشرد – في عقده الرابع قيد حياته- ميتا وسط الشارع في آزرو بسبب البرد. ويمكن القول بأن هذا النموذج قد لايكون وحده الذي هزمته الحياة وأودت به إلى رصيف التشرد وقبول الموت في ظروف مأساوية. ويتشكل هؤلاء المشردون من فئة الجيل الرابع وما فوق الذين يعيشون في الشارع، وهذا أمر كارثي، لاسيما أن العدد في تزايد سنة بعد سنة، والسبب هو أن المجتمع المغربي بدأ يتخلى تدريجيا عن عاداته وتقاليده في التعامل مع كبار السن. ووقوفا على الظاهرة الخاصة بالكبار الذين يمكن تسميتهم ب"رجال الشوارع"، فيسجل المتتبعون والمهتمون بشكل ملحوظ في الوسط الاجتماعي المغربي تزايدا في عدد المسنين، نتيجة تغييرات في القيم المجتمعية بفعل مجموعة من تحولات المجتمع المغربي الذي انتقل من الأسرة الموسعة إلى الأسرة النووية مما نتج عنه حصول إكراهات كثيرة، أدّت إلى تسجيل ضغط متزايد على مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي يعاني نزلاؤها من محدودية المواكبة الصحية والنفسية، علما أن أغلب بعض كبار السن، كانوا عمالا كادحين أو باعة الأرصفة، وليس لهم أي دخل مادي، ولا تغطية صحية، وأن البعض من النزلاء في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، قد يكون لهم سند عائلي، وقد يكونون ميسورين، لكن عائلاتهم استولت على ثرواتهم وأصبحوا عرضة للتشرد في الشارع. ويتواجد بمدينة آزرو عشرات من المشردين شباب وكبار السن يجوبونها نهارا للتسول فقط من أجل ما يشدون بهم رمقهم من الجوع، ويصعب أحيانا الاقتراب منها أو فتح نقاش معها في وضعياتها. وبالرغم من هذا سعت "كاب 24 تيفي" أن تستقصي الأمور في هذه الوضعيات بشكل غير مباشر سواء مع مشردين بدون مأوى أو البعض من النزلاء، لتتحدث معهم وتكتشف مكنونات كلًا منهم وما تخفيه وجوههم ذات المشاعر المتضاربة. ففي إحدى الرقع الأرضية بمدينة آزرو (على مستوى بين حي النجاح وشارع بحي الفرح) يجلس رجل ليس مسنًا كثيرا، افترش الرقعة بأوراق وكارطون مغطى بالبلاستيك، وقد تلحف أكياسا بلاستيكية، وأحاط الرقعة بأغصان الأشجار يرتدى ملابس رثة، وتظهر على ملامحه علامات الحزن والأسى. مظهر هذا الشخص الذي لوحظ أنه لازم هذا المكان منذ مدة فاقت أشهر عديدة، أكيد أنه يمر بجانبه البعض من المسؤولين بالمدينة -ومنهم من يعرف هويته وأسرته- ويرون المنظر المخزي والأليم الذي يعيش عليه هذا الشخص. شخص بحسب معلومات عنه، هو ابن المدينة ومن أسرة معلومة، وإن لم نقل ميسورة بعض الشيء، يظهر عليه الوقار، وإن كانت قصص تدور كونه كان عدوانيا مع أسرته التي اضطرت إلى التخلي عنه، لم تسجل عليه في عين المكان الذي يقيم به حالات مثيرة مع الناس الذين يمرون من أمامه، حيث غالب الأحيان تراه متكئا بالمكان وبيده بعض الوثائق مجلات أو كتب أو جرائد يطالعها، ويستأنس بها في عزلته. فكلما حل المساء وأمام قسوة الطقس، يضطر هذا الشخص إلى إيقاد النيران بعيدا شيئا ما عن رقعته، يتحسس الدفء منها ولو بالقليل، وإن اشتد عليه البرد ينتقل إليها للاستدفاء… وكأن حال لسانه يقول: "أتمنى لكل الناس الخير والسعادة". وبالرغم من ذلك يستشف من سلوكه أن الحياة بظروفها القاسية لم تمنعه هو وأمثاله من الشعور بالأمل، والتمسك بالله الذي صارت ألسنتهم لا تناجى غيره طوال الوقت. ويمكن القول أنه وبالإمعان في وضعية هذا الشخص وبعض آخرين من رجال الشارع، أن هؤلاء الكبار من خلال استقصاء عن أصولهم ووضعياتهم المجتمعية والاجتماعية بمدينة آزرو مثلا، أنهم ليسوا كلهم فقراء وجهلة. حالة من جملة من الحالات التي نعاينها هنا في مدينة آزرو، وإن كانت المدينة تتوفر على مركب اجتماعي وتربوي ورياضي إلى جانب المركب الإقليمي للأشخاص في وضعية إعاقة يحظيان بتنظيم وبهيكلة إدارية ويخضعان لبرامج عمل مستحضرة جملة من الجوانب التنظيمية والتنشيطية والرياضية والإنسانية وموفرة الوسائل الخاصة بالتكوين والتأطير والاهتمام بالنية البيئية للمركبين معا دون إغفال تنفيذ الأهداف التي من اجلها. إذ في زيارات تلقائية لبعض مراكز إيواء المسنين سيقف الزائر على أن الأغلبية العظمى من النزلاء كبار السن، وأن أغلب هؤلاء النزلاء مصابين، منهم من تم بترت رجله، ومنهم من يعانى ثقل السمع أو فقدان النظر، أو صم وبكم، أو فاقد الإدراك، أو مريضًا إلى الحد الذي لا يجعله قادرًا على الحركة، وبالرغم من ذلك لم تمنعهم ظروفهم القاسية من الشعور بالأمل… أُناس يعيشون بعيدًا عن ضجيج العالم وصخبه، حيث جعلتهم الحياة لا يرون ربيعها الوردي أو شروق شمسها الدافئ، فقط خريفها المؤلم. وإن كان الغرض الاهتمام بالبشر في وضعية صعبة اجتماعيا فإنها من الرغم من هذا المبدأ لايزال انتهاج سياسة الإقصاء وعدم تفعيل المقاربة التشاركية سيما مع الأشخاص الذين يوجدون في وضعيات صعبة. ونحن نحاول في هذا التقرير التذكير بأن لظاهرة رجال الشوارع أسباب اجتماعيّة، فإنه بخسب بعض الضالغين في مثل هذا النوضوع، يرون انه واقع ضبابي في غياب أي بحث أو دراسة لمعرفة المتسببين الحقيقيين في تعرض هؤلاء الرجال لهذه الوضعية، ولو أنه تم الترويج لدراسة أُنجزت بشراكة بين وزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية وصندوق الأممالمتحدة للسكان والتنمية، ردت أن مجموعة من المشكلات تطرح بكثرة، بارتباط مع الجوانب الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وضمنها الهشاشة التي تمس المرأة المسنة أكثر من الرجل، لا يمكن تحقيق وضعية اجتماعية آمنة لمثل هؤلاء الأشخاص دون تحريك النصوص القانونية التي تحمي رجل الشارع، إذ في ظل هذه الوضعية العصيبة نجد مجموعة المخلفات النفسية التي تصيبهم كالإحباط والشعور الدائم بالقلق والاضطراب والخوف، ورسم صورة مشوهة عن الذات، لهذا كله ومن أجل الحد من ظاهرة انتشار رجال الشوارع، وجب القيام باستحضار وتقوية بعض الآليات الناجعة في الوسط المجتمعي، منها: * تعزيز التّرابط الأسري عن طريق عمل ندوات توعية بأهمية رعاية هؤلاء المسنين. * البعد عن استخدام العنف تجاههم. * العمل على رفع متوسّط دخل الّأسرة وتوفير الاحتياجات الأساسيّة لها كحق واجب تنفيذه. * محاولة مساعدة هؤلاء الرجال وجمعهم في أماكن مخصّصة لهم تتوافر فيها سبل العيش الكريم.(دار المواطن بمقر العمالة أو دار الطالب القديمة). * تفعيل البعد الديني الذي لا ينبغي أن نغفله لأنه يؤثر كثيرا في ممارساتنا وتشريعاتنا وفي قوانيننا، فغياب البعد الديني هو الذي جعل هؤلاء يتسكعون في الشوارع. والدين الإسلامي واضح في مسالة دعوته للعناية بالوالدين. ومع ذلك، تظل ظاهرة انتشار رجال الشوارع مشكلة تهدّد التّوازن الاجتماعي في مجتمعاتنا وسيظل ملفهم وصمة عار متوارثة فى جبين الحكومات والمجتمع المدني على السواء. ويذكر أنه وبحسب بعض الإحصائيات ورغم تضلربها، فإن عدد الأشخاص المسنين حالياً في المغرب يقدّر بثلاثة ملايين وثلاثة وخمسين ألف شخص، حسب الإحصاء الرسمي الأخير الذي جرى في المملكة سنة 2014، فإنّ التوقعات تذهب إلى الوصول إلى ستة ملايين ومائة وثمانين ألف مسن سنة 2030. ويكفي هنا أن نستدل بما جاء من قول للأستاذ عبد الكريم بلحاج، أستاذ علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، في فرصة سابقة بخصوص وضعية المسنين بالمغرب حين دافع عن المسنين اليوم، معتبرا إياهم بالرواد الذين ساهموا بالأمس في صنع أسس المغرب الحديث، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ورياضياً، وبعضهم انتقل إلى رحمة الله… وحيث كذلك رد استفحال ظاهرة الكبار المشردين إلى بعض مظاهر الإقصاء والعزلة والهشاشة التي تطبع الحياة اليومية، ولا سيما في المجتمع الحضري، أي وسط المدن، إذ أصبح التساكن بمثابة معاناة، ومتسائلاً: "هل الأمر مرتبط بانفراط التماسك الأسري، أم هو بفعل ضغوطات الحياة؟. وتبقى أبرز ملاحظة مسجلة بخصوص وضعيات المسنين أو الكبار المشردين تتجلى في النقص الكبير لأطباء الشيخوخة، إذ لا يتعدى عددهم في المغرب 10 فقط، ولذلك تدعو الضرورة إلى إنشاء مراكز لهذا التخصص، لتستجيب للحاجيات المطروحة على الصعيد الوطني.