غاب عن عالمناٌ من الصنف النادر، رجلٌ لم يُغره السلطة، ولم يفتنه المجلس. لم يكن لديه رئيسًا بمعنى حفل، ولا بطلًا يُسطّر في كتب السياسة، بل كان ضميرًا يمشي على قدمين، عصر على كتفيه تعب الإنسان، ويمضي في حياته متجردًا من كل زيف. لم يحكم من القصر، بل من كوخٍ بسيط، ومن قلبٍ عرف جيدًا معنى العدل، والكرامة، والصدق. موخيكا لم يكن حدثًا سياسيًا، بل كان شخصًا مشتركًا يتجلى في هيئة بشر. في زمن كثر فيه المتكلمون وقلّ الصادقون، برز صوت موخيكا واضحًا، حادًا، لكنه إنسانيّ بامتياز. لم يهدن في الحق، ولم يجمل في الباطل. تحدث عن الإنسان قبل الاقتصاد، وعن السعادة قبل المال، وعن الكرامة قبل العولة. بدافع أيديولوجي بحت، بل كان يرفض ما يستخدم في آلة لا تعرف الله. على الغنى الفارغ. كان وعيا عميقا بأن الإنسان لا يقدر بما يملك، بل بما يعطي. رفض أن يعيش رئيسًا في برج، ويبقى إنسانًا بين الناس، لأن السلطة في عينه لم تكٕ الإنسان لا يغطيه. برحيله، لا نخسر رجلاً، بل نخسر القيمة. نودّع من جسّد الكلام عن مجرد خطب بلا لاحق. من كان الاختيار عن الحياة كما هي، لا كما تُسوّقها الشاشات. من نظرة أكثر عدلاً إلى الإنسان، أي إنسان. وقالوا لا تجوز الرحمة على خلافنا في المعتقد. لكن الرحمة لا تُقاس بالنص وحده، بل بما لا يعرفه الله من قلوب خلقه. والله أعلم بمن عاش طاهر النية، نظيف القلب، ناصرًا للحق، رافضًا للظلم. من عاش بإنسانيته وماتت عليه، وبما أنه يُرحم عليه، لأن الرحمة واسعة من ضيقنا. وداعاً يا بيبي موخيكا… كنت إنسانًا قبل أن تكون رئيسًا. رجلًا يعيش كما هو، ويعامل الناس جميعًا باحترام، إحترامهم أو مكانهم. لم تكن متعاليًا، ولا يوم مغلقًا على نفسك، بل كنت حوارًا، تصغي قبل أن تتكلم، وتفتح قلبك قبل أن تتحكم. تواضعك لم يكن ضعيفًا، بل كان يمتد لفهمك للحياة. كنت تؤمن بأن الإنسان يستحق الكرامة لمجرد كونه إنسانًا، ولهذا أحبك الناس في كل مكان. رحيلك خسارة، لكنه يترك وراءه مثالًا نادرًا لمن يريد أن لا يرغب إلا أن يكبر. من أجمل ما تركه لنا الراحل … «جميع الكائنات الحية خُلقت لتكافح من أجل البقاء: من الحشائش إلى الضفدع إلى أنفسنا. والخلاصة: هذا الوجود هو لإضفاء نكهة على الحياة».