طنجة: سخان ماء يتسبب في حريق.. وتدخل عاجل للوقاية المدنية يجنّب المأساة    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    "أشبال المغرب" يستهلون كأس إفريقيا بفوز شاق على منتخب كينيا    دفاع الجديدة يعود بالتعادل من بركان    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    متطوعون ينقذون محاصرين بزاكورة    الدمناتي: مسيرة FDT بطنجة ناجحة والاتحاد الاشتراكي سيظل دائما في صفوف النضال مدافعا عن حقوق الشغيلة    تيزنيت: الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب ينظم تظاهرته بمناسبة فاتح ماي 2025 ( صور )    عندما يهاجم بنكيران الشعب.. هل زلّ لسانه أم كشف ما في داخله؟    وزراء خارجية "البريكس" وشركاؤهم يجتمعون في ريو دي جانيرو    في عيد الشغل.. أمين عام حزب سياسي يتهم نقابات بالبيع والشراء مع الحكومة    صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    كلية الناظور تحتضن ندوة وطنية حول موضوع الصحة النفسية لدى الشباب    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    وفاة سبعيني بعد اندلاع حريق داخل منزله بتزوراخت نواحي اقليم الحسيمة    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    لماذا أصبحت BYD حديث كل المغاربة؟    عمر هلال يبرز بمانيلا المبادرات الملكية الاستراتيجية لفائدة البلدان النامية    رحيل أكبر معمرة في العالم.. الراهبة البرازيلية إينا كانابارو لوكاس توفيت عن 116 عاما    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    "تكريم لامرأة شجاعة".. ماحي بينبين يروي المسار الاستثنائي لوالدته في روايته الأخيرة    باحثة إسرائيلية تكتب: لايجب أن نلوم الألمان على صمتهم على الهلوكوست.. نحن أيضا نقف متفرجين على الإبادة في غزة    موخاريق: الحكومة مسؤولة عن غلاء الأسعار .. ونرفض "قانون الإضراب"    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    المغرب يجذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 9.16 مليار درهم في ثلاثة أشهر    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    أمل تيزنيت يرد على اتهامات الرشاد البرنوصي: "بلاغات مشبوهة وسيناريوهات خيالية"    معرض باريس.. تدشين جناح المغرب، ضيف شرف دورة 2025    المملكة المتحدة.. الإشادة بالتزام المغرب لفائدة الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل خلال نقاش بتشاتام هاوس    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    فيدرالية اليسار الديمقراطي تدعو الحكومة إلى تحسين الأجور بما يتناسب والارتفاع المضطرد للأسعار    أغاثا كريستي تعود للحياة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي    دول ترسل طائرات إطفاء إلى إسرائيل    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    دوري أبطال أوروبا (ذهاب نصف النهاية): إنتر يعود بتعادل ثمين من ميدان برشلونة    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل الريف بين أيأدي أبنائه
نشر في شبكة دليل الريف يوم 21 - 09 - 2011


أسئلة للظرفية أم لسقوط الأقنعة؟
وصلتني، وبعض الفاعلين المنحدرين من منطقة الريف، دعوة عن طريق البريد الإلكتروني، مصحوبة بأرضية تحت عنوان "من أجل بلورة أفكار حول 'الريف غدا'"، من قبل الأستاذ عبد السلام بوطيب، رئيس "مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم"، قصد الإسهام في نقاش ما ورد في هذه الأرضية، التي يفهم منها أن عبارة "الريف غدا" الواردة في العنوان هي أهم سؤال تطرحه هذه الأرضية من قبل المبادرين إلى هذه الدعوة.
وأشكر الأستاذ بوطيب الذي أورد اسمي ضمن هذه الثلة ممن اعتبرهم جديرين ببحث مآل الريف غدا، والمشاركة في صياغة رؤية مشتركة له بعد التحولات التي عرفها المغرب في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، ومن الحراك الاجتماعي في المنطقة، وبعد التعديلات الدستورية المثبتة باستفتاء 1 يوليو 2011، والتقسيم الجهوي الجديد المقترح من قبل اللجنة الاستشارية الخاصة بإعداد مشروع الجهة المتقدمة، وتقييم مشاركة فاعلين من منطقة الريف في تأسيس حزب مغربي، نعت من قبل الأحزاب التقليدية، التي استفادت من ريع دولة الاستقلال، بأنه حزب صديق الملك عالي الهمة، ووُصِف بالأوصاف نفسها التي وصف بها حزب الفديك اختصارا (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) المؤسس من قبل رضا اكديرة، صديق الملك الراحل الحسن الثاني في بدية 1963 للالتفاف على طموحات المغاربة إلى بناء دولة ديمقراطية يتمتع فيها كل المغاربة بحقوق المواطنة.
كما تضمنت الأرضية المقدمة للنقاش إشارات كثيرة إلى أهم انشغالات الناس في منطقة الريف، التي لا تختلف في جوهرها عن انشغالات المناطق المغربية الأخرى المهمشة من قبل حكومات "دولة" الاستقلال المتعاقبة، ومن ممارسة السياسات الانتقامية من المناطق المشهود لها في التاريخ بمقاومة الاستعمار. وقد استمر التهميش والانتقام بأشكال متعددة حتى قيام هيأة الإنصاف والمصالحة في محاولة لتصحيح "الأخطاء" المرتكبة، والتي تقول الأرضية بشأنها: إن نتائجها وتوصياتها تم الالتفاف عليها.
وتشير الأرضية أيضا إلى القلق الذي يسود ساكنة منطقة الريف الذين تمطرهم بعض وسائل الإعلام بقائمة من اتهامات ونعوت يصعب تعدادها، كلما بدر من الساكنة احتجاج أو مظاهرة بقصد المطالبة بحقوقها في المواطنة الكريمة. مما أدى أكثر من مرة إلى طرح السؤال التالي: هل فعلا تغير منجل المخزن، أم أن كل ما تغير هو صباغة مقبضه ليس إلا؟
ومن هنا أرى شرعية طرح سؤال، بل أسئلة كثيرة، عن ريف الغد، سواء بأسلوب مباشر أو بأسلوب غير مباشر، كما فعل معدو الأرضية المشار إليها أعلاه. وكانت "جمعية الريف للتنمية المستدامة" قد طرحت بدورها، في لقاء فكري بالحسيمة بمناسبة الذكرى 90 لمعركة أنوال، نفس الموضوع بالصيغة التالية: "أي مستقبل للريف؟" (Quel avenir pour le Rif ?). غير أن أرضية المركز طرحت جملة من الأسئلة الفرعية، كما أومأت أعلاه، التي هُدف من خلالها الوصول إلى تقديم الجواب عن سؤالها المركزي: "ما العمل إذن؟"
هل الريف بلا صاحب ولا حارس؟
أشكر من وجه لي هذه الدعوة للمشاركة في هذا الانشغال المصيري لأبناء المنطقة. لكن وجودي خارج المغرب يجعل استجابتي الدعوة وحضوري هذا النقاش أمرا متعذرا في المكان والزمان المحددين في الدعوة. وأتمنى للأخوة المشاركين كل النجاح والتوفيق. لكني أرى في الوقت نفسه أنه من أدب التواصل الإيجابي أن أبدي بعض رؤيتي في مستقبل الريف من خلال بعض ما أعتقد بأنه من الضروري البوح به جهرا، فأبادر إلى استحضار قاعدة قديمة متجددة، تقول: "من لا صاحب له فضائع، ومن لا حارس له فمهدوم". وهذه القاعدة يمكن أن تنطبق على حالة الريف أيضا في مرحلة ما بعد الاستقلال. فإلى زمن قريب كانت منطقة الريف تبدو وكأنها بدون صاحب ولا حارس، فلا السلطة المركزية عاملت ساكنة الريف معاملة مواطنين كاملي الأهلية والحقوق، ولا الحكومات المتعاقبة التي كانت تتسول الدول الغربية باسم تنمية أقاليم الريف قدمت شيئا يذكر للمنطقة، أما الأحزاب الحزبية، سواء تلك التي وصفت نفسها بصفة الوطنية، أو تلك التي كان يقال عنها بأنها أحزاب الإدارة، فمواقفها من الريف معروفة لدى الخاص والعام. وبقي الريف قرابة نصف قرن من الزمن، إذن، خارج تغطية التنمية في مدلولها الواسع، وتعرضت نواة نخبه الواعية، المطالبة بحقوق المواطنة، لكل أصناف التنكيل والقمع. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن قيام أي احتجاج أو مظاهرات في الجامعات المغربية في سنوات الجمر والمهانة الوطنية إلا وكان طلبة منطقة الريف أول من يتعرض للتنكيل والاعتقال، بغض النظر عن مشاركتهم في تلك الاحتجاجات من عدمها. فالتهمة كانت جاهزة: "أنهم ريفيون." ولم يكن بالإمكان وجود تمثيل إيجابي للمنطقة في المطبخ السياسي الرسمي والحزبي والنقابي كذلك. فقد كان تعامل تلك الجهات كتعامل السلطان مولاي عبد العزيز مع شبان في مقتبل العمر كل ما اعتزم ركوب عربته، حسب فيلم أمريكي قديم. وعلى الرغم من ترهيب المنطقة وترويعها عقب الاستقلال، ومن إقصائها من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى الرغم من منهجية دفع الساكنة إلى النزوح الداخلي والتهجير الخارجي، فإن الشعور بالانتساب إلى المنطقة وإلى تاريخها بقي حيا وأساسا لعدم الانقياد لمصير هو مرفوض قبل أن يكون مفروضا قصد إفراغ الريف من أصحابه
وبعد تولية محمد السادس عرش المغرب وإقدامه على زيارة أقاليم الشمال، بل أصبحت زيارات متتالية، بدأت مشاعر التوجس خيفة من أهل الريف تتلاشى في مستوى المؤسسة الملكية، وفقا لقاعدة ليس الخبر كالعيان. فقد كشفت، تلك الزيارات بلا شك، زيف التقارير الأمنية التي كانت ترسل من وعن المنطقة. وساعدت تلك الزيارات كذلك على ملاحظة مستويات التخلف الذي سُلّط على شمال المغرب كله، وهو يقع على مرمى حجر من أوروبا كما يقال.
وفي هذا المناخ الجديد بدأ كثير من أطر المنطقة يحاول كل واحد منهم تقديم نفسه أنه هو الحارس الأمين على الريف. لكن هذا الكثير بقي مجرد رقم عددي، خاضع لعوامل ثقافية محلية، وناجم أيضا عن السياسات التي طبقت منذ الاستقلال على المنطقة، فأنت تراهم جميعا، ولكن قلوبهم شتى. وهذه هي المشكلة؛ مشكلة الكينونة الجمعية. فالمتتبع للحراك الاجتماعي والسياسي للمنطقة سيلاحظ تشتت الجهود، وظاهرة العجز عن تحقيق أي نوع من الوفاق حول مصالح المنطقة المشتركة بين المتنافسين عن تزعم المنطقة، وعن تمثيل طموحات أهلها والدفاع عن حقهم في المواطنة الكريمة. وقد عبر الزميل زكي مبارك عن هذا الواقع الصارخ بأن مشكلة الريف السياسية تكمن في فقدان زعامة أو قيادة جامعة لمختلف النزعات والرؤى، على عكس ما هو موجود في المناطق المغربية الأخرى. مما يجعل الريف كمُلك بلا حارس.
تجارب الجمع والطرح
صحيح، أنه حدث ذات يوم من ربيع 2004، وعواطف أبناء المنطقة لا تزال ملتهبة متحفزة من أجل تقديم المساعدة والمساهمة في إعمار إقليم الحسيمة، بعد زلزال فبراير من تلك السنة، فالتأم عشرات من أبناء المنطقة الموزعين وفقا لأعمالهم ووظائفهم على مختلف المناطق المغربية، في جمع عام بالرباط، قصد العمل المشترك من أجل إعادة بناء المنطقة، وفك عزلتها، والانتصار على الثقافة النمطية التي روج لها مخزن الحسن الثاني وأحزابه بالنسبة للريف...، والعزم على رفع تحديات التنمية في مفهومها الشامل، بعد عقود من الإقصاء والتهميش.
استبشر من استبشر بعودة روح الجمع إلى أبناء الريف بعد أن تعرضوا إلى عمليات متتالية من الطرح، منذ انتهاء مرحلة الحرب التحريرية برئاسة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي،. فهل عكس ذلك الجمع فيما تلا من الأيام ما كان يبدو في الظاهر أنه انبعاث لروح التساند والتآزر والتآخي، أم تبعثر ما كان مأمولا منه كما تبعثرت "جمعية البحر الأبيض المتوسط" في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. ثم أليس ما يقوم على العواطف، مهما تكن جياشة، ستخبو، بل قد تنطفئ نهائيا، إذا لم تقوَّم وتعدَّل بالعقل الجمعي والفعل السياسي المقاصدي، وتحسين الأوضاع الاجتماعية للساكنة على أرض الواقع؟
ليس من الموضوعية ولا من النزاهة أن نصدر حكما نهائيا بالإيجاب أو بالسلب عما آل إليه ذلك اللقاء أو اجتماع الأطر الريفية، أو على"جمعية الريف للتضامن والتنمية" التي انبثقت عنه، بعد مضي سبع سنوات من التأسيس. غير أنه تجب الإشارة إلى أن أشياء كثيرة، يعرفها الذين حضروا الاجتماع وساهموا في التأسيس، والذين لم يحضروا لظروف طارئة لكنهم كانوا مع الفكرة ومع الهدف، والذين قاطعوا إما لأسباب أيديولوجية، أو لعادة الرفض والمقاطعة التي أضحت ثقافة عند البعض، تكون قد أبانت عن عدم فاعلية ما تأسس في ذلك الاجتماع.
ومن المؤسف أن بعض السلوكيات التي ظهرت بعد ذلك بين شركاء الأمس تجاوزت منطق التنافس من أجل تحقيق المصالح المشتركة للمنطقة إلى منطق الصراع والمواجهة على الظهور والقيادة، وإلى تبادل مختلف الاتهامات التي يمتلأ بها معجم لغة الشارع السياسوي والإعلاموي المغربي، والتشهير بالتنابز بالألقاب. واتخذ صراع النخب الريفية منحى ذا ثلاث زوايا حادة: زاوية الريفيين المقيمين في مختلف المدن المغربية بسبب التزاماتهم الوظيفية والمهنية، الذين يعتبرون أنفسهم أقدر على اقتراح خريطة طريق للخروج بالمنطقة من سنوات التهميش والعزلة، وزاوية الريفيين القاطنين في أقاليم الريف لدوافع وأسباب متعددة، لكنهم يشعرون بأن لهم الكلمة الفصل فيما يخص مستقبل الريف دون غيرهم الذين غادروا المنطقة وأصبحوا قيمة مضافة للمدن وللمناطق التي اختاروها للعيش فيها، وزاوية الريفيين المهاجرين الذين يعتقدون أنهم الأكثر قدرة وتأهيلا لقيادة المنطقة نحو التحولات الاجتماعية والسياسية الحادثة في العالم، نظرا إلى مؤهلاتهم وإمكاناتهم على جلب المساعدات والاستثمارات إلى المنطقة.
ونعتقد بأن ما يعقد الأشياء أكثر بين غالبية أصحاب هذه الزوايا يكمن في غياب التواصل الإيجابي فيما بينهم البين، الذي يكاد يكون أقرب إلى طريقة أهل العقائد منها إلى الأسلوب المرن المعروف في تدبير مؤسسات المجتمع المدني، وإلى الذهنية القبلية الإقصائية للآخر منها إلى المنطق البركَماتي التشاركي القائم على تبادل المنافع والمصالح المشتركة.
وإلى جانب ذلك فإن فشل تفعيل "مؤسسة محمد بن عبد الكريم الخطابي"بسبب غياب النظرة البركَماتية إلى الأشياء، والبعد المقاصدي للدور الذي كان يمكن أن تقوم به المؤسسة في ميدان السيكو ثقافي، عند نخب ريفية معينة كانت وراء فشل انطلاقها وتفعيلها، بعد ذلك بسنتين (2006)، كرافد من روافد انبعاث الريف في جانبه التاريخي والثقافي وحفظ الذاكرة المشتركة، وتأسيس مركز للدراسات في تراث الريف؛ والمساهمة بصفة عامة في التنمية الشاملة للمنطقة، وجمع ما وسع له من الجهود المشتتة في ميدان الذاكرة التي تعزز المواطنة. فقد كان وراء ذلك الفشل أبناء منطقة الريف كفاعلين، أو مفعول بهم.
والبعض من أبناء هذه المنطقة الذي سعى إلى إقناع رئيس المؤسسة، المرحوم سعيد الخطابي، (توفي في نونبر 2007) بتجميد المؤسسة تصرف بغفلة العلماء، وبذهول الخبراء. أما البعض الآخر، الذي أثر على سعيد الخطابي لكي يقرر التجميد بدل التفعيل فهو أيضا من أبناء الريف الذين توهموا أنهم بعملهم المؤدي إلى منع قيام المؤسسة بدورها يجلب لهم رضى جهات نافذة في دوائر المخزن، أملا في أن تخول لهم زعامة المنطقة. ومما لا شك فيه أن أفرادا آخرين من الريف يمكن أن يكونوا قد وظفوا من قبل جهات معروفة بعدائها للريف وللخطابي ولتراثهما الذي يزعجهم أياما إزعاج. فتلك الجهات مشهود لها بالمكر والمناورة. وهي نفس الجهات التي بذلت كل أنواع المكر والخبث للالتفاف على مشروع متحف محمد عبد الكريم الخطابي الذي كان المؤرخ الأستاذ أحمد الطاهري بصدد إنجازه في مقر وبيت الأمير بأجدير. إمعانا، من تلك الجهات، في تشويه أو محو ذاكرة أحدى أعظم لحظات تاريخ الريف والمغرب في العصر المعاصر.
لكن، وبالنسبة لفشل تفعيل المؤسسة على الأقل، يجب الاعتراف من جهتي بصفتي فاعلا وشاهدا في الوقت نفسه، فقول: إن ما حدث لا ينفي مسؤولية الجماعة التي كانت تجتهد من أجل إحياء المؤسسة وتفعيلها على أرض الواقع، وتوظيفها لخدمة المنطقة، كون تلك الجماعة، لم تكن، حسب ما تبين لاحقا، على معرفة كافية بألغام الحقل الذي كانت تتحرك فيه، وربما تعاملت أيضا مع الأمر بكثير من حسن النية "الشاذة" اليوم في ثقافة التعامل المغربية في زمن الدولة المستقلة. وربما أنها، أي الجماعة، لم تكن تريد بالتالي الالتجاء إلى مسالك تتعارض مع مبادئها وأخلاقها، ولم نكن نعتقد بأن الصراع حول زعامة المنطقة سيتطلب إزاحة الأمير الخطابي من ذاكرة أحفاده. فنحن آمنا، ولا نزال نؤمن، بأن الخطابي رمز ومرجعية لكل المغاربة، بل لكل الإنسانية التي تحترم قيم الحرية والعدالة والكرامة.
ومن الموضوعات السياسية التي جعلت الرأي العام في الريف تزدحم عليه الأسئلة وتختلط عليه ألوان الطيف مشاركة بعض مخططي لقاء الرباط، المشار إليه سابقا، والمستفيدين منه من خلال قيادة جمعية الريف للتضامن والتنمية، بقوة في تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، سنة 2008، دون القيام بوقفة نقدية لمسار ومآل جمعية الريف للتضامن والتنمية، التي تحولت إلى جمعية أفراد بعد أن كانت انطلاقتها تضم أكثر من 200 إطار ينحدرون من منطقة الريف الكبير. مما ترك باب التأويلات مشرعا على مصراعيه.
لقد كان من تأثير تأسيس هذا الحزب من قبل عالي الهمة القادم من الداخلية، بمشاركة قوية من أطر ريفية، أن ضبب أفق كثير من نخب الريف، وشوش فكرهم وذاكرتهم المتعودة على أخذ مسافة فاصلة بينها وبين الداخلية التي لم يروا منها طيلة عقود من الزمن إلا ما ينفرهم منها.
والواقع أن مشاركة بعض الأطر الريفية في قيادة هذا الحزب لم يشوش أولئك الريفيين فحسب، بل جند مختلف الأحزاب الحزبية إلى التوجس خيفة من ذلك، فقاموا بتصويب أسلحتهم وتوجيه سهامهم نحو أولئك الأطر بصفة مركزة، على الرغم من أن التركيبة العامة للحزب الجديد عبارة عن خليط من المشارب الثقافية والتوجهات والإيديولوجيات السياسية، باستثناء التوجه الإسلامي. ولم تطلق تلك السهام من طرف زملائهم في الأحزاب الحزبية الأخرى فقط، بل جاءت أيضا من قبل جهات تنتمي إلى منطقة الريف ذاتها، لأسباب يصعب الإحاطة بحصيلتها الكلية. لكن يؤسفنا في العمق أن نسجل أن المجادلات بين أبناء المنطقة كانت خالية من خطاب الملاينة والتوافق، الذي هو أساس لتدبير الاختلاف في الرأي، وترسيخ الثقافة الديمقراطية، وتوسيع دائرة الثقافة المدنية في نهاية المطاف. لقد تم التعامل في تدبير الاختلاف تعامل أصحاب العقائد الدينية مع مخالفيهم من العقائد الأخرى زمن التقوقع والانغلاق، وفاتهم أن السياسة لعبة، كلعبة كرة القدم مثلا، أو كلعبة الحكم والمعارضة في الدول الديمقراطية، لها قواعد من وضع البشر تتغير وفقا لسنة التطور، وتتجدد بتجدد الزمن وطموحات الإنسان، وليست عقائد سرمدية. لكن البعض لا يزال يفضل ممارسة السياسة على طريقة بطلة رواية "الأم" لمكسيم كَوركي، التي تحولت من المسيحية إلى الشيوعية؛ ولكنها راحت تمارس معتقدها الجديد بالطريقة نفسها التي كانت تتعامل بها مع الطقوس الدينية.
ومن الأمور التي يمكن الإشارة إليها كذلك، والتي يعكسها النقاش الدائر بين المنتسبين إلى منطقة الريف، والقلق على المستقبل هو الإحباط الكبير الناجم عن تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية، القاضي بإلحاق الريف بجهة الشرق. حيث اعتبر هذا الإلحاق تعسفا ليس على ما هو مأمول من الجهوية التي انتظرها الريفيون طويلا للمشاركة في تسيير شؤونهم المحلية فحسب، وإنما على التاريخ أيضا. وتتساءل الساكنة بأي منطق يقزّم الريف في أقاليم الحسيمة وادريوش والناضور فقط؟ ولماذا تم سلخ اكّزناية من الريف اللغوي والاجتماعي؟ وما معنى إلحاق الريف الغربي، الذي يعد مجالا تاريخيا للريف الكبير بجهة طنجة تطوان.؟ وهل يفهم من هذا الطرح وإلحاق ما تبقى من الريف الكبير بجهة الشرق ضدا على معايير الانسجام الاجتماعي والثقافي والإثني، التي تعد الأساس في تدبير الجماعات الترابية في العالم كله، تقرر بسبب الجانب الأمني المتوهم أو المتخيل من قبل خلايا الحرس القديم المتجدد؟ ثم ما حقيقة ما يتردد بوجود خطط لاستمرار"تركيع" الريفيين بواسطة ريفيين حلوا محل صاحب العمامة البرلمانية الشهير، وهل هناك فعلا عراقيل أمام مستثمري المنطقة كي لا يستثمروا في مناطق الريف كما يشاع؟. هناك، إذن، سيل من التساؤلات التي يمكن اختصارها في سؤال واحد، وهو: هل عادت حليمة إلى عادتها القديمة؟؟
إلى جانب ذلك يصعب تحديد الأسباب التي تقود الجميع: لجنة الجهوية، ساكنة المنطقة، وشرائح من ساكنة منا طق وجهات أخرى إلى التمرغ في افتراضات يحاول ناشروها أن يجعلوا منها حقائق نهائية. فإذا كانت هناك فئات عريضة من ساكنة الريف تقرأ إلحاق الريف بجهة الشرق كإحدى الأدلة على النكوص عن الأمل الموعود بتحقيق الحكم الذاتي للمنطقة، فإن شرائح كثيرة من خارج المنطقة لا تتوانى عن "استنكار" محاولة الروافة "الاستقلال عن المغرب"؛ وهم يعتبرون المطالبة بالاستقلال الذاتي مجرد حيلة للانفصال. ولا نعرف على وجه اليقين من يغذي هذه التكهنات والإشاعات التي تؤلب جزءا هاما من الرأي العام المغربي ضد طموح يعتبر الأنجح في أكثر الدول تقدما في الاقتصاد، وفي مراقبة الحكومة المركزية ومساءلتها، وتحقيق المواطنة الكريمة، وتعزيز وحدة الأمة والتراب الوطني؟
ولا نريد أن نعتقد بأن عبارات "أولاد صبنيول" التي لا يزال يرددها بعض أعوان الأمن المستقدمين إلى المنطقة، وعبارة " ماذا يريد الريفيون" التي تكررها بعض الصحف الشعبوية بدون ملل ضد المتظاهرين والمحتجين في المنطقة تعكس إلى حد بعيد ما يلقن من قبل بعض الجهات، ثم يروج للتشكيك في مغربية أهل الر يف. لكن، ألا يحق لنا أن نسأل، وإصرار، لمصلحة من يُنجز كل هذا، وهل الذين يقفون وراءه مغاربة حقا؟؟؟
مسؤولية أبناء المنطقة إزاء مستقبل الريف
هناك قضايا أخرى قد لا تقل أهمية وخطورة في إثارة التوتر لدى ساكنة الريف عن مستقبل منطقتهم؛ وهو توتر إيجابي، حسب اعتقادنا، إذا كان يرمي إلى البحث عن الحلول الملائمة لها، وقد يتحول إلى قلق يؤدي إلى مزيد من الاضطراب والتخبط دون الوصول إلى الحلول الناجعة أو المأمولة، بل قد يتحول إلى حالة مرضية يصعب الشفاء منها في الأفق المنظور. لكن، لا نريد أن نسترسل في الخوض فيها الآن كي لا نزيد الصورة الحاضرة ضبابية تروع كل من يفكر في مستقبل أفضل. كما أننا لا نريد أن نعفي الذات (أبناء المنطقة) من المسؤولية عما حدث ويحدث في منطقتها باللجوء إلى أسلوب حيل الخداع السيكولوجية، كأن نريح أنفسنا عن طريق إقناعها بتحميل المسؤولية للآخر أو للمجهول.
فواقع حال منطقة الريف أشبه بحال من يخطط لإنشاء صناعات كبرى في منطقة لا يوجد فيها البنية التحتية التي تساعد على تصريف منتوج تلك الصناعات، أو استمرارها لخلق الرفاه الاجتماعي للمنطقة الذي وجدت من أجله. غير خاف القصد بهذا التمثيل. فالريف اليوم، وبفضل إرادة ونضال أبنائه وبناته، يتوافر على أطر تتميز بالكفاءة، كل في مجال اختصاصه، وقد أبان كثير منهم على مهارة عالية في المهام التي أسندت إليه. وقد سمح العقد الأخير بخاصة من إبراز ذلك بدون مواربة. لكن ما يجعل أولئك الأطر دون مستوى طموحات منطقتهم هو عدم تمكنهم إلى الآن من تكوين نخبة أو نخب فاعلة يضمها الفكر الجمعي قبل العواطف الجماعية. وسيكون مفيدا أكثر لو تآلفا معا؛ لأن دور الأفراد مهما عظُم هو دور محدود في الزمن، لا يمكن أن يكون بمثابة بنية تحتية اجتماعية ناجعة في المجتمعات المدنية المعاصرة، كون ذلك من خاصيات المجتمعات القبلية والعشائرية. أما المجتمعات المدنية، في الوقت الذي يبقى فيه دور الجماعة مستمرا متناميا بمرجعياته، موظِّفا تراكماته وتجاربه الميدانية، متجاوزا بذلك عثراته الظرفية وتحديات الآخرين. وهذا ما نلحظ نقصانه على ركح ومشهد أطر الريف إلى يوم الناس هذا. ومن هنا فالمنطقة في حاجة ماسة إلى من يلم شتاتها ويلحمها في جذع مشترك متين، يستطيع أن يقاوم عواصف السياسة السياسوية، ويقف ندا إيجابيا إزاء الفرقاء الآخرين المكونين للمشهد العام للمغرب.
وما نلحظه أيضا في هذا الشأن ضعف التواصل بين هؤلاء الأطر. فالاختلاف في الرأي سرعان ما يتحول إلى خلاف عميق يتحصن ب"تغنانت"، وبسلوك إقصائي عنيف للمختلف معه في الرأي. وهو ما يتناقض جملة وتفصيلا مع ألف باء احترام ثقافة التعدد وأبجدية الثقافة الديمقراطية، ويزيد في تشرذم ما هو مشرذم أصلا. فقد تناهى إلى علمنا، أثناء ندوة في الحسيمة في الصيف الماضي، أن عدد الجمعيات الموجودة في الريف بلغ 2500 جمعية. وقد عد البعض أن ذلك علامة صحية من أجل تأطير المجتمع. ولكننا علمنا أيضا ولاحظنا كذلك في أكثر من مناسبة أن تلك الجمعيات قلما يستجيب بعضها لحضور أنشطة البعض الآخر ولو من باب المجاملات البروتوكولية، كما هو معمول به عند كل من لديه أدنى احترام للتعدد والاختلاف. فما تفسير هذا السلوك الذي يسميه البعض "تسجيل موقف نضالي" عندما يقف على طرف نقيض من المختلف معه، بل أكثر من ذلك، فغالبا ما يكون الاختلاف مصحوبا بجملة من المآخذ القاسية، وبحزمة من الأقاويل تفوق ما قاله مالك في الخمر، كما يقول المثل الدارج، وتأخذ أحيانا طابع "ريفوبليك" جديد، وكأننا نُشهِد التاريخ علينا بأنه لا يحق لنا أن نكون ورثة محمد بن عبد الكريم الخطابي ورفاقه الذين قضوا ذات يوم من الانبعاث الحقيقي على تلك ظاهرة ريفوبليك في صورتها القديمة؟؟؟
ويعرف المغاربة، وبصفة خاصة سكان الريف، الاختلاف الذي حصل بين إطارين منحدرين من منطقة الريف الذي تحول إلى معركة كانت حصيلتها إسقاط أحدهما من رئاسة حزبه ومن رئاسة غرفة برلمانية. وما يجري حاليا بين مسؤوليْن ريفييْن في إقليم من أقاليم الريف ليس له ما يبرره، لكن سيصنف بلا شك في الفشل المتتالي لأبناء المنطقة في السعي لتحقيق الآفاق المشتركة، بغض النظر عن اختلاف الوسائل المؤدية إلى ذلك. ألا يؤدي ما يحدث إلى إضعاف الذات الجماعية بكسر طموحها إلى تكوين نواة قيادية حكيمة تتميز بالرأي الحصيف قبل شجاعة التجديف وإتقان لغة الأراجيف؟ إن الناس يدركون أن هناك فرقا واضحا بين القيادة والانقياد، كما أن هناك فرقا شاسعا بين "أنا المحور" وبين من يعمل من أجل "نحن الجمعية" ويؤمن بأن يد الله مع الجماعة، وأن الجمع يزيد، وأن الطرح يُنقص.
في تلمس ميلاد لحظة الوعي الجاذبة إلى الأمام
أعتقد صادقا أن لحظة وعي جذابة إلى الأمام يمكن أن تولد، لكي يتعزز ما نحن جميعا حريصون على الحفاظ عليه شامخا شموخ جباله، منتصبا كقامات أبنائه، حاضرا بأمجاده، مبشرا بآفاق مستقبله الواعدة، محاطا بالضمير الجمعي لساكنته في ظل وطن لن يقبل عن الحرية والعدالة والكرامة بديلا.
وأنتهز خاتمة هذه الارتسامات، التي أرجو أن يعذرني كل من يرى أنني لجأت إلى بعض البوح المحرج بصوت مسموع أكثر من المألوف، أن أجدد الشكر للأستاذ الصديق عبد السلام بوطيب الذي أثارتني أسئلته المرفقة لدعوته، المشار إليها في بداية هذه الارتسامات، لأن الموضوع الذي طرحه موضوعا جادا وليس بهزل الصيف فيما أعتقد وأرى. وأتمنى عليه أن يتولى المركز الذي يرأسه، بوصفه رئيسا لمركز لا يهتم بالذاكرة والديمقراطية في الوقت ذاته، إعادة صياغة الأسئلة التي طرحها صياغة موضوعاتية ومنهجية بطريقة استجواب، ثم ترسل إلى الباحثين والكتاب ومفكري المنطقة، قصد الحصول على آرائهم التي يمكن أن تؤلف في النهاية مرجعا مساهما في تجاوز الحالة التي دفعته إلى طرح سؤاله المركزي "ما العمل؟" على أن ينشر تلك الإجابات في عمل مشترك، أو في دراسات متفردة حسب موضوعاتها. وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وأن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض حتما، شرط أن نعرف سويا ومعا ما ينفعنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.