أكتب هذا النص لا بدافع التنظير، بل لأن العالم من حولنا يشهد تحولات خطيرة تكشف المستور وتختبر القناعات. حروب تندلع، شعوب تُباد، وقيَم كثيرة تتساقط تحت عجلات المصالح والهيمنة. الغرب الرسمي – الذي طالما صدّر نفسه كوصي على "الحرية" و"العدالة" – يقف اليوم إلى جانب الإبادة، يعمّق العدوان، ويُشَرْعِن الجبروت، دون خجل أو مواربة. في هذا السياق المأزوم، أجدنا نحن – في العالم العربي والمغاربي خاصة – لا نزال نعيش نوعًا من الانبهار الانفصامي، أو لنقل "الانبهار الاسكيسوفريني" بالغرب: نُدين أفعاله أحيانًا، ولكننا نبرّرها داخليًا. نشجب سياساته، لكننا نُقلده حتى في طريقة نطق الكلمات. نستهلك منتجاته، أفكاره، وسلوكه، كما لو أنها الحقيقة الوحيدة القابلة للتصديق. إنه تفكير بصوت عالٍ، لأن السكوت عنه صار تواطؤًا. ولأننا، رغم كل شيء، لا زلنا نملك القدرة على التمييز بين الإعجاب الناضج... والانبهار المَرَضي. من المؤسف أننا في مجتمعاتنا العربية، والمغربية بتنوعها الثقافي والعرقي( الأمازيغي، العربي، الإفريقي، الحساني، الموريسكي الأندلسي..) الغني ، نُعاني مما يمكن تسميته بمتلازمة "الانبهار الأعمى بالغرب". حالة نفسية فكرية نُصاب بها حين نفترض، بلا تردد، أن كل ما يأتي من "هناك" هو أرقى، أذكى، أجمل، وأكثر تحضّرًا. وكل ما ننتجه نحن، من أدب وسلوك وسياسة وفكر، هو، في أفضل الأحوال، محاولة متعثرة لا تُقارن بما يصنعه الآخرون. كل شيء في الغرب جميل فقط لأنه غربي. حتى القهوة لها نكهة أفضل إن كانت في كوب مكتوب عليه Café au lait. الرواية الأجنبية، ولو دارت حول طنجة الدولية، تُقرأ وكأنها كشف وجودي. أما الرواية المغربية، حتى وإن حفرت عميقًا في التربة النفسية والاجتماعية، فنشكّك فيها: "هل قلد نجيب محفوظ؟"، "هل قرأ سارتر؟". دائمًا هناك بحث عن أثرٍ أجنبي يبرّر الإعجاب، كأن الجَمال لا يُنتَج من داخل الذات، بل يحتاج ترخيصًا ثقافيًا من الخارج. تحفة فنية للرسام الكوبي العالمي سالفادور غونصاليص إسكالونا في حي شعبي وسط هافانا نحن لا نُجيد تسويق أنفسنا، نعم. ولكن الأخطر أننا لا نُجيد حتى تصديق أنفسنا. نحتاج دومًا إلى ختم غربي على جبهات أفكارنا، كأن أصواتنا لا تُسمَع إن لم تمر عبر "فلتر" أجنبي. وربما لهذا السبب نرى أن القيم الجميلة لدينا – كالكرم، والتضامن، والحياء، والصدق، والعائلة – لا تساوي شيئًا في ميزان "التقدم" حتى تُعاد تصديرها إلينا من جامعات الشمال تحت مسمى: "intelligence émotionnelle"، أو "cohésion sociale". السياسة؟ الديمقراطية أجمل عندما تمارسها السويد، حتى إن كانت باردة كطقسها. أما في المغرب، فكل تجربة سياسية تُختزل في سخرية جماعية، وكأن التغيير لا يمكن أن يولد هنا إلا إذا جاء محمولًا على ظهر بعثة أممية أو موقّعًا من منظمة "دولية" – تلك الكلمة السحرية التي تُسبغ المشروعية على أي موقف، فقط لأنها تأتي من هناك. ولأنني عشت في الغرب، واختلطت بجميع طبقاته ونُخَبِه، أزعم أن نظرتي ليست عاطفية ولا عدائية. رأيت الحضارة، نعم، لكني رأيت أيضًا الزيف، والفقر، والعنصرية، والفراغ الوجودي الذي لا تلتقطه الكاميرات. رأيت أناقة في السلوك، ووقاحة مُقنّعة بابتسامة. رأيت دقة في العمل، وبلادة في الروح. رأيت مجتمعات تشتغل، نعم، لكنها لا تحلم دائمًا. المفارقة أن كثيرًا من الغربيين يُبدون فضولًا واحترامًا لثقافتنا حين نُظهر اعتزازنا بها. بل يشعرون بالراحة عندما نقابلهم بهويتنا، لا حين نقلّدهم بنسخ باهتة. أما نحن، فنتلعثم حين نتحدث بلغتنا، ونشعر بعارٍ داخلي إذا ارتدينا لباسنا التقليدي، ونُسارع لتبرير أي نجاح محلي بأنه "متأثر بالغرب"، وكأن العبقرية لا تُولد إلا في الشمال. وهنا تكمن المأساة: لسنا فقط منبهرين بالغرب، بل فقدنا الثقة في قدرتنا على إنتاج قيمة أو فكر أو حسّ جمالي مستقل. لم نعد نرفض الرداءة لأننا نعرف معناها، بل لأن مصدرها محلي. ولو صيغت نفس الرداءة بلهجة فرنسية أو إنجليزية، لانقلبت في وعينا إلى "نص تجريبي"، أو "أسلوب حداثي". نحتاج اليوم إلى نقد هذا الانبهار المرضي، لا لننكر فضل الغرب في ما أنجز، بل لنعيد الاعتبار إلى ذواتنا. الغرب ليس شيطانًا ولا ملاكًا. هو فضاء له إنجازاته وله أمراضه، شأنه شأن أي حضارة. أما نحن، فمشكلتنا أننا لا نرى أنفسنا إلا من خلال مرآته. فلنحترم عقولنا، ولنمنح الجمال فرصة أن يتكلم بلغتنا، لا بلكنة مُستعارة..