الصحافة المعاصرة في الأنظمة الديمقراطية مثل كلاب الحراسة، تنبح وقد تهاجم الغرباء، سواء كانوا يشكلون خطرا على المنزل الذي تحرسه أم لا. إحساس الكلاب بالخطر هو الذي يبقيها متيقظة طوال الوقت، وهذا الإحساس هو الذي يجعل الإنسان يثق في الكلب ووفائه ويقظته أكثر من أخيه الإنسان. الصحافة الجادة والمهنية والمستقلة تشبه، إلى حد ما، كلاب الحراسة، والمفروض فيها أن تنبح عندما تحس بأن الديمقراطية في خطر، وأن الدستور في خطر، وأن السلم الأهلي في خطر، وأن المال العام في خطر، وأن سلامة البلاد في خطر. قد لا تكون تحذيراتها صحيحة مائة في المائة، لكن العقلاء يتسامحون مع أخطائها، خاصة عندما تقع بحسن نية، فأن تخطئ في إطلاق جرس الإنذار أفضل ألف مرة من أن تنخرط في مؤامرة الصمت وأن تسكت عن النباح في وجه الأخطار التي تحيط بالمصلحة العليا للبلاد... أسوق هذه المقدمة للحديث عن مؤشرات بالغة الحساسية بدأت تلوح في الأفق، وتنذر بأن مسلسلا للتراجع عن الإصلاحات قادم بسرعة إلى مشهدنا السياسي وإلى المؤسسات الهشة للبلاد وإلى مكتسبات ربيعنا المغربي الذي مازال في بداياته. أهم هذه المؤشرات: - الدستور لم يعد هو المرجع الوحيد لرسم حدود سلطات المؤسسات، بل صار وثيقة للاستئناس لا تلزم كل الأطراف، أصبح مثل عجينة تأخذ أشكالا مختلفة في كل مرة. - وزارة الداخلية، إلى الآن، لا تريد الإفصاح عن قوانين الانتخابات الجماعية المقبلة، ولا عن قوانين الجهة، وكلها ترسانة تشريعية تحتاج إلى وقت وجهد وشجاعة لتدخل البلاد إلى «الجيل الثاني» من الإصلاحات التي ستمس إدارة الشأن المحلي. التأخر في تنزيل النصوص استراتيجية قديمة ومعروفة، وهدفها تمرير النصوص تحت ضغط الاستعجال... - مرت على عمر الحكومة الآن سنتان ونصف، ومع ذلك لم تتغير الرؤوس الكبيرة في حكومة «الظل»، أي المؤسسات العمومية والاستراتيجية التي مازال «حزب التقنوقراط» يديرها بنفس العقلية ونفس الارتباطات ونفس المخططات... - الأحزاب السياسية تضعف يوما بعد آخر، والنقابات كذلك، والمجتمع المدني هو الآخر يفقد استقلاليته عن طريق التمويل إما الرسمي أو الخارجي، وهذا معناه أن السلطة المضادة لا توجد، وهذا معناه اختلال التوازن في نظام الحكم. أحزاب المعارضة أصبحت تجلس على يمين الحكم وعلى يسار الحكومة، وبعض الإعلام يفعل الشيء نفسه، ويتوهم أنه يقوم بمهمة انتحارية، مع أنه يسبح في بركة لا يزيد عمقها على شبر، ولا خطر يأتي منها. - المحيط الإقليمي والعربي أصبح يعادي أي تحول ديمقراطي في بلدان الربيع العربي، وقد أعلن عبد الفتاح السيسي، أخيرا، أنه تلقى من السعودية لوحدها أكثر من 20 مليار دولار في ظرف سنة، وإذا أضفنا ما حصل عليه من الدول الخليجية الأخرى فالرقم سيقفز إلى 40 مليار دولار، وهذا سيكون أغلى انقلاب في التاريخ تدفع إمارات النفط فاتورته. هذا يجب أن يفتح أعيننا هنا على المدى الذي يمكن أن تصل إليه البلدان «الشقيقة» لتوقيف أي مسار للتحول الديمقراطي هنا وعند الجيران، سواء جاء على يد الإخوان أو اليسار أو القوميين. ألم تعادِ السعودية جمال عبد الناصر في الخمسينات ومولت حربا كاملة في اليمن ضده؟ - عندما قرأت أن إسماعيل العلوي، القيادي في التقدم والاشتراكية، يدعو إلى قيام كتلة تاريخية في المغرب جدول أعمالها محاربة الاستبداد والإرهاب، قلت: الحمد لله، هناك من لايزال قادرا على قول شيء من الحكمة بدون حسابات سياسية ولا لغة خشب. كتلة تاريخية تعني أن هناك أخطارا كبيرة تحيط بالبلاد وبمستقبلها الديمقراطي، وهي دعوة يجب أن تطرد النوم عن وسائدنا وعن وسادتي رئيس الحكومة ورفيقه باها. مدير نشر جريدة "أخبار اليوم"