حينما أقرأ مجلات العقود الماضية، سنوات التسعينات بالضبط، أجد فيها من حكايات طلاب الجامعات وإنجازاتهم العلمية والفكرية والثقافية ما يجعل الحنين ينتابني لأكون طالبا. الطالب الذي ينتابني الحنين إليه ليس شخصا حصل على شهادة الثانوية وانتقل إلى الجامعة وبدأ حياة جديدة من العيش بمفرده أو رفقة الطلاب الآخرين بعيدا عن منازلهم وذويهم فحسب، وإنما أتحدث عن الوزن الثقافي، والفكري لطلاب الجامعات بين الأمس واليوم، فما أحوج زماننا إلى طالب مثقل بالكتب، أينما حل وارتحل تجده يبحث بنهم شديد ويلتهم المعرفة بكل ما أوتي من قوة، دعنا لا نقتصر على عبارة "مثقل بالكتب" كي لا يعاتبنا قائل بقوله إن الطالب الجديد أيضا أصبح بإمكانه تلقي المعرفة أينما حل وارتحل عبر وسائل متعددة ومتجددة، ربما قد تكون خيرا من الكتب ولا داعي لربط المعرفة بحجم الكتب التي ترافق الطالب، هنا سأقول إننا بحاجة إلى طالب مثقل بالمعرفة كيفما كان مصدرها، لأن ما يهم فعليا هو حجم المعرفة التي يكتسبها سواء في مجال تخصصه أو في مجالات أخرى موازية وليست على حساب تخصصه، وأن استخدام لفظ الكتب جاء بشكل دلالي فقط لما تحمله الكتب من إشارة مباشرة إلى المعرفة، على الرغم من أن بعض الكتب الحديثة لا علاقة لها بالمعرفة الفكرية، لكنه موضوع مختلف قد يأتي الحديث عنه في سياق مغاير. بالعودة إلى الأحزاب السياسية في زمن الطالب القديم، والمجلات الثقافية، والتيارات الفكرية، والحركات النضالية نجد أن بداية أغلبها كانت على يد طلاب الجامعات، وما مكنهم من تحقيق ذلك لم يكن هو الامتيازات التي يحصلون عليها عن طريق لقب "الطالب"، إنما مكنهم منه حجم حمولتهم الفكرية واهتمامهم بالقيام بنهضة فكرية وثقافية في مجتمعهم، إلى جانب تحملهم مسؤولية النخبة المثقفة التي ينتمون إليها، وهي التي تمنحهم جميع الصلاحيات للمشاركة في صناعة القرار، أما طلاب اليوم، فبالكاد تجدهم يحضرون محاضرات تخصصهم وهم محملين بأحزان وهموم، وكل حديثهم يدور حول الامتحان، باعتباره اليوم الموعود الذي يجهز له الجميع بأعباء من المعلومات، كأنهم دواب تحمل الأسفار نحو وجهة معلومة يلقونها فيها كي تستريح ظهورهم فحسب. طالب اليوم يؤمن بمنطق قطعة الخبز، فيعتبر طلب العلم أو التحصيل الدراسي مجرد وسيلة لتحقيق حلم قطعة الخبز، هذا الحلم الذي جاء نتيجة الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تعرضت لها المجتمعات العربية في الآونة الأخيرة، بينما كان طالب الأمس يكد في طلب العلم لأنه في حد ذاته غاية يجب الحصول عليها كيفما كانت الظروف، فكلما تطورت وسائل التواصل أو وسائل التوصل بالمعلومة تجد مستوى الطالب في تدني معرفي خطير جدا، لأن هذه السهولة ما هي إلا من مسببات الخمول التي يتلقاها العقل البشري، خاصة مع تزايد موجة التشويش على الطلاب التي أصبحت تضعف وزن العلم والبحث والتطوير في مجال تخصص الطالب. من جهة أخرى، أصبح لفظ الطالب يحيل على فئة من المراهقين الحاصلين على شهادة الثانوية حديثا وهم في دوامة من التيه والفشل بين الرغبة في الاستمرار في طلب العلم، ورحلة البحث عن الذات وتحقيق مطالب مادية، فالطالب قديما كان يعتبر رمز النخبة المثقفة التي تساهم أو لنقل إنها ساهمت في نهضة مجتمعات كثيرة في مختلف الأصعدة، أما اليوم فوزن هذه النخبة لم يعد يتجاوز اعتبارها فئة تلاحق الورقة (الشهادة الجامعية) ولا دخل لها في شؤون المجتمع، ولا تطرح سؤال المآلات التي سيؤول إليها، فسقف تفكير طالب اليوم لا يتجاوز الحصول على قدر لا بأس به من المتعة، ولا يهتم بالمشاركة في بناء المجتمع لأنه في الأصل لا يدري أنه يملك سلطة النخبة المثقفة التي تمكنه من مد يده نحو صناعة القرار.