إلى أي وِجهة تَمضي كتيبة الخراب؟ للسؤال مُسوِّغ عند فلاسفة ما بعد الحداثة، ويحصل الاستدعاء الآن لتيسير فهم لحظة الانعراج المفصلي الذي يعتور "حال كوكب الأرض" بعد أن استحكمت قَبضته قوى الرأسمال بقفازة من حديد، وقَوَّضت توافقات اجتماعه البشري، وهدَّدت مشتركه الجماعي…لم يَعد أمامنا خيارات بديلة، فإما تأمين البقاء، أو تسريع الفناء. حول هذه القضية، يتسلل المفكر محمد منير الحجوجي إلى كشف زيف الاختيارات التنموية بتأليف مرجعي يَحمل عنوان: "إنقاذ الأرض". الكتاب في بُنيانه "بيان" بما تحمل الكلمة من ايحاء عند أهل اليسار.. بيان من أجل الأرض وعناصر استمرار مكوناتها الاحيائية واللااحيائية.. ومن حيث المضمون، صَرخة أنثربولوجية قوية بصوت عالٍ جِدًّا من أجل تشكيل موقف مما يحدث من انهيارات مستمرة ومحاولة لتهشيم أنساق التفكير والبراديغمات المُسَيَّجة التي تهدد العيش البيئي للكائنات الحية. في الكتاب، يَتحدد الأُفق والرهان؛ أُفق الانعتاق من فانتزمات الاستهلاك الرأسمالي الذي يحكم على حياة البشر في أن تدور في حلقة الإشباعات اللامتتهية… ورِهان صياغة رُؤية جَذرية للأشياء تُعري عن جينيالوجيا الشر المستبطن في النظام الرأسمالي. لمجابهة ذلك، يقتضي الأمر إحداث انقلاب جذري في سُلَّم القيم، في سُلَّم الأهداف في الحياة، في منظومة التربية، في العلوم والدين، في التنشئة التي تُهيئ أجيالًا جديدة تحمل فيضًا من القيم والرؤى والأهداف المتصالحة مع الأصل البيولوجي. يتعلق الأمر، ببشرية يعتبرها الحجوجي تمضي نحو صناعة "إقتصاد الكارثة" l'économie de désastre، وقد لا تعي بذلك…لهذا، يستوجب تغيير الأنماط الاستهلاكية بأنماط عفوية للعيش…غير ذلك، سنمضي جميعًا الارتطام بالحائط. والحائط هذه المرة سيكون من نوع خاص، سيكون نسخة / استعادة جذرية للانهيارات النووية. الرؤية واضحة جدا، والتدليل عليها يستدعي استجلاب فرضيات وأطروحات صاغها مفكرون وباحثون يُدرجون ضمن مُصنف "الايكولوجيا السياسية". لا يتردد الحجوجي في وصفهم ب "مُفكري البشرية العِظام". في لحظة تشكيل الرؤية، ينطلق الحجوجي من مؤتمرات حول المناخ والبيئة…طبيعي لمن يتتبع دياكرونية الانعقاد، من سطوكهولم إلى باريس ومراكش وبعدها…أن يقتنع حقيقة بعمق الأزمة…تدميرات متواصلة وغير منتهية، ورهان على تخريجة "استراتيجية النمو"، مع ما يرافق ذلك من تعقب لبعض مسارات رجال/ نساء مفكري البيئة من التنظير نحو العيش وفق المبادئ البيئية الجذرية، وخَتْم بحكايات إنسانية بيئية تُقرب القارئ من ملامسة ما يمكن وسمه ب"الإنسان البيئي". تصورات الايكولوجيين السياسيين للقضية البيئية لا تُختزل في منظورات تقنية معيبة ومبتذلة…السؤال البيئي يقتضي الشمولية لا الاختزال… فالذي يجب تغييره، حسب منطق الكتاب دائمًا، ليس المناخ وإنما الرأسمالية التي بدأت في مسلسل إجثتاتها منذ الثورة الصناعية، بما استتبع ذلك من إستحكام مالي وإديولوجي، وصناعة للإنسان اللاهث وراء الربح الفوري، في تجاهل لما يُحدثه هذا اللهث من تدمير لتوازنات المنظومات البيئية. يَرسم الكتاب سيناريوهين بملامح تتناوب بين التفاؤل والتشاؤم، وتضع القارئ/ الفاعل أمام خيارين: إما تغيير الوِجهة أو الاستعداد للارتطام بالحائط. وتغيير الوجهة ما هو إلا دعوة إلى التفكير في أُفق آخر، في إقتصاد آخر، في أسلوب آخر، في أساليب عيش ممكنة، في ايجاد توازن دقيق جدا بين المصالح البشرية والقوانين الطبيعية. باختصار في التفكير بمنطق مستديم…هي دعوة للإنسان، للروح والعقل والأخلاق، من أجل تغيير رُؤيتنا الجذرية للذات، لموقعنا في الأرض، لواجبنا الأخلاقي، الذي ينطق همسا، بأن نعيش معا، لا على حساب الآخرين ،كيفما كان الآخر، حوتا، بشرا، نملا، باكتريا. يُلح الحجوجي على ضرورة أن يُرفق تصور الكتاب مع دمج "سؤال البيئة" في عُمق النظام العام للأشياء، في ما تفعله الرأسمالية من صناعة للإنسان المُخرب، في ما تعتقده من صعوبة التحكم في الموارد والثروات، دون اخضاع مواز للعقول، للثمتلات، للخرائط الذهنية في الرؤى الأنثربولوجية للعالم.. راهنت الرأسمالية على الاستراتيجيا التالية: تشكيل إنسان لاهث وراء الاشباع، عبر يافظة الاشهار، وإيقاظ إستيهامات التملك والاستقواء وعلياء العظمة، وإحياء الرغبة الأصيلة والواقعية الكونية الدينية للبشرية. بذلك، تُمثل الرأسمالية واحدة من مراحل تطور الميتافيزيقا الغربية، وحلقة تاريخية من حلقات الهيمنة والتحكم في العالم، بأدوات جديدة، وبرغبة في غلق دورة التاريخ…لقد سبق ل "دومنيك كيصادا" القول بمسألة "تحقق الفلسفة داخل الإشهار"، بمعنى استراتيجيا إنهاء الفلسفة ولمشروعها التقليدي، وانقضاض الفلسفة على الأخلاق، الدين، ومصادرة الحق في الوجود.. عَمليا، لتحقيق السعادة يكفيك أن تستهلك، وأن تستهلك إلى ما لا نهاية، حيث الأداة الضاربة للرأسمالية هي الإشهار، الذي يحرك الاستيهامات الغريزية، ولا يُخمدها إلا ليعيد ايقاضها من جديد. لقد تحوَّلت الرأسمالية اليوم نحو إنتاج "سلع عاطفية"، سلع يُحقق استهلاكها أعلى مراتب النشوة، مثل صناعة التجميل الفائق، والسيارات الباذخة، وتكنولوجيات اللهو…وقد حققت نجاحا باهرا حتى وهي في قلب مدن الصفيح والگيتوهات البئيسة، في لحظة تماهٍ مع حاجيات الهوامش الاقتصادية…يَكفي أن نستهلك ونشتري ونُحوِّل الشراء إلى إدمان استراتيجي وايجابي حتى نسعد في الحياة، أو هكذا تُفكر الرأسمالية حينما تلغي كل أشكال الوساطة لصالح علاقة فورية ومباشرة بالسعادة والعالم. مع الرأسمالية لم يَعد من الممكن أو المسموح به فصل الإمبريقي عن المتعالي، والحسي عن المفهومي، والراهني عن الافتراضي، والواقعي عن المتخيل…بسبب تذويب الرأسمالية للمسافة التقليدية التي رسختها الفلسفة والدين. عُمومًا، يتوقف الكتاب عند صخب التصورات الكبرى التي تَرهن التفكير في الراهن البيئي، من خلال استعراض تصورين أساسيين: تصور جَذري، وآخر اصلاحي. يَشمل الأول ثلاث مواقف رئيسية: 1- أتباع النسوية الايكولوجية الذين يعتقدون أن أصل الشر يوجد في النظام الباطرياركي الذي يُسوغ استغلال النساء من طرف الرجال؛ 2- رواد الايكولوجيا الاجتماعية وأيضا السياسية الذين يعتقدون أن جذر الشر يكمن في التراتبية الاجتماعية، إذ تتيح البنيات السلطوية نهب بعض البشر للآخرين، مع ما يخلفه ذلك من إتلاف وايذاء للكائنات غير البشرية؛ 3- الايكولوجيا الإصلاحية التي لا ترى أن لا نفع وراء الجري خلف الجذور، وأن المشكل لا يوجد لا في المركزية البشرية، ولا في النظام الأبوي، ولا في البنيات، ولا في الممارسات الاستبدادية، وأنه يكفي تغيير السلوكات الفردية والجماعية، وإحداث تقب في منظومة التربية التدميرية. قوة الكتاب تأتي من الفكرة التالية: "من يبتغي علاج الأزمة الايكولوجية بخفض انبعاثات الغازات السامة ،كمن يريد علاج السرطان بأدوية مُهدئة للحمى…". في الحقيقة، اللامبالاة هي سَرطان العصر الجديد، هي أكثر ما يُقربنا نحو الهاوية، النيران تتقدم من كل صوب، وكولبري/ طائر، واحد لن يقدر على أي شيء…هذه في فكرة الحجوجي باختصار شديد. لا أمل في تحقيق أي شيء بلا رغبة عميقة في المستقبل، فكل ثانية نُهدرها تضعنا أمام حظوظ كبيرة للارتطام بالحائط، والتشاؤم هنا مِفصلي وحيوي جدا، فهو الذي يسمح بالفهم، بينما التفاؤل يقتل الفهم، ويَمنحنا فهما مُشوَّهًا كما قال جان بوديار…"لا يجب أن نُعول على الفوق، على السياسيين، هؤلاء مشلولون تماما، لأهم يظهرون في المنتديات، كما لو أنهم غير مفوضين من طرف البشرية لاتخاذ القرارات الشجاعة، لقد مات السياسيون، لنتركهم إذن لرغبتهم في القفز إلى مزبلة التاريخ، ونبدأ العمل هنا والآن، لنستلهم حكمة طائر الكولبري، ونحاول القيام بما يستلزمه جزؤنا من المسؤولية". لنبدع أساليب حديثة جديدة في النضال، في التغيير في أساليب، يجب أن ننطلق من التحت، من الفرد، من العائلة، من الحي، من المدينة، من المدرسة، لنطلق مثلا حملة نحو "أكل طبيعي كامل في مدارسنا". من مؤلفات محمد منير الحجوجي: 1- المعارف السبعة الضرورية للتربية المستقبلية لإدغار موران، توبقال 2002. 2- الفكر الجذري لجون بوديار، توبقال، 2005. 3- فشل اليسار لألان باديو، توبقال، 2010. 4- طريق الحداثة وأشواك العولمة، التوحيدي، 2013. 5- القوات الإديولوجية المسلحة، وجهات نظر، 2015. 6- انقاد الأرض، دار القلم، 2016.